في العمق

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
مآلات تطبيع الفقه مع السياسة
 المستبدّ العادل
أفكّر مرّة بعد مرّة في حديث النّبي صلّي الله عليه وسلّم الذي قال فيه:«لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها وأولهن نقضاً: الحكم، وآخرهن الصلاة»[1]، وكنت أرى أن فقهاء[2]  كثيرين يفسّرون ذلك بأنّ نقض الحكم في الحديث هو الحكم بغير ما أنزل الله. وهذا وإن كان لا شكّ في صحّته إلاّ أنّه آخر ما ينقض في الحكم، فالحكم عمليّة في غاية التّعقيد والتّركيب، فلا تنقض دفعة واحدة، وبالتّالي كنت استنتج أنا من الحديث أنّ نموذج الحكم الإسلامي قد تمّ تجسيده بشكل عمليّ كامل في عهد النّبوة واستمرت الخلافة الرّاشدة علي نفس النّهج وأنّ بداية الانتقاض الفعلي منه ستكون عمليّا في سياسة اختيار الحاكم - حتّى وإن حكم بما أنزل الله - فهو العمل الجماعي الأكبر والنّاظم للأمّة كلّها، وذلك ربّما يؤيّده حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تكون النّبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النّبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلكا جبريّة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النّبوة ثمّ سكت».[3]  فبداية انتقاض الحكم هو التّغلب بالقوّة الجبريّة على فرض الحاكم على الأمّة. والفقهاء يشدّدون بالوعيد على من أمّ قوما وهم له كارهون، مستندين إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتّى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون»[4]، وذلك في الصّلاة فما بالنا بالحاكم الذي يحكم القطر كلّه ويتقلّد أعلى المناصب وأشدّها حساسيّة. من يومها نبتت نبتة الاستبداد السّياسي في الأمّة، حتّى ولو كان هناك من يسمّيه بالمستبد العادل [5] فلا يبرّر وجوده أبدا معرفيّا بالتّنظير والتّأسيس بتطبيع الفقه مع السّلطة، والذي من مآلاته تعطيب الحياة السّياسية بأكملها، فحقائق التّاريخ أثبتت أنّ نبتة الاستبداد إن تركت ستتحوّل إلى شجرة حنظل في حلوق الشّعوب بل إلى رصاص يفتك بأفئدتها. 
التطبيع والتعطيب 
 التّطبيع مصطلح سياسي يراد منه تذويب الفوارق وإزالة الحواجز النّفسية بين طرفين ممّا يجعلها طبيعيّة، مثل المشاركة في المشاريع والمبادرات والأنشطة والتّعاون العلمي أو الفنّي أو المهني. وهو مرتبط في ذهن المثقف العربي بالتّطبيع مع الكيان الصّهيوني الغاصب لأرضنا المقدّسة وهو العدو الأول في المنطقة للشّعوب. وكان من يلجأ لمجرد التّلميح بقبول التّطبيع معه تحت شروط في السّابق يعدّ من الخونة، ونظرا لأنّنا في عصر انقلاب المفاهيم، أصبح من يصرّح بالتّطبيع دون شرط أو قيد هو البطل الفذّ والقائد المغوار. لكن الذي مهّد لهذه الشّجاعة لدرجة الإعلان في وسائل الإعلام هو تطبيع الفقه مع السّلطة منذ زمن بعيد، زمن انتقاض الحكم كعروة كبرى من عرى الإسلام، حتّى وصل الحال إلى انحسار الدّين في الأمور الشّخصية وربّما الشّخصية الفردانيّة الحقيقيّة فقط، أي دون دخوله أيضا في مساحات الأمور الشّخصية الاعتباريّة، مثل الزّواج والطّلاق والميراث. وبدأنا نسمع صيحات من مؤسّسات دينيّة تكاد تقول أنّ الدّين هو ما تقرّ به السّلطة أنّه دين، حتّى ربّما وجدنا في نهاية النّفق من يبرّر ويمجّد ويبارك التّطبيع مع الكيان الصّهيوني. ومنذ أن تمّ تطبيع الفقه مع السّياسة تمّت التّضحية بالعقل في مقابل القوّة، تستطيع أن تقول أيّ شيء ليس له أيّ قيمة لكي تحافظ على الطين أعني «الجسد» كما يقول أديبنا العراقي الرّائع أحمد مطر في قصيدته «الأرمد والكحال»:
«هل إذا بئس كما. قد عسى لا إنّما. 
من إلى في ربّما.
هكذا سلمك الله قل الشّعر، لتبقى سالما.
هكذا لن تشهق الأرض، و لن تهوي السّما.
هكذا لن تصبح الأوراق أكفانا، ولا الحبر دما.
هكذا وضح معانيك، دواليك دواليك، لكي يعطيك وإليك فما.
وطني يا أيّها الأرمد، ترعاك السّما، 
أصبح الوالي هو الكحال، فابشر بالعمى...» 
 باطن اللفظ السّياسي 
 حين يكون التفكير والتأمل في نصّ ديني فينبغي أن تحمل لفهمه الألفاظ على ظواهرها ابتداء إلاّ أن يأتي صارف من الشّرع يصرفها عن الظّاهر، وهذه بالفعل قاعدة أصوليّة متينة، لكن حين يكون التّفكير في شأن سياسي (تقدير المصلحة والمفسدة)، فينبغي أن تقلب المعادلة خصوصا حين يكون الاستبداد هو سمة السّلطة،  فكيف يتمّ التّعامل مثلا مع الذين يتبنّون فكرة التطبيع الكامل والمجاني مع إسرائيل كمسلمة كبرى للتّسوية ولا تعني التّسوية المساواة بل الانبطاح أي التّسليم غير المشروط لشروط القويّ غير الأمين، خصوصا أنّ ذلك يأتي في الذّكرى الخمسين لاحتلال القدس والمسجد الأقصى فيكون جزاء الأرض المباركة هو مباركة إسرائيل بالتّطبيع الكامل معها وأنّ ذلك هو جواز المرور للدّنيا، أمّا الأقصي فله ربّ يحرّره. والسّؤال الذي يطرح نفسه إن كان يردّد ذلك إعلاميون وأكاديميون فهل هم هؤلاء أصلاء عن أنفسهم؟ أم وكلاء عن آخرين؟ ومن هم الموكّلون؟ وكيف يكون الحال إذا أعلن الموكّلون مثلا أنّهم يحمون الدّين والدّنيا؟، هنا ينبغي أن يعمل العقل في باطن اللّفظ السّياسي ولا يصرف إلى ظاهره إلاّ أن يأتي دليل من الواقع مثلا «بأن لا يوجد فارق بين الحاكم والرّعية في استحقاق الحقوق والواجبات مثل الفاروق» أو«بدحر الأعداء وعدم إلقاؤهم في البحر مثل صلاح الدّين الأيوبي» أو«بصناعة نهضة حضاريّة توقف الغرب عن تبجّحه» ولا يأتي ذلك في مدّة وجيزة، فقد يستغرق أجيالا بأكملها حتّى نستوثق من ذلك. وكيف يكون ثورة على وضع استبداديّ استقر لأكثر من نصف قرن وكانت بنيته التّحتية تبني لأكثر من قرنين فلن يسكت أصحابه، فليس إلاّ التّدبير لثورة مضادّة، وحينئذ يكون من السّفة التّعامل معها بشكل حالم، أو بأخذ اللّفظ السّياسي على ظاهره إلاّ أن تكون طفولة سياسيّة ظاهرة، فلا بدّ حينئذ من قراءة ما بين السّطور وما تفور به الصّدور، وترجمة همس النّاس، وتقديم الشكّ على الثّقة خصوصا لأولئك الذين بأيديهم مفاتيح القوّة. 
ينبغي أن ندرس قوانين الطّبيعة بشكل تطبيقي أكثر فلكلّ ثورة شعبيّة ردّ ثورة استبداديّة مساوية لها في المقدار ومضادّة لها في الاتجاه، فإذا كان النّاس قد خرجوا بسلميّة مطلقة يطلبون «عيش - حرية - عدالة اجتماعية»، وقابلوا الرّصاص بصدور عارية، فلابدّ من وجود ثورة مضادّة ترجع الأمور إلى نصابها، تنادي من بين السّطور «جوع - استبداد - ظلم اجتماعي» وبرصاص يأكل المصلّين. وهذه من وجهة نظري بداية النّكسة وهو التّفكير ضدّ طبائع الأشياء والتّسليم لمن لا تعرفه معرفة دقيقة بحسن نيّة طبعا أو بحمل أمور المسلمين على السّلامة. هذه الصّوفية ربّما تنفعك على المستوي الشخصي لكن في أمور السّياسة فالوضع له مقاييس أخرى. أنظر مثلا إلي تصريحات «هنري كيسنجر» ذلك السياسيّ المخضرم إذ يقول في عزّ ومجد وغلبة أمريكا «إنّه من لم يسمع طبول الحرب تدقّ فهو بالتّأكيد أصمّ».
وإن لم تقلب المعادلة سنذهب لا محالة في نهاية المطاف إلى فقه التّكيف مع السّلطة، لا التّكيف مع سلطة الفقه: فسلطة الفقه هي ما أوصلك إليه اجتهادك بطرق الاستدلال الصّحيحة التي تشبه إلى حدّ كبير طرائق البرهنة في الرّياضيات، فمخرجها واحد وهو المنطق. فإن استطعت الاجتهاد حتى ولو في مسألة واحدة فعليك ذلك، وهي السّلطة التي تمكّن المجتهدين من التّحدث بحرّية في كلّ الأمور حتّى وإن خالفت اختيارات السّلطة، وهي السّلطة الأصيلة في الإسلام كدين، وهي على الضدّ تماما من فقه التّكيف مع السّلطة وهي التي تؤول وتكيّف وتفصل الفقه على مقاسات السّلطة. 
موت الوعي في ظل اختيارات السلطة للمعرفة
مقولة مؤسسة في حرّية المعرفة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه «تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهليّة». وكان الحسن البصرى رحمه الله يقول « العالم يرى الفتنة وهي مقبلة  أما الجاهل فلا يراها إلاّ وهي مدبرة» أي بعد أن تكون الفتنة قد أكلت الأخضر واليابس. لذلك للمعرفة قوّة في فرز الصّحيح من الخطأ وفي تحرّي السّلوك الذي ينبغي أن يؤخذ نحو الغاية، بل ويعد الآن على سبيل المثال اقتصاد المعرفة أحد وسائل الهيمنة والسّيطرة والنّفوذ والتّنافس ولا يقتصر على المعلوماتية الرّقمية فقط بل على الوعي الكامل. وأسوأ شيء يتعلّمه الإنسان من سلطة والديه عليه هو «ينبغي عليك أن تفعل كذا وأن لا تفعل كذا»، فينبغي علينا أن نفتح أبواب المعرفة والنّقاش والجدال بالتي هي أحسن بلا خوف أو قهر ومن ثمّ يختار بحرّية ما يفعله، فأسوأ شيء تورثه السّلطة في صاحبها هو الإحساس بالجبروت وبالقدرة التامّة على قهر من هم تحت سيطرتها أو على فاقدي السّلطة أو بالأحرى على الذين عندهم سلطة لكنّها مبعثرة. وأسوأ شيء يورثه فاقد السّلطة هو الخوف المطلق أو شبه المطلق ممّن يمتلكها أو حتّى ممّن يتوهّم أنّه يمتلكها، حتى يخاف الإنسان من نفسه ومن ظلّه ومن نومه ومن يقظته. 
وما لم يربط الإنسان نفسه ربطا متينا بإيمانه بوجود حساب أخروي على كلّ كسب كسبه في الدّنيا وعمله لذلك اليوم، فإنّه سوف يضلّ في الأولى والثّانية. فحين فكّت العروة الأولى من الإسلام ثبتت السّلطة اختياراتها في المعرفة وعلى الأقل فيما يختصّ بشؤون الحكم فلا وجه للمعارضة، فالسّلطان هو ظلّ الله في الأرض، إلى آخر المقولات التي أدّت بنا في النّهاية إلي عدم تطوير نظريّة للحكم والدّولة بشكل تفصيلي ومنهجي وتوزيع السّلطة في الشّعب وهو الذي أورثنا هذا الوضع الكارثي والذي يرى البعض أنّه لاسبيل لاستصلاحة إلاّ باقتلاعه ولاشكّ أنّه سيكون لاقتلاعه دوي هائل. فبعد انتهاء دولة النّبوة والخلافة الرّاشدة وبداية توريث الحكم وظهور أمور من المفترض أن ينكرها الناس [6]، وتكريس السّلطة في يد الخليفة ليعين من شاء ويعزل من شاء بلا أي رقابة أو ضابط.
نعم لم يكن هناك نظريّة في الإدارة والحكم وشؤونه، لكنّ السّؤال لماذا لم يقبل العلماء وقتها على إنشاء وتطوير مثل تلك النظريات التي تضبط إيقاع السّلطة في المجتمع؟ لماذا لم يطوّر العلماء، وكان عندهم كلّ الأدوات المعرفيّة بل والنّماذج الواقعيّة المصغّرة في الخلافة الرّاشدة، نظاما سياسيّا يعمل كآلية لتداول السّلطة بين الناس كلّ النّاس من فترة لأخرى وبغير اللّجوء للعنف والقتال لانتزاع السّلطة.ربّما كان الهاجس هو الخوف من الدّماء التي تترتّب على ما اصطلح على تسميته «فتنة الخروج على الحاكم الذي ربما جاء للحكم بمحض الصّدفة البيولوجيّة كما يقول عبد الله النفيسي أو لصبيّ لم يبلغ الحلم بعد في مهزلة كبرى»، فلماذا يتّهم الشّعب دوما بالخروج ولا تتّهم السّلطة أبدا بذلك. لكن في كلّ مرّة كان يتمّ الانتصار للصّمت على الأوضاع الخاطئة حتّى ضاعت شيئا فشيئا شريعة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لخاصّة النّاس وعامّتهم «وهو ما يعبّر عنه حديثا بتوسّع في الدّساتير بالحقّ في حرية التّعبير» أو بحجّة أنّ الدّولة يتربّص بها الأعداء من كلّ صوب فلابدّ من التّوحد ونسيان الخلافات، وصارت شرعيّة السّلطة تستمدّ من التّغلب ثمّ يؤسّس لذلك التّغلب فقهيّا بأنّه من مات وليس في عنقه بيعة فميتة الجاهلية «فليس من حقّك أصلا التّصويت بلا» ويحرم الناس حتّى من إبداء الرّأي بشكل علني ومقنّن ومضمون ضد انتهاكات الجسد بعده بحجّة أنّ «الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها»، وأقول كان ينبغي أن يستصحب معها أيضا أنّ الفتنة قادمة رحم الله من نبّهنا لها، ولماذا تكون الفتنة فقط وحصريّا من اتجاه الشّعوب، فهل لا تأتي الفتنة أبدا مثلا من اتجاه السّلطة، أو عليك السّمع والطّاعة لأميرك وإن جلد ظهرك وأخذ مالك ضاربين عرض الحائط بمبادئ ضخام مثل «ألا إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذه». 
والسّؤال هل رسّخت هذه الثّقافة في العقل الباطن للمسلمين حتّى قالها جمال الدين الأفغاني إنّ المجتمعات العربية بحاجة إلى المستبدّ العادل، وكأنّ الاختيارات لا تدور بين الحسن والأحسن بل بين القبيح والأقل قبحا. وإن أردت أن تعجب أكثر وأكثر فقد كان المصلحون ينادون على الفقير «لماذا لا تذهب للغنيّ الذي يمنعك زكاة أمواله فتقطع رأسه بفأسك»، لماذا الجرأة المطلقة في هذا الاتجاه والتّماهي شبه الكامل في الاتجاه الآخر، أم أن الخوف من السّلطة كان ولا يزال هو المحرّك الحقيقي.
التأسيس للدكتاتوريات
كلّ هذا الجوّ الفقهي المتحيّز للسّلطة على حساب الرّأي كان يؤسّس من حيث لا نشعر لديكتاتوريات داخل العقل الفردي أوّلا، ثمّ داخل الأسرة، مرورا بالجماعات السّياسية والدّينية وانتهاء بالدّولة. نمط حياة يحتكر الحقيقة لنفسه فلا يقبل إلاّ بالرّأي الواحد المؤيّد أو المتماهي مع السّلطة غالبا. وحتّى في النّظم الدّيمقراطية أكاد أجزم أن بقاء حزب سياسي واحد إسلامي/علماني في السّلطة أكثر من عشر سنوات يؤسّس لتثبيت أقدام أعضائه في كل مفاصل السلطة وجذب وتوظيف قطاع عريض من الشعب لمساندته، ممّا يضعف المعارضة ضعفا يكاد يحوّلها لمعارضة شكليّة ديكوريّة، ضعفا يكاد يموت الحقّ فيه في مقابل القوّة، ضعفا تتبنّى المعارضة في الباطن قيم النّظام وفي العلن قيم المعارضة والمناوءة، والحالة التي توجد فيها معارضة قويّة تحترم قيم الصّراع السّياسي وتنتهج وسائله السّلمية هي الحالة الصّحية للقوّة. وعكسها يؤدّي في أغلب الأحوال إلي قيام الثّورات وربّما تكون هذه الثّورات عنيفة. ويجادل البعض بأنّ استمرار تدجين الفقه لصالح السّلطة سيؤدّي إلى تجذير أنظمة ديكتاتوريّة لن تقتلع من أماكنها إلاّ بأثمان باهظة خصوصا بعد تعقّد العمران وتشابك المجتمعات، لا سيّما تلك الأنظمة التي تتماس مع الوكيل الحصري لمشغّليها. ما أريد قوله هو الخوف من أن يثبت حزب سياسي إسلامي/علماني نفسه في مفاصل السّلطة حتّى يصبح أقوى من مؤسّسات الدّولة بل ربّما عملت المؤسّسات كجزء منه، وحينئذ لن يترك هذا الحزب السّلطة طواعيّة. والملاحظ لتاريخ الخلافة الرّاشدة يجد أنّ الخلفاء الأربعة أتوا من قبائل متفرّقة وإن جمعهم في النّهاية النّسب لقريش إلاّ أنّه أصبح لكل قبيلة ما يشبه الاستقلال السّياسي حتّى سجّل لنا التّاريخ حروبا طويلة قبل الإسلام بين بعضهم البعض، فأبو بكر من قبيلة بني تيم وعمر بن الخطاب من بني عدي وعثمان بن عفان من بني أميّة وعلي بن أبي طالب من بني هاشم، ولم تكن قبيلتي أبي بكر وعمر بأكبر من بني هاشم وبني أميّة ممّا يدلّ على أنّ الاختيار كان حرّا ولم يكن قبليّا، وممّا يدلّ على ذلك أنّ عبد الرحمن بن عوف بعد موت عمر بن الخطاب وبعد أن استقر الأمر إمّا لعثمان وإما لعلي بن أبي طالب راح يذرع المدينة ويقرع أبواب دورها، يقول ابن كثير: «نهض عبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنه يستشير النّاس ويجمع رأي المسلمين عامَّتهم وقادتهم، جميعاً وأشتاتاً، مثنى وفرادى، سرَّاً وجهراً حتى خَلَصَ إلى النساء المحجَّبات في بيوتهن، وحتّى سأل الولدان في الكتاتيب، وحتى سأل الرّكبان الوافدين على المدينة، أيْ قام باستشارة واسعة جداً، تنفيذاً لقول الله عزَّ وجل: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾، ولم يثبت أحدهم أقاربه في السّلطة كظاهرة، بل لمّا سئل عمر بعد ما طعن أن يجعلها -أي الخلافة - في ابنه عبد الله بن عمر قال قولته المشهورة كفي من آل الخطاب واحدا. بل لم تدم السّلطة في قبيلة في فترة الخلافة الرّاشدة وكانوا يثبتون قيم الحرّية في معارضتهم أو ما يسمّى بدستور «الخروج عليهم» في أشهر مقولاتهم «أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم».
الاشتباك غير الحميد
للخروج من هذا المأزق لابدّ من فكّ الارتباط في الأذهان بين الحاكم وبين المعصوم من الخطأ ومن ثمّ الطّاعة المطلقة، فماذا يحدث لو أنّني انتخبت انتخابا حرّا نزيها مرشّحا رئاسيّا ولم يفز في الانتخابات، لكنّي بعد فوز الآخر أقررت بصحّة فوزه وبأحقيّته في قيادة الدّولة لفترة رئاسيّة وأنّني سأكون داعما له في خدمة بلدي حال أخذه لقرارات سليمة وسأعارضه بأدب الخلاف والاختلاف بين البشر إذا أخذ قرارات من شأنها الإضرار بمصالح البلاد، كل هذا من وجهة نظري ولا شكّ. فهل معنى ذلك أنّ له «أو حتّى للذي انتخبته لو كان قد فاز» في عنقي بيعة مطلقة وعلي أن لا أخالفه متمثّلا قول النبي صلي الله عليه وسلم «... اسمع وأطع وإن جلد ظهرك وأخذ مالك» [7]،  ونحو ذلك أيضا «إن كان لله خليفة في الأرض فضرب ظهرك، وأخذ مالك فأطعه» [8]  وأيضا «... تكون دعاة الضّلالة، فإن رأيت يومئذ خليفة الله في الأرض فالزمه، وإن نهك جسمك، وأخذ مالك، فإن لم تره فاهرب في الأرض ولو أن تموت وأنت عاضّ بجذع شجرة»[9]. أم أنّه عليّ بل من حقّي معارضته بالتي هي أحسن وهو مصطلح ولا شكّ أحسن وألطف وأعمّ ممّا يسمّى اليوم في العرف السّياسي بالمعارضة السّلمية، وخصوصا بعد أن تمّ تقييد صلاحيّات الحاكم في بنود محدّدة بالدّساتير وأصبح الحاكم حديثا «نظريّا على الأقل» ما يشبه الموظّف العام إلاّ أنّ له صلاحيّات واسعة نسبيّا. وقد اشتبك علماء الحديث قديما وحديثا مع الفقرة الموحية بالسّمع والطّاعة حتى مع سلب الأموال وجلد الظّهور دون موجب لذلك، فمنهم من أثبتها ومنهم من نفاها وإن كان الجمهور على تضعيفها إلاّ أنّه يعدّ مثالا جيدا على الاشتباك العلمي الحميد، ومشكلتنا الحقيقية تكمن كما يقول الأديب والكاتب اليمني د. عمر عبد العزيز «في الاشتباك غير الحميد مع تاريخنا الخاصّ، وهو ما أوصلنا إلى اشتباك مواز وغير حميد مع الآخر الإنساني».
الهوامش 
[1]  أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/ 251 برقم 21139 والطّبراني في المعجم الكبير (رقم 7486) وابن حبّان في كتاب التاريخ باب (10) حديث رقم 6715 ر بإسناد جيد عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه 
[2] مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله . م/9  ص / 205.
[3] حديث حسن أخرجه أحمد أبي أمامة رضي الله عنه (30/355 حديث 18406)، والبزار والطبراني في الأوسط (6577).وهو صحيح، انظر (السلسلة الصحيحة) للألباني، ج: 1، ص: 34، حديث رقم: (5).
[4] رواه الترمذي (360) وقال: حسن غريب، وابن أبي شيبة (3/558)، والطبراني في الكبير (8/284ح8090 ، 8098)، والبغوي في شرح السنة (3/404) وحسن الحديث الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/328ح487)
[5] مثل جمال الدّين الأفغاني
[6] كان بالفعل ينكرها البعض مثل الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن الأشعث لكن لم تكن هذه لتكافؤ المد الامبراطوري للدولة. 
[7] حديث حذيفة من طريق أبي سلام أخرجه مسلم في  صحيحه  (12/ 237 ـ238).
[8] أخرجه أبوداود (4244ـ4246)، وأحمد (5/ 386ـ387 و403 )، والبغوي في شرح السنة  (15/8ـ10)، والحاكم (4/432) وصححه ووافقه الذهبي.
[9] حديث حذيفة في مستخرج أبي عوانة الإسفرائيني، وصححة الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 1791 .