الأولى

بقلم
فيصل العش
الليبرالية... والحرية المزعومة
 مقدّمة
مثّلت اللّيبيرالية أهمّ تيار غربيّ اشتغل على مبحث الحريّة خاصّة في المجالات السّياسية والاقتصادية والاجتماعية. وساهمت بشكل كبير في إحداث تغيير عميق وجوهري في النّمط المجتمعي الغربي منذ القرن السّابع عشر(1). 
  وكنتيجة لهيمنة الغرب على العالم ثقافيّا وسياسيّا وعلميّا وتكنولوجّيا، ذاع صيت اللّيبراليّة في أرجاء المعمورة وتحوّلت بذلك من مذهب فلسفيّ سياسيّ في أوروبا إلى تيّار منتشر في العالم يرى فيه النّاس منقذا لهم من الاستبداد ومحقّقا لهم أسباب النّهضة ومرشدا لهم في طريق الحداثة. وقد سوّق لها الغرب بما لديه من إمكانيات هائلة كأرقى إبداع إنساني في مجال الأفكار السّياسية وفي تنظيم المجتمعات حتّى غدت في أغلب مناطق العالم - خاصّة بعد انهيار المعسكر السوفياتي- الأنموذج الوحيد لتسيير الشّأن السّياسي والمجتمعي.
ولم يكن العالم الإسلامي في مأمن من تأثيرات هذا التّيار الجارف، خاصّة بعد فشل محاولات الإصلاح الأولى في تغيير الواقع بآليات فكريّة واجتماعيّة ذاتيّة نابعة من فهم معيّن للدّين من جهة والاحتكاك الحاصل مع الغرب سواء قبل الاستعمار المباشر أو خلاله من جهة أخرى، فانشر الفكر اللّيبرالي في أرجائه وأصبح لديه مناصرون من سياسيّين ومفكّرين عرب ازداد حضورهم بعد فشل التّيار القومي في بناء دولة حديثة، قويّة ومتقدّمة وبعد تحوّل الدّول العربيّة والإسلاميّة إلى مرتع للاستبداد والقمع ووأد الحرّيات.
وببروز ما يسمّى باللّيبرالية الجديدة أو «النّيوليبرالية» حاملة معها مشروع «العولمة»، صارت اللّيبرالية خاصّة في جانبها الاقتصادي إلزاما لا اختيارا وفُرضت على الجميع لا بقوّة الحجّة والبرهان بل بقوّة السّلاح ومؤسّسات المال من جهة والدّمغجة الإعلاميّة والثقافية التي جعلت من اللّيبرالية مرادفا للحرّية والعدل والسّعادة من جهة أخرى.
 لقد سوّقت اللّيبرالية نفسها للعالم بوصفها حاملة لواء حرّية الإنسان وأنّ نظريتها ترتكز أساسا على «الحرّية» كقيمة لبناء المجتمعات والدّول، فهل حرّرت اللّيبرالية الإنسان على مستوى النّظر والتّطبيق؟ أم أنّها اقتصرت على الإنسان الأوروبي لاغير؟ وهل كان حقّا هدفها تحرير الإنسان أم تغيير شكل استغلاله؟
الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها تمرّ عبر عرض اللّيبرالية على عمليّة نقد ومساءلة على المستويين النّظري والتّطبيقي وهو ما سنحاول فعله باقتضاب شديد وفي بعض الجوانب لا غير. ولأنّ اللّيبرالية ليست مذهبا واحدا بل مذاهب متعدّدة وليست نمطا مجتمعيّا واحدا بل أنماط متعدّدة أيضا، فإنّنا سنحاول عدم السّقوط في التّعميم والاكتفاء بنقد بعض العناصر المشتركة بين الصّور المتعدّدة لللّيبرالية وناقشتها. 
احتجاز الحرّية ومسخها
من المغالطات التي تشترك فيها جميع المدارس اللّيبرالية هي دعايتها بتساوي اللّيبرالية والحرّية وعدم الفصل بينهما واختزال الإجابة على السّؤال الذي يتعلّق بمفهوم اللّيبرالية بأنّها «مذهب الحرّية» وهي «دعاية جاهلة تناشز حركة الوعي والتّاريخ البشري، ولا تدرك قيمة المفاهيم المثالية التي تحرّك الفعل الحضاري الإنساني وتحفّزه»(2) ذلك أنّ اللّيبرالية هي مذهب ونمط مجتمعي مرتبط بالتّاريخ والجغرافيا (الواقع) بينما الحرّية هي قيمة مثاليّة كقيم الحقّ والخير والعدل والجمال لا يمكن تجسيدها في شكل واحد محدّد بل هي قيم عليا ومثل مطلقة وأفق تجذب إليها رؤية البشر وحركتهم في التّاريخ، فتضمن بذلك إمكان ارتقاء الوعي والفعل الإنسانيين. فالحرّية هي «دائما في صيرورة مستمرة، فضلا على أنّها مزعزعة باستمرار، مفتقرة الى مزيد من الاستقرار. ومع ذلك فإنّ هذه الصّيرورة نفسها هي التي تخلع على وجودنا معنى، كما أنّ ذلك التّزعزع إنّما هو الذي يكشف عمّا لدينا من امكانيّات لا بدّ لنا من العمل على تحقيقها»(3).
ولو اعتبر أهل اللّيبرالية أنّها مجرّد نزوع نحو المثال لا تجسيدا له لكان خيرا لهم وأقوم، ذلك أنّ زعمهم تجسيد مذهبهم لمثال الحرّية هو في الحقيقة انتقاص ومسخ له، فما بالك باعتبار ذلك التّجسيد هو الوحيد المعبّر عن حقيقة الحرّية بل هو أرقى ما يمكن للعقل البشري أن يصل إليه ولا مجال من بعده إلاّ الإعلان عن نهاية التاريخ (4). إنهم يقومون باحتجاز أبرز المثل الإنسانيّة واحتباسه داخل إطار مذهبي جاهز في الوقت الذي لا ينبغي أن تُختزل «المثل» والقيم العليا في أيّ مذهب جاهز مهما كانت مزاعمه أو حتى قيمته.
ألا يدلّ إعلان اللّيبرالية أنّها الفلسفة السّياسية الوحيدة التي يمكنها حمل مثال الحريّة وتجسيده واقعيّا أن لديها نزوعا احتكاريّا وأنّها بذلك تنفي أحقيّة غيرها من النّظم والأفكار السّياسية في تبنّي مفهوم الحريّة؟ 
إنّ احتكار المعنى سمح للأنظمة اللّيبرالية استثماره باستمرار ضد مخالفيهم والمختلفين عنهم، فوصوفهم تارة بأعداء الحرّية وتارة بغير المدركين لمعناها وتارة أخرى بأنهم ليسوا أهلا لها، والحصيلة استحواذٌ على أحد أبرز المثل الإنسانية واحتكار معناه ولذا قام الاستعمار في الماضي وقامت العولمة في القرن الحالي.
من استعباد الحقل إلى استعباد المصنع 
إنّ الدّارس للسّياق التّاريخي والثّقافي لنشأة اللّيبرالية سيكتشف أنّها لم تكن نتاج نظر فلسفي مجرّد ولم تظهر كحركة تحرير مطلقة محرّكها الأساسي تقدير حرّية الإنسان ذاته وإنّما تلبية لشروط موضوعيّة فرضها التّطور الحاصل في الواقع الأوروبي الذي كان يستعدّ للانتقال من نظام الإقطاع إلى نظام يقوم على التّجارة والصّناعة من جهة والحراك الذي أصاب العقل الأوروبي بفعل انفتاحه على عوالم ثقافيّة جديدة تقع خارج مدار النصّ الكنسي بفعل التنقّلات خارج المجال الجغرافي الأوروبي من جهة أخرى. فـكان لا بدّ من فكرة أو نظريّة تقطع مع حكم الكنيسة وهيمنتها أوّلا وسلطة الحكام المستبدين وسلاطين الجور لضمان الحرّية والأمن الاقتصادي للتجار وأصحاب المصانع ثانيا وتفكيك المنظومة الإقطاعيّة لتحويل القنّ إلى عمّال لتلبية حاجيات المصانع من اليد العاملة ثالثا.
فمع «تطور المعرفة العلميّة حدثت نقلة نوعيّة في كيفيّة التّفاعل مع الطّبيعة أسّست للثّورة الصّناعية، وتحوّلت القوّة التّجارية المتمركزة في المدن إلى قوّة صناعيّة. لكنّ التّصنيع محتاج إلى أمرين أساسيين، فضلا عن رأس المال الذي كان متوفّرا بفعل الحركة التّجارية، هما: المعدن والقوّة البشريّة.
أما من حيث المعادن فقد تكفّلت الاكتشافات الجغرافيّة بفتح الطّريق أمام أكبر حركة نهب شهدها تاريخ الإنسانية! لكن من حيث القوّة البشريّة، فقد كان ثمّة مانع ثقافيّ ومجتمعيّ يعوق توفّرها، وهو النّظام الإقطاعي الذي كانت فيه القوّة البشريّة العاملة في الحقل، قوة أقنان مشدودة إلى الأرض تعيش بين سياجاتها، وتعمل فيها، وتدفن بداخلها.بمعنى أنّ النظام الإقطاعي الأوروبي كان عائقا يعترض حركة القوة البشرية وانتقالها من الحقل/القرية إلى المصنع/المدينة؛ فكان لا بد من تفكيكه بنقض نظام القنانة وتحرير القنّ ليتمكن من الانتقال إلى المدينة.
وهنا كان لابدّ للفكر من توظيف «الفكرة المثاليّة»، ليتمّ اجتذاب الوعي والفعل ليكسّر نظام لحظته، فينتقل إلى نظام بديل، فكان المثال هو «الحرية» التي سيتمّ تقديمها بمدلول خاصّ يتناسب مع الظّرف التّاريخي والحاجة المجتمعيّة الوليدة، فوُلدت مقولة الحرّية بمدلولها اللّيبرالي كتحرير للقنّ ليتحوّل إلى عامل.
وبذلك فاللّيبرالية لم تنشأ كتوكيد لحرّية الإنسان، بل كتوكيد للحاجة إلى استغلاله بطرق مغايرة للاستغلال القناني، أي بطرق جديدة تناسب الثّورة الصناعية» (5) .
اللّيبرالية ليست - إذا حسب هذا الرّأي- في جوهرها تحريرا للكائن الإنساني إنّما هي تغيير لنمط استغلاله، بحيث تمّ إخراجه من سجن الإقطاع ليلج في سجن جديد اسمه المصنع. لكنّ المدافعين عن اللّيبرالية يعتبرون هذا الرّأي تأويلا في غير محلّه وانتقاصا من حقيقة الثّورة التي حقّقتها اللّيبرالية في اتّجاه تحرير الإنسان. غير أنّ الأدلّة عديدة تؤكّد صحّة هذا التّحليل، فكيف نفسّر استعباد شعوب أفريقيا واستعمارها ونهب مقدراتها وكيف نفسّر الإبادة التامّة لسكّان أمريكا الأصليّين، ألم يكن ذلك بقرار صادر عن اللّيبراليين أنفسهم وهم الذين كانوا يرفعون شعار الإخاء والحرّية والمساواة؟
الليبرالية حرّية البيض واستعباد الآخرين
تُعرّف الليبرالية بأنّها نظرية تقوم على الدّعوة إلى الحرّية والمساواة، إلآّ أنّ التّاريخ والواقع يؤكّدان أنّ تلك الأفكار تخصّ الرّجل الأبيض لاغير وأنّ الديمقراطية والحرّية والمساواة في الغرب على حدّ تعبير عبد الله الغذامي « هي ديمقراطية وحرية ومساواة بيضاء وليست ملوّنة»(6) ذلك أنّ منظّري اللّيبراليّة بصفة خاصّة ومفكّري أوروبا إبّان الثّورة الصّناعية البرجوازيّة بصفة عامّة لم يتصدّوا لمفهوم الحرّية بروح إنسانيّة صرفة وإنّما بالرّوح الإغريقيّة – الرّومانية تقريباً، حيث «قاموا بتوسيع مفهوم الأحرار في أثينا وروما إلى حدود أوروبا، فيما ظلّ الشّرق بالنّسبة لهم ضمن عالم العبيد الذين لا يستحقون الحرّية» (7). وحسب جون لوك ومفكّري هذه المرحلة، فإنّ الحرّية الفرديّة هي شقراء وبيضاء لا تشمل الآخرين، لهذا ليس من العجيب أن نعلم أنّ جون لوك - وهو الذي وضع الأفكار المولّدة للنّظرية اللّيبرالية والقائل بحرّية الفرد الإنساني - هو في نفس الوقت تاجر رقيق يمارس الاستعباد ويبرّره، ذلك أنّه كان أحد المستثمرين في شركةٍ احتكرت تجارة العبيد  من نساء وأطفال في ساحل أفريقيا الغربي، وقامت بتصدير 90 ألف عبد، خلال عقد ونصف من الزّمن، إلى حقول الزّراعة في المستعمرات الأمريكيّة.
لا يمكن تفسير هذه الازدواجيّة أو تبريرها ولا حتّى فهمها بشكل متناسق إلاّ إذا تمّ النّظر إليها ضمن سياق محدّد، ذلك السّياق هو السّياق العنصريّ، أي أنّ التنظير للحرّيات والحقوق الطّبيعية كان خاصاً بالرّجل الأبيض. هذا السياق نجده عند عدد لا متناهٍ من الفلاسفة الغربيين المنظّرين للحرّية والمساواة، وكدليل لقولنا نكتفي بما ذكره مونتيسكيو - وهو الذي يعرّف الحرّية بكونها : «فعل كلّ ما لا يضير غيرك» (8) - حول مبدأ استعباد الزنوج ذوي البشرة السوداء في كتابه «روح القوانين» إذ يقول: « إنّ شعوب أوروبا وقد أفنت سكان أمريكا الأصليين، لم يكن أمامها إلاّ أن تستعبد شعوب إفريقيا لكي تستخدمها في استصلاح أرجاء أمريكا الشّاسعة وما شعوب إفريقيا إلاّ جماعات سوداء البشرة من أخمص القدم إلى قمّة الرّأس، ذات أنوف فطساء إلى درجة يكاد من المستحيل أن نرثي لها» (9) 
اللّيبرالية  وموت الإنسان الحرّ
تقوم الرّؤية اللّيبرالية لطبيعة الاجتماع البشري على نظرة ذرّية للوجود لا يمكن أن تثمر فهما صحيحا لمقتضيات العيش الجمعي بل تنتهي إلى تثبيت الأنانيّة الفرديّة وإطلاقها خارج كل الحدود بما فيها حدّ القيم والمصلحة العامة. ومن هذا المنطلق يأتي تعريف الليبرالية للإنسان ككائن اقتصاديّ لا يحرّكه انتماؤه إلى الجماعة بقدر ما تحرّكه نزعته الفرديّة. هذا المفهوم للإنسان سهّل عمليّة تّمازجٍ ذّهنيٍ وسّلوكيٍ لللّيبرالية مع الرّأسمالية اقتصاديّا ومع الامبريالية والعولمة سياسيا وثقافيّا، فأنتجت نظرية السّوق الحرّة وهو ما خلصت إليه اللّيبرالية تحت مسمّى اللّيبرالية الجديدة .
ففي الليبرالية الجديدة تُستثمر «الحرّية» لخدمة السّوق فتتحوّل إلى صفة اقتصاديّة ونظريّة في السّوق والمال وتتزاوج مع الغرائز البشريّة كالجشع والأنانيّة والتّنافسيّة بعد أن يتمّ تحويل هذه المعاني من دلالات منبوذة وسلبيّة إلى قيم يستند إليها السّوق.
ويكون الجسد والرغبة هما قطبي الرّحى إذ تتلاشى بقية المكوّنات الأساسيّة للوجود الإنساني وتصبح بلا معنى، فلا وزن للقيم ولا لحفظ البيئة الطّبيعيّة الحاملة لذلك الوجود، «فالإنسان قبل كلّ شيء هو الجسد، ورغبات الجسد تتقدّم على كلّ ما يمكن للإنسان أن يطلبه، ويتعلّق بالجسد والرّغبة مبدأ المنفعة متجسّدا في الكسب والرّبح المؤدّي إلى تلبية الاحتياجات الجسديّة تلبية متعاظمة على الدّوام» (10) .وهكذا يتمّ تدمير كينونة الإنسان الحرّ ليصبح مكبّلا برغبات جسده التي تحدّدها لغة السّوق ودعايته لا أكثر ولا أقل.
الليبرالية العربيّة ... استنساخ  بلا وعي 
ارتبطت لحظة اتصال الفكر العربي باللّيبرالية في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التّاسع عشر بلحظة استفاقة العرب بعد الغزو البونابارتي لمصر ليتساءلوا عن أسباب تخلّفهم وضعفهم مقابل قوّة الآخر أي الغرب. فانطلقت محاولات الاحتكاك بالواقع الأوروبي ومعاينة شروط نهضته فكان الانبهار باللّيبرالية كونها النّظرية التي قادت نهضة أوروبا وصنعت قوّتها. غير أنّ محاولات استنساخ التّجربة الأوروبيّة في العالم العربي الإسلامي باءت بالفشل لأنّها تمّت بعاطفة المنبهر وليس بعقل نقدّي بنّاء، فتمّ تسويقها كحزمة من المفاهيم بأسلوب شعاراتي دعائي لا غير من دون الاكتراث إلى تحديدٍ دقيقٍ لمفهوميّ الحرّية والعدالة ومن دون جهد يذكر في إنجاز بحوث لإعادة بناء مفاهيمها بما يتناسب مع واقع المجتمع العربي في أبعاده المختلفة (11). كما أنّ اللّيبراليين العرب الذين ظهروا بعد جيل النّهضة والذين أخذوا على عاتقهم - كما يدّعون - نشر وبثّ الرّوح اللّيبراليّة في المجتمع العربي الإسلامي  «لم يتميّزوا بنضال كبير ضدّ المستعمر، على أمل الوصول إلى حكم وطني يُبقي روابط وثيقة مع الغرب، وقد كان هذا الموقف من أسباب عدم تجذّر اللّيبرالية في المجتمعات العربيّة الإسلاميّة إضافة إلى غياب قاعدة اقتصادية وطنيّة تخلّف طبقة اجتماعيّة، تسعى إلى اكتساب شرعيّة سياسيّة تترجم شرعيتها الاقتصاديّة» (12) 
ومع انهيار النّموذج الاشتراكي مع بداية تسعينات القرن الماضي وهيمنة «النّيوليبرالية» على العالم، برز في العالم العربي ما يسمّون أنفسهم  باللّيبراليين الجدد وهم نخبة فكريّة وسياسية تدّعي التّرويج لقضايا الحرّيات وحقوق الإنسان والدّيمقراطية والدّفاع عنها وفي المقابل تتّسم مقولاتها بجرأة ووقاحة لا توصف عندما تقوم بالدّعوة إلى فرض اللّيبرالية في العالم العربي الإسلامي ولو على ظهر دبّابة أمريكيّة. وقد برز ذلك بشكل فاضح بعد اختيار جماهير ثورات الرّبيع العربي عبر صناديق الاقتراع التّيارات الإسلاميّة لقيادة مرحلة ما بعد الاستبداد، إذ تنكّرت لمبادئها فرفضت الاعتراف بنتائج الانتخابات ودعّمت الإطاحة بالحكومات المنتخبة وباركت قمع وإقصاء الإسلاميّين تحت مبرّر التّخلص من الفاشية الدّينية والقضاء على التطرف والإرهاب (13). 
تعاني التّيارات اللّيبرالية العربيّة من الازدواجيّة والتّناقض بين خطابها التّنظيري ومواقفها العمليّة في مجال الحرّيات الأساسيّة خاصّة، فهي تستنفر قواها وقدراتها الإعلاميّة ضدّ الانتهاكات التي تطال أنصارها ومعتنقي أفكارها مقابل غضّ الطّرف عن الانتهاكات بحق خصومها الإسلاميين، ففي مصر على سبيل المثال شنّ الليبراليون حرباً شعواء لصالح «إسلام البحيري» (14) واستنكروا محاكمته بتهمة ازدراء الأديان فيما لم ينطق أحد منهم ببنت شفة بشأن ما يحدث في السّجون والمعتقلات وعمليات القتل الممنهجة داخل السّجون.
لا يخالف الليبراليون العرب القاعدة التي سار عليها معلّموهم في الغرب. فالحرّية لهم وليس لغيرهم ولا يهمّ إن كان تحقيق تلك الحرّية يمرّ عبر انتهاك حرّية الآخرين وإقصائهم بل سحقهم إن لزم الأمر. 
لقد تعرّض مصطلح الحرّية مع اللّيبراليين العرب حسب قول العروي «إلى عمليّة استيراد بدائيّة ساذجة فكانوا يتغنّون بالحرّية وكفي» (15) 
الخاتمة 
لقد تمّ توظيف الحرّية من طرف الأنظمة اللّيبرالية في أوروبا في زمن الاستعمار لتكون عدوانا على الغير وأداة لسلب حرّيته وكرامته وهي توظّف اليوم من طرف اللّيبراليين الجدد بقيادة الولايات المتّحدة الأمريكيّة لوأد ما تبقّى من أمل الشّعوب الأخرى في التّوق إلى مثال الحرّية والعيش الكريم. ويمكن القول أنّ الحرّية « وقعت في مأزق معرفي حقيقي منذ اتّخذتها اللّيبرالية أساسا لها، ومنذ تسيست الأخيرة وأدخلت المفاهيم تحت سلطة الخطاب السّياسي فوشمته بوشمها» (16) فهل من سبيل إلى تحريرها من مأزقها؟ وهل يوجد طريق آخر لترسيخ مبدأ الحريّة في حياة البشر غير اللّيبرالية؟ هل يكون تصّور مثل تصوّر«برتراند راسل» (17) المعرفي لمفهوم الحرّية الذي يقوم على مبــدإ « لا تطلب الحريّة لنفسك ولكن اعطها لغيرك»(18) هو طاقم النّجاة وهل يتطابق هذا المفهوم مع ما يدعو إليه القرآن الكريم ؟
للحديث بقيّة 
الهوامش
(1) على الرغم من أن ظهور الليبرالية كنظام مجتمعي يعود إلى نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، إلاّ أنها كوجود معرفي أخذت في التبلور على الأقل قبل قرن من ظهورها كمصطلح. ( ظهرت في اللغة الفرنسية سنة 1818 م وفي اللسان الانقليزي سنة 1819 م) وذلك بفضل أعمال جون لوك (1632 - 1704) وديفيد هيوم (1711 - 1776) وروسّو (1712 - 1778) وليسينغ (1729-1781) وكانط (1724 - 1804) وآدم سميث (1723 - 1790) التي وضعت الأسس النظرية التي ارتكز عليها المذهب الليبرالي لاحقا.
(2) الطيّب بوعزّة، نقد الليبراليّة، دار تنوير للنشر والإعلام - القاهرة - ط.1 - 2013م - ص33 .
(3) د. زكرياء إبراهيم، مشكلة الحرّية، دار مصرللطباعة - ط.2  ،ص164.
(4) هذا ما ذهب إليه على سبيل المثال فوكوياما المنظر الامريكي للنيوليبرالية - للتوسع في الموضوع انظر F.Fukuyama, la fin de l›histoire, octobre 1989
(5) الطيّب بوعزّة، نقد الليبراليّة، دار تنوير للنشر والإعلام - القاهرة - ط.1 - 2013م - ص30
(6) عبد الله الغذامي، الليبرالية الجديدة.. أسئلة في الحرية والتفاوضية الثقافية - المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب ط. 1 - 2013»
(7) كانت الحرية في مجتمع أثينا القديم ثم روما في أيامها الامبراطورية الأولى، مقصورة على النبلاء ولا تشمل النساء والفقراء
(8) بودون وبوزيكو - المعجم النقدي لعلم الاجتماع - ص468