لغتنا العربية

بقلم
سامي الشعري
انتصارا للغة العربية: من الثقافي إلى اللغوي، او معركة الاستقلال التام
 أن نشتغل في القطاع الثّقافي، فذلك يعني أن «نرتمي مباشرة في الماء»، لا أن نتعلّم السّباحة خارجه. «عندما نقول، فنحن في الحقيقة نفعل». تدخّلنا في اللّغة وحول اللّغة هو الفعل ذاته، لأنّه إعلان لا فقط عن مشغل معرفي، بل وكذلك، في نفس الوقت عن «استراتيجيّة» ما، عن دخول فضاء الفعل لا النّظر فقط. لكن ماذا تعني وضعيتنا الآن: أن نفكّر في اللّغة العربيّة ضمن جمعيّة ثقافيّة، ضمن «مداد» (1)؟
«قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا» (2) . لا يخفى أنّ اسم «مداد» مستوحى من هذه الآية الكريمة. من هناك تمّ الإعلان المقدّس عن اقتران المداد بالكلمات: إنّه في نفس الوقت اقتران بين الكلمة والمعنى (من حيث أنّه في هذا السّياق معنى إلهيّا لانهائيّا بالضّرورة).  هو إذا إعلان عن الصّلة بين المداد/ الكلمة/ كلمات الرّب، إنّه المنفتح الذي لا يقبض فيه الاّ على الجزء البسيط، ولكنّه ذلك الذي يدعونا دائما إلى اللاّنهائي والخروج عن كل الصياغات اللّغويّة السّائدة. «اللّغوي» هو مناسبة لإعادة الثّقافي الى حيّزه الحقيقي: فهو فضاء الإنتاج الرّمزي (في مقابل المباشر والمنفعي)، وهو فضاء المشترك الإنساني الذي لا يؤوب فيه كلّ إلى بيته كقوقعة مغلقة. التّداول حول اللّغة هو إعادة الوصل حيث يراد الفصل (عبر الأحزاب/ التقطيعات المصطنعة بين الجهات/ الخانات الايديولوجيّة). إنّه إعادة لإمكانية الحجاج من حيث أنّه  مجال مشترك يبحث فيه عن الحقيقة والفضيلة. إنّه إبقاء على تواصل المدينة وحمايتها من المرجفين فيها. إنّ «لعب اللّغة» كما يقول «ليوتار» هي الحدّ الأدنى من العلاقة المطلوبة لكي يكون هناك مجتمع: حتّى قبل ولادته، ولاحقا عن طريق الإسم الذي يعطى له، فإنّ الطفل الإنساني قد وضع كمرجع للحكاية التي قد يرويها محيطه والتي عليه أن يتموضع بالنّظر إليها...إنّ مسألة الصّلة الاجتماعية هي مسألة «لعبة لغة»، إنّها السّؤال الذي يموضع مباشرة وفي الآن نفسه الذي يطرحه، ذلك الذي اليه يتوجّه، والمرجع الذي يسائله . لذلك، لن يكون تماسنا مع هذه الجهة مجرّد موضعة، أي مجرد تحليل وتركيب لهذه «الظاهرة». إنّها «حدث» يضطرّنا إلى التّموقع والخروج عن الصّمت، لا فقط اجرائيّا (ككائنات ناطقة)، وإنّما انطولوجيّا ككائنات قلقة. لكنّها مع ذلك الجهة التي تضطرنا إلى «التّعالي»، لا باعتبار ذلك رسما لمسافة فاصلة مع الحدث ( أي تعال على)، بل «تعال في» أي تفكيرا فيها وأشكلة لها. 
عند اللّغة، نجبر –حتّى رغما عنـــا- على الإقلاع عن «الفعل» (هوس الحركة والتّنقــــل دون مرشـــــد سوى النّجاعة والفعاليّـــة). لذلك إنّها منطقة التأمّل والنّظــر، حتّى وهي مجـــرّد موضوع، منطقة التفكيـــر. في بعض الأحيان، قد لا تطابق الوضعيّـــة فيها المهمّة، فليست «شرعيّـــة» المبحث بكافيــة لإضفاء شرعيّــــة على الوضع. 
نحن نقدّر، في «مداد» أنّها أمّ المعارك، لا فقط من ناحية القيمة المنشودة، ولكن كذلك باعتبارها أداة لقراءة المشهد: كثيرا من الأحداث قد تأخذ لها «واجهة» سياسيّة أو نقابية، ولكنّها تقوم على معنى ضمني هو الانتماء الحضاري للبلاد. إنّها معركة الاستقلال الحقيقي.
لا يسعني أن أقول بعد هذا التّعب المضني الذي لا يظهر طائل من ورائه: ما فائدة كلّ هذا العناء؟ إنّني في لحظة قصوى قد تلتقي فيه مبرّرات القول ورفع دواعيه، ويستوي عندها الفعل ومقابله، وتنتفي عندها مبرّرات الفعل نفسه. إنّه الصّمت الذي يكاد يخرسنا كما أخرس غيرنا، وحيث لم يعد لنا من معين للفعل الاّ مغالبة إرادة مقابلة. إنّها مصابرة عليها أوّلا أن تسكن أرضا غير أرض المغنم القريب...وما نظنّ أنّ الأمر بيّن بذاته..إنّه يحتاج إلى تأسيس ميتافيزيقي...
الهوامش
(1) :أنظر التعريف بالجمعيّة في المقال التالي الصفحة 48 
(2) : سورة الكهف الآية 109