قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
رائحة الكوليرا
 (1)
عاد العيد علينا مرّة أخرى واحتفلنا به وأكلنا وشربنا وعايد بعضنا البعض وتمنّى بعضنا لبعض أجمل الأمنيات، ولكنّنا لم نعرف للعيد طعما غير ما اعتدنا عليه من قبل، إذ ازداد حال الأمّة سوءا وقد بدأت نذر حرب جديدة تدقّ فى الخليج العربي والتي ستضاف إلى غيرها من الحروب المدمّرة،غير أنّها ستكون أشدّ قسوة ودمارا إذ أنّها ستكون حرب الأغنياء للأغنياء بمساعدة الأغنياء. وهي حرب لن تكون عابرة في التاريخ لأنّها ستفكّك كيانا مترابطا لغويّا ودينيّا وعشائريّا، وهي حرب لا من أجل المال ولا هي من أجل النّفوذ كما يشاع وإنّما هي بالوكالة عن أعداء يتربّصون بالأمّة الدّوائر دون أن يحرّكوا جنودا.
(2)
ما زالت ذريعة مقاومة الإرهاب ومواجهته هي الذّريعة المقدّمة بين يدي كلّ حرب جديدة، ومازلنا ننتظر تعريفا لهذا الإرهاب علّنا نستطيع من خلاله الفصل بين ما هو حقيقي يزيد الأمّة تخلّفا ونكوصا عن أهدافها فى التّحرر والانعتاق وبين ما هو مقاومة بالسّلاح والكلمة وغيرهما لكلّ أشكال الغزو والاحتلال والتعدّي. ومازلنا لم نتفق بعد حكّاما ومحكومين، عامّة ومثقفين، على جملة من المعايير اللاّزمة فى تحديد العلاقة بين الحاكم وشعبه وبين الحاكم ووطنه. ما زلنا للأسف نعدّ الأوطان ملكا للحاكم الغالب على أمره ولو كان مستبدّا وما زلنا نعتقد أنّ الأمن والسّلامة أهمّ من مستقبل الأوطان والأمم.
جاءنا العيد فاستقبلناه غير عابئين لحال الأخوة اليمنيين الذين تحصد «الكوليرا» أجسادهم وأرواحهم فى زمن صار فيه الحديث عن «الكوليرا» مجلبة للسّخرية، إذ ثمّة شعوب لم تعرف هذا الدّاء منذ مئات السنين، وها هو حال بقيّة البلاد التي اشتعلت فيها الحروب يزداد سوءا يوما بعد آخر، حيث ترتفع أعداد القتلى كلّ لحظة ويزداد الدّمار دون طائل ولا أمل فى حلّ يحفظ البقيّة الباقية من المدن والديار، فكيف عيّدت تلك البلاد وكيف كان طعم العيد فيها.
لقد شاهدت مثلا منظرا بشعا لعشرات الجثث المتناثرة فى إحدى مدن باكستان إثر تفجير رهيب، ولم يكن الموتى من العسكر في حرب شرعيّة ما وإنّما كان كلّ القتلى من النّساء والأطفال والرّجال الذين لا ناقة لهم في الأمر ولا جمل. لقد أصبحت الاستهانة بالحرب وعواقبها جليّة لكلّ صاحب لبّ، فمنذ اجتاحت أمريكا ومن معها العراق بذريعة واهية واستحلّت من فيه وما فيه، والحرب فى الشّرق لا تنتهي هنا حتّى تبدأ هناك وما زالت مشاهد القتلى والجثث المتناثرة تصلنا من هناك فى كلّ حين. لم يعد بوسعنا إحصاء عدد القتلى بل لا أحد مازال مهتمّا بعددهم، كما لم يعد بالإمكان التّكهن بموعد للسّلام هنا وهناك وكأنّنا اعتدنا على الأمر ولم نعد نحسبه إثما عظيما، وما زلنا فقط نقرأ في القرآن الكريم أنّ «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا» وتلك لعمري مفارقة مذهلة.
(3)
الحرب على الإرهاب هي العنوان الأوحد لكلّ هذا القتل، وهو عنوان بصدد التّوسع باطّراد ليكون عنوانا لمرحلة مقبلة أشدّ قسوة علينا نحن المسلمين من كلّ المراحل والأحقاب السّابقة، ويجدر بنا التّأكيد هنا على أنّ الإرهاب موجود فى غير مكان وأن ممارسيه صاروا أكثر إيلاما لشعوبهم وأهليهم من أعدائهم في كثير من الأحيان، وأنّ هذا الإرهاب الذي يلبس لبوس الدّين لم يكن له مثيل بهذه الحدّة طوال تاريخنا القديم وأنّ هؤلاء الإرهابيين الذين يتّخذون من بعض الآيات والأحاديث النّبوية المؤولة على غير المراد منها لن يزيدوا النّاس إلاّ نفورا من الدّين ولن يزيدوا الدّين إلاّ بعدا عن النّفوس. كما تجدر الإشارة أيضا إلى أنّ مصطلح الإرهاب إن ترك عفوا بدون تحديد سوف يكون خنجرا فى خاصرة الدّيموقراطية والفكر الحرّ، كالنّار التى تأكل ما حولها دون اعتبار لكنهه أو لما قد ينجر عن التهامه من كوارث أخرى أشدّ من الحريق نفسه.
هل الدكتاتورية وحكم الشّعوب بالحديد والنار إرهاب؟ وهل أنّ تبديد الحكّام لثروات الشّعوب دون رقيب إرهاب؟ وهل معاداة الفكر والثّقافة والإبداع إرهاب؟ وهل التّعسف فى تأويل النّص الدّيني كالقرآن الكريم وإخضاع النّاس لمقتضيات تأويل واحد إرهاب؟ وهل الاعتداء على حقّ تقرير المصير للشّعوب الرّاغبة فى الانعتاق من براثن الاستعمار أو الاحتلال أو الاستبداد إرهاب؟ وهل يعدّ سجن المعارضين بالآلاف فى ظروف اعتقال غاية فى التّعذيب والاهانة إرهاب؟.
إنّ التّعريف العلمي الحقيقي للإرهاب لا يكون بواسطة السّياسيين الذين يمارسون الانتهازيّة بلا حدود أحيانا وإنّما يكون بواسطة أكادميين جادّين من ذوي الفكر الحرّ والإرادة الحرّة، ولنا ثقة فى أنّ هؤلاء الأكادميين سوف يكونون منصفين لكلّ الأديان والشّعوب لأنّهم سيعطون لهذه الأديان والشعوب الحقّ فى التّعبير عن نفسها بحرّية وفاعليّة بواسطة الفكر لا عبر البندقيّة، وسوف نكتشف حينها أنّ معظم الشّعوب إنّما تجنح للسّلام والأنسنة وترفض أن يتحوّل العالم إلى مقبرة يزداد ساكنوها كلّ آن وحين.
(4)
عادة العرب في قتال بعضهم بعضا عادة حفظتها كتب التّاريخ، وقد كانوا أيّام الجاهليّة لا يتناهون عن سفك دماء بعضهم البعض وينشؤون الولد على القتال وللقتال، وقد صارت بعض حروبهم مضربا للأمثال فى طولها وتهافت أسبابها. وقد قيل من قبل أنّها أمّة أعزّها الله بالإسلام حتّى صارت إلى ماهي عليه من قوّة وعدل، ولولا الدّين ما استقامت على الطّريقة وما أغدق الله عليها من أسباب الرّفعة والهيبة والعزّة.
إن تقاتل العرب كرّة أخرى فلن يعدموا الأسباب وإن فني بعضهم فسيحمل البعض الآخر راية الثّأر كما كانوا قبل بعثة رسول السّلام، ويظلّ الأمل معقودا على ذوي العزائم والنّفوس الصّادقة حتّى يجنّبوا هذه الأمّة ويلات ما يدبّره لها الأعداء وحينها سيكون للعيد طعم لا تفوح منه رائحة «الكوليرا»