الإفتتاحية

بقلم
فيصل العش
الإفتتاحية
  يصدر العدد 121 من مجلّة الإصلاح تزامنا مع إحياء ذكرى حدثين هامّين أحدهما تونسي والآخر مصري وكلاهما عربي إسلامي كان لابدّ من وقفة قصيرة معهما لأهميتهما ومساهمة منّا في هذا الإحياء . الأول حدث سعيد لكنّ الثاني مؤلم جدّا، وبين السّعادة والألم يكمن سرّ الحياة...الغريب في الحدثين أنّهما متتاليين في الذّكرى، فالأول حدث في الثالث عشر من شهر أوت (أغسطس) منذ 61 عاما والثاني في الرّابع عشر من نفس الشّهر، لكن منذ أربع سنوات.
فأمّا الذكرى السّعيدة فهي إحياء ذكرى صدور مجلة الأحوال الشخصية التي تحتوي على مجموعة قوانين اجتماعية أدخلت على تنظيم الأسرة التونسية تغييرات جوهريّة ورفعت من مكانة المرأة. ومن أهمّ ما جاء فيها منع تعدّد الزوجات وتجريمه وسحب القوامة من الرّجل بجعل الطّلاق  بيد المحكمة عوضاً عن الرّجل ومنع إكراه الفتاة على الزّواج من قبل وليّها مع تحديد الحدّ الأدني للزّواج ومنع الزواج العرفي وفرض الصّيغة الرّسمية للزّواج وتجريم المخالف مع إقرار المساواة الكاملة بين الزّوجين في كلّ ما يتعلّق بأسباب وإجراءات وآثار الطّلاق.
وتستمدّ المجلة روحها من أفكار عدد من الزّعماء الإصلاحيين التونسيين أهمهم الطاهر الحدّاد صاحب الكتاب الشهير «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» ومن اجتهادات فقهيّة جريئة من علماء الزيتونة. وبهذه المناسبة يسرّ هيئة تحرير المجلة أن تتقدّم إلى كلّ التونسيات بنات ونساء، أخوات وزوجات وأمهات ... بأجمل التهاني متمنية لهنّ مزيدا من التألق والنّجاح جنبا إلى جنب مع الرّجال في بناء تونس الثّورة، تونس الحرّية والكرامة والمساواة. كما نهنئهن بصدور القانون الأساسي المتعلّق بالقضاء على العنف ضدّ المرأة الذي جاء لوضع التدابير الكفيلة بالقضاء على كلّ أشكال العنف القائم على النّوع الاجتماعي من أجل تحقيق المساواة واحترام الكرامة الإنسانية، وذلك بإنتهاج مقاربة شاملة تقوم على التصدي لمختلف أشكاله، بالوقاية وتتبع مرتكبيه ومعاقبتهم وحماية الضحايا ومساعدتهم .
لقد كانت المرأة التونسية في الصفوف الأولى للمناضلين الذين تحدوا «بن علي» وعصابته طيلة فترة حكمه وتحمّلت عبء السّجن والهجرة كما تحملها الرجل وكانت حاضرة بقوة أثناء الثورة حيث شاركت الرّجل في أغلب المظاهرات التي أسفرت عن سقوط بن علي وهروبه . وبعد الثّورة واصلت حضورها على السّاحة  مطالبة بتثبيت مكانتها في مجلة الأحوال الشّخصية وحقوقها ومكاسبها، فضلا عن ضمان حقّها في المشاركة في الحياة السّياسية والاقتصادية وإقرار مبدأ التناصف والحدّ من العنف المسلّط ضدّها. 
إنّنا إذ نحتفي بهذه الذّكرى السّعيدة فإنّنا نعاهد أمّهاتنا وأخواتنا وزوجاتنا وبناتنا على العمل في اتجاه تأصيل مبدأ المواطنة وفكرة  التّعامل مع التّونسيين ذكورا كانوا أو اناثا بصفتهم مواطنين يجمعهم الانتماء إلى الوطن والتزامهم بقوانينه وعلاقتهم بالدّولة المستندة إلى حقوق وواجبات ليتحقّق بذلك مبدأ المساواة ... ونؤكّد لهنّ أنّنا سنقف معهنّ سدّا منيعا، بنضالنا الفكري والثقافي أمام جميع دعوات الجذب إلى الوراء خاصّة في ما يتعلق بدور المرأة وموقعها في المجتمع، تلك الدعوات التي تشكّك في مبدإ المساواة بين الرجل والمرأة، مستندة إلى فهم تقليدي للإسلام يجعل من المرأة مكملة للرجل وليست كائنا مستقلا بذاته ومساويا له، فعملت على التقليص من مساحة حرية المرأة والتضييق عليها  في ملبسها ومجالات فعلها متناسية قول الحبيب المصطفى «النساء شقائق الرجال». 
وأمّا الذكرى الأليمة فهي إحياء ذكرى فكّ إعتصامي ميداني رابعة و النهضة بالقاهرة بقوّة السلاح في الرابع عشر من أوت 2013 وراح ضحيته الكثير من المصريين وهم يحتضنون مصاحفهم معلنين رفضهم التنازل عن اختياراتهم عبر أول انتخابات ديمقراطيّة حدثت بالبلد. سيكتب التاريخ للأجيال القادمة أن دعاة الحداثة والديمقراطية في مصر وفي تونس وفي أوروبا وأمريكا باركوا هذا العمل فانقسموا إلى قسمين لاخير فيهما البتّة، قسم التزم الصمت الرهيب وكأنه أصيب بداء «البكم» و«العمى» واتخذ موقفا مائعا إزاء سقوط مئات القتلى وكأن شيئا لم يكن وقسم آخر انبرى يدافع عمّا حدث بكل ما أوتي من قوّة القلم واللسان مدّعيا أن ما حصل هو استرجاع  للديمقراطية التي اغتصبها الإخوان وأن ما فعله العسكر يدخل في خانة تطبيق القانون بل أن بعضهم شيطن «الإخوان» وأزال عنهم صفتهم الإنسانية واعتبر أن دماءهم ملوّثة ونجسة ومن ثم فلا حرمة ولا كرامة لهم وأن قتلهم وحرقهم لا يعدو أن يكون تنظيفا لمصر والمصريين.
سيكتب التاريخ أيضا أن هؤلاء الحداثيين والليبراليين والديمقراطيين ومن تخندق معهم من رجال الدين والإسلامويين الذين صنعتهم المخابرات الصهيونية والأنظمة الحاقدة على الربيع العربي، هم شركاء في الجريمة بل هم أشدّ جرما ممن نفّذ وخطّط . سيبقى ما حدث في مصر يوم 14 أوت لعنة تطارد إلى يوم الدين كل من نفّذ وموّل وخطط وساند وبارك ومن وقف في خانة المتفرج السلبي ... لأن الذين استشهدوا هم بشر أمثالنا من حقّهم أن يدافعوا سلميّا عن اختياراتهم وأفكارهم و لأنّ ما حدث ليس إلاّ وأدا للديمقراطيّة والحرّية وحقوق الإنسان.
سنواصل وسيواصل أصحاب الحق الدفاع عن حقوقهم وستستمر ملحمة الحرية في ربوع البلاد العربية كلّها حتّى تعلم الأنظمة الفاشية التي تصوّب فوهات أسلحتها إلى صدور شعوبها وتمطرهم رصاصا أنّها ساقطة لا محالة ولو بعد حين وأنّ هذه الأمّة قد عرفت طريقها نحو الحرّية واسترجاع مجدها ولن تتوقف مسيرتها نحو تحقيق هدفها المنشود ولو سالت الدماء الطاهرة أنهارا وهي مؤمنة أن طريق الحرية وعر جدّا وأن المجد لا يكتب إلا بدماء الشّهداء مرددة عبارات الشّاعر العربي مظفر النواب :« وطني علمني أن حروف التاريخ مزورة حين تكون بدون دماء».