قصص القرآن

بقلم
الهادي بريك
قصة أصحاب الكهف
 قصة أصحاب الكهف تضمنتها سورة مكية حملت إسمها وهي سورة الكهف التي حوت قصصا أخرى من مثل أصحاب الجنة ورحلة طلب العلم بين موسى والخضر عليهما السلام وذي القرنين. ذلك أن القرآن المكي تمحض لقص القصص تثبيتا لقلب الرسول الخاتم عليه الصلاة والسلام ولمن معه من المؤمنين الذين يرزحون تحت الإضطهاد القرشي ومن بعد ذلك لكل إنسان في إثرهم يشق طريق الحياة تحت قوانين الإبتلاء ونواميس الإصطفاء. سورة الكهف هي ثالث سورة تفتتح بالحمد بعد الفاتحة والأنعام وقبل سبإ وفاطر
ملخص القصة
مجموعة من الفتيان آمنوا بربهم في مكان ما وزمان ما أهال عليهما البيان القرآني التراب كعادته دوما أن ينشغل الناس بهوامش القصة معرضين عن عبرتها. تعرّض الفتية إلى الأذى في مجتمع غارق في الشرك حتى أذنيه فآثروا الإنسحاب بهدوء مهاجرين كما هاجر الذين من قبلهم ومن بعدهم فلمّا آواهم المبيت إلى كهف وقد تبعهم كلبهم وفاء ضرب الله على آذانهم رقادا دام ثلاثة قرون قمرية كاملة ولما أعثر الله عليهم بعثا جديدا تغيرت أحوال كثيرة في مجتمعهم القديم إذ غلب الإيمان على الشرك وطوى التاريخ ذكرهم بإبتناء مسجد عليهم وظلوا لغزا محيّرا حتى كشف عنه الوحي الكريم ربما بسؤال خبيث فيه التحدي من لدن الطائفة الإسرائيلية التي كانت تكيد للرسول الخاتم عليه الصلاة والسلام إذ أنهم أهل كتاب يخبرهم بمثل هذا مما لا شأن للأميين من العرب به. فما هي عبر القصة؟
الإسلام دين الحوار لا المواجهة
سبق أن تقرر في بعض حلقات هذه السلسلة القصصية من القرآن الكريم أن سورة الكهف بقصصها ترسم منهاج الإصلاح الإسلامي بتنوعه الذي لا يضيق به زمان ولا مكان وهو منهاج يحتمل الانسحاب كما سنرى في هذه القصة كما يحتمل تقديم التعليم والتربية والخدمات الإجتماعية وبناء موازين المصالح والمفاسد كما مرّ بنا مع قصة موسى والخضر عليهما السلام كما يحتمل ذلك المنهاج الإصلاحي أيضا التغيير بقوة الدولة وبمشاركة شعبية كما مرّ بنا مع قصة ذي القرنين إذ أن منهاج الإصلاح له ثوابته الأخلاقية الراسخة ولكنه تفاعلي حواري مع ظروف الزمان والمكان تأثيرا في موازين القوى وليس ليّا لها
لحكمة ما قدم ذلك المنهاج في هذه السورة خطة الانسحاب الهادئ من لدن الثلة المؤمنة عندما تصطدم بجدر سميكة من الصدّ والإعراض. والرسالة إلينا اليوم هي أن الإسلام دين يقدّم الحوار الهادئ فإن آمن الناس فبها ونعمت وإن أبوا فإن مسؤولية المسلم فردا أو جماعة إنما هي الإنسحاب لتحقيق غرضين : أولهما تأمين الدعوة نفسها إذ بإهلاك المؤمنين في حملات شرسة غير متوازنة القوى فلا حديث عن دعوة ولا عن دين ولقد تقرر في أصولنا منذ القدم أن مصلحة النفس ـ نفس الإنسان وحياته ـ مقدمة حتى على الدين في أحيان رغم أن الدين يتقدمها في حالة جهاد المقاومة لأن الإنسان بلا وطن لا يمكن له أن يترجم إيمانه. 
الغرض الثاني من الانسحاب الهادئ هو إتاحة فرصة كافية للناس حتى تتغير الموازين بتقلب الليل والنهار إذ أن مواجهتهم بما لم يألفوه يفضي في العادة إلى العنف والقتل والتشريد وتقسيم المجتمع ومن عجائب هذا الدين أنه يحرص على وحدة الناس حتى وهم مشركون إذ أن تفرقهم حتى بسبب الدين مهلكة للدين نفسه ولأهله أنفسهم وهي رسالة عميقة عنوانها أن التحول إلى الإسلام لا بدّ أن يكون متدرجا وجماعيا وليس فوريا ولا فرديا لأن الإسلام يهدف إلى عمارة الأرض بالخير وهي عمارة لا بد لها من كثير من الناس. تلك هي العبرة الأولى وعنوانها أنه عند إنخرام الموازين في الإتجاه المضاد للإسلام شعبيا فإن المواجهة التي تفضي إلى إنقسام الناس وبث العداوة حتى بإسم الدين غير مطلوبة. فإما حوار هادئ ليؤمن من شاء عن بينة أو انسحاب من لدن المسلمين القلّة سوى أن الانسحاب يتخذ صورا أخرى ممكنة غير صور الفرار إلى الكهف ومن صور الإنسحاب الممكنة في عصرنا : كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة
مخ الإيمان هو الإقناع بالبعث والنشور من بعد الموت
لو نخلت الكتاب كله طولا وعرضا لما ألفيت عبرة أخرى يعكف عليها الكتاب نفسه بقصصه وتمثيله عدا عبرة الإقناع بالبعث والنشور من بعد الموت ولذلك توسّل إليها بأشخاص الكون التي إمتلأ بها الكتاب إمتلاء عجيبا. المؤمن التقليدي الذي لا يخالط غير المؤمن ولا يكلف نفسه النظر والتفكير لا يشعر بقيمة هذا الأمر وللإلف والعادة سحر خبيث حتى لو كان في التدين نفسه. وإلاّ فما الذي يجعل الوحي كله تقريبا يعكف على هذه المسألة عكوفا عجيبا؟ 
لا ريب في أن الإنسان عندما يؤمن بالبعث والنشور من بعد الموت سيطامن من غلوائه كثيرا ويتجنب كثيرا من الطغيان في حقّ نفسه وفي حقّ الناس من حوله مثله مثل رجل توصّل بدعوة كتابية موثقة من هيئة قضائية في هذه الدنيا فهو سيعكف تفكيرا يملأ عليه حياته لأجل الحصول على براءة من تلك الهيئة القضائية ولو بالزور والرشوة والمؤكد أن الزمن الفاصل بينه وبين مثوله بين يدي تلك الهيئة سيكون زمن سلم وموادعة. المقصد الأسنى من الإيمان بالبعث هو حمل الإنسان على بثّ الأمن والسلام حوله لأن المحكمة التعقيبية الأخيرة والله قاضيها لا تقبل أي شفاعة في حقوق الإنسان وماعدا حقوق الإنسان وحق الله في العبادة فإنه يقبل الشفاعة وبيسر. قصة أصحاب الكهف تحمل هذه العبرة إذ تبيّن للناس في الغابر والحاضر أن هؤلاء الفتية الذين لبثوا في كهفهم ثلاثة قرون كاملة في غفلة من الناس والأحداث المائجة والمعارك الهائجة بعثوا في يوم ما ولم يكن بعثهم سوى إيقاظا من بعد رقود أو سبات أي أن قصتهم تحمل إمكانية البعث بالصوت والصورة لحما ودما في هذه الدنيا. والرسالة هي : أليس ذلك ممكنا من بعد الموتة الكبرى إذ كما بعث هؤلاء بعد زمن طويل يمكن أن يبعث الموتى؟
الأشكال شأن الصغار والمقاصد شأن الكبار
إن تعجب فلا أعجب من إهتمام الناس بالهوامش والطفيليات وإهمالهم العبر المقصودة. رغم أن القرآن الكريم أهمل مكمّلات القصة والمثل بالكليّة فلا ذكر لزمان ولا لمكان ولا لإسم فإن أكثر الناس يدعون المقصود من القصة والتمثيل ويهرعون إلى البحث عمّا لن يجدوه ولو وجدوه ما زادهم إلا وهنا أي مكان القصة وزمانها وأسماء أبطالها. في هذه القصة يروي لنا كيف أن الناس من بعد الإعثار على أصحاب الكهف ظلوا فيما يشبه الحرب الباردة مبارزة بينهم أيهم أحصى لما لبث الفتية من سنين أو لعدّتهم وبمثلهم هم بالتمام والكمال نثير نحن اليوم حربا هوجاء عنوانها : أين يقع الكهف الذي إحتمى فيه الفتية؟ نفعل ذلك ونحن نقرأ رواية القرآن عن الفارغين من قبلنا كيف أن بعضهم يصرّ على أن عددهم هو كذا وأن بعضهم الآخر يصرّ على أن عددهم هو كذا. ثم نطوي المصحف قائلين بكل بلادة : صدق الله العظيم. أجل. صدق الله العظيم ولكن هل وعينا ما الذي صدق فيه؟ لم يعد هناك أي ريب في أن معيار التمييز بين الكبير والصغير عقلا لا سنّا بين الناس هو معيار الإنشغال. فمن إنشغل بالمباني والأشكال والأعداد والألوان والرسوم وغيرها فهو صغير العقل سفيه الحلم حتى لو نصب نفسه أو نصّب للناس إماما وموجها بل حتى لو إشتعل الرأس منه شيبا والذقن. ومن إنشغل بالمعاني والمقاصد والعبر فهو كبير العقل جدير بأن يوجه الناس ويعلّمهم حتى لو كان للتوّ باشر سن الحلم أو كان مغمورا في الناس أشعث أغبر لا يؤبه له
الزمان كفيل بالإصلاح والتغيير
إنه لمؤسف حقا أن يحتفي القرآن الكريم في جزء كبير وواسع منه بقوانين النهضة وسنن النكسة قصة وتمثيلا فنتنكّب نحن اليوم كثيرا من ذلك حاصرين إياه في مجموعة شعائر تعبدية على عظيم قدرها المقصدي إذ أن العبادات الركنية نفسها لا تقصد لذاتها ولكن يقصد بها آثارها من تحصيل تقوى ( لعلكم تتقون ) أو من تزكّ وتطهّر ( تطهرهم وتزكيهم بها ) أو من تحصيل منافع دنيوية وأخروية ( ليشهدوا منافع لهم ) أو حاصرين إياه في مجموعة قوانين من الحلال والحرام وهذه بدورها لا يقصد منها سوى ترتيب الحياة لضمان حق الإنسان في نفسه وحق أخيه الإنسان فيه أمنا وسلاما وتعاونا. لو توخّينا المكيال الكمّي لألفينا أن عناية القرآن الكريم بقيام العمران وتنظيم الحياة الإجتماعية وبناء العلاقات الدولية هي أكثر بكثير من التعبديات نفسها ومن القوانين ذاتها إباحة أو منعا وهذا مؤشّر كاف على ميزان الأولويات فيه أو مراتب الأعمال وأقدارها وقيمها. ولو حكّمنا المعيار النوعي لألفينا الثمرة ذاتها إذ أن الحياة أكثر تضررا من خرق القوانين الإجتماعية والنواميس العمرانية. وعند لحوق الضرر بحياة الناس فلا معنى لعبادة فردية ولا مجال لها أصلا بسبب غياب الأمن وضمور الطمأنينة. 
تثير هذه القصة قضية العمران من جديد لتخبرنا أن ما رجاه الفتية من قومهم ليس فيه عيب ولكن الزمان بموازينه المنخرمة يعيب ذلك ومتى عاب الزمان شيئا فلا يحقّ به سوى الإنصراف عن الناس به إنسحابا هادئا. ثم أخبرنا أن تلك الموازين تعدّلت كثيرا بعد ثلاثة قرون كاملات وهاهو الزمان الجديد يشهد أناسا جددا يغلب عليهم التدين إذ أن أكثرهم إختاروا تكريم أصحاب الكهف وما جرى لهم فبنوا عليهم مسجدا بل ربما تكون تلك الغلبة التي تأخرت ثلاثة قرون كاملات هي غلبة سلطانية أي أن الغالبين هنا أهل صولجان. المهمّ هنا هو أن ما يرجوه أهل الخير من الناس عندما يعرض عنه الناس لا يعني أن الخير لا يحمل قيمته العليا في نفسه ولا أنهم بالضرورة أساؤوا الحوار والدعوة ولكن يعني شيئا واحدا عنوانه أن الزمان الراهن لا يقبل ما يدعى إليه ولا مناص من الإحتفاظ بالخير والحق في النفس وعندما تتغير الموازين وهي آيلة إلى التغير إرادة مرادة تعضد القوة الشعبية أو السلطانية جانب الخير والحق فيقبل الناس على ما كان يدعى إليه. الحق أعظم من أن يحتكره جيل واحد فهو يبسطه. الحق ملك مشاع بين الأجيال كلها ليأخذ كل جيل ما يطيق عصره ويقبل زمانه فمن لم يع هذا إنتحر ونحر الناس معه
منهج الإسلام التلطف وليس التعنف
لمّا أيقظ الله الفتية من رقادهم وهم يظنون أنهم لبثوا يوما أو بعضه أدركهم الجوع فأرسلوا أحدهم بما لديهم من عملة لعله يأتيهم بطعام زكيّ ظنا منهم أن قومهم الذين يبيعون طعاما غير زكيّ بمعيار الدين مازالوا هنا ولم يغفلوا أن يبسطوا له منهاج التعامل مع الناس، فأرشدوه إلى التلطف وعدم إثارة ما يوحي بوجودهم خوفا على أنفسهم وعلى دعوتهم، والخوفان لا ينفصلان فهما إذن مشروعان لأن حياة الدعوة بحياة الداعي حتى يستلم مشعلها داع بعده. لا ريب في أن الوحي يريد أن يعلّمنا مرة أخرى أن منهاج التعامل مع الناس وهم كفار في هذه الحالة هو منهاج التلطّف وليس التعنّف وهو منهاج التستّر وليس الإستعراض والإثارة والتهييج حتى لو كان بإسم الدين. ذلك أن النفس خلقت أمّارة بالسوء تجيد المكر والكيد والإلتواء فلا تسلم قيادها إلا لمحسن يحسن سياستها تلطّفا وتودّدا أما العنف والإستعراض فلا يزيدها إلا فرارا أو مجابهة ومقاومة
نحو كهف جديد وكلب جديد
ما سيقت القصة إلاّ لتعلّم أهل الخير أن بثّ الخير يوما من بعد يوم في أرجاء المجتمع في غفلة من السلطان الذي أعماه صولجانه أو فيما لا يثير حفيظته ولا يهدد عرشه أجدى للخير نفسه وللحق نفسه ولأهله أنفسهم وللناس كلهم من مواجهة السلطان حتى لو كان ذلك السلطان هو سلطان شعبي ألف غير ذلك فشبّ عليه وشاب. كهف المجتمع اليوم هو كهف المصلحين في ظل هجمة دولية ضد الخير والحق والعدال وإلاّ فإن أهل السلطان سيموتون نفاحا عن سلطانهم وقد فعلوا. ولا بد من إحاطة أنفسهم بكلب وفيّ لا يغادرهم وهل أوفى من الكلب. كلب يخذّل عليهم أن تدوسهم دبابات السلطان . الكلب هو رمز الأمن والحراسة الوفية ليس تخويفا لمن هو خارج الكهف وخارج المجتمع ولكن تأمينا لمن هم داخل الكهف وداخل المجتمع. ولكل داع إلى الخير كلبه