الإنسان والسماء

بقلم
نبيل غربال
السماء بناء
 نسعى في هذا المقال إلى قراءة علمية لبعض الآيات القرآنيّة المتعلّقة بالبناء السّماوي. سنركّز على التّعريف بهذا البناء من منظور علمي حديث وسنحاول استكشاف المخزون العلمي لبعض المفردات القرآنيّة الواردة في تلك الآيات والتي نعتبرها أساسيّة في تحديد ملامح «التّصور القرآني»، إن جاز التّعبير، لظاهرة البناء السّماوي مثل رفع السّماء، ووضع الميزان، وتوسيع السّماء لننتهي إلى قراءة بعض آيات أخرى تتناول نفس الموضوع على ضوء ما سنتوصّل إليه من نتائج.
الآيات موضوع المقال:
- (1) {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ۖ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 64]. أمّا الجزء الذي يهمّنا هو جعل الله السّماء بناء.
- (2) {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47]
- (3) {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [الرحمان: 7]
أقوال بعض المفسرين
سنستعرض أهم ما قيل في معاني الآيات موضوع البحث من خلال التّركيز على ما أجمعت عليه التّفاسير القديمة ونقدّم بعض التّعاليق عليها مع الإشارة إلى أنّنا اختصرنا تلك الأقوال، محاولين أقصى ما يمكن أن لا نخلّ بالمعنى الذي يقدّمه كلّ تفسير للموضوع الذي نعمل عليه وهو البناء السّماوي.
الآية (1): نبدأ بالآية التي تسمّي السّمــاء بنــاء ونقــرأ في تفسير «جامع البيان فــي تفسيـــر القـــرآن» للطّبــري (ت 310 هـ) {والسَّماءَ بِناءً }: بناها فرفعها فوقكم بغير عمد ترونها لمصالحكم. وجاء في نفس المصدر وذلك في إطار تفسيره للآية 22 من سورة البقرة « وإنّـما سمّيت السّماء سماءً لعلوّها علـى الأرض وعلـى سكّانها من خلقه، وكلّ شيء كان فوق شيء آخر فهو لما تحته سماءٌ. ولذلك قيل لسقف البيت سماؤه، لأنّه فوقه مرتفع عليه. أمّا في تفسير «تفسير القرآن الكريم» لابن كثير (ت 774 هـ) فنقرأ:{ وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءً } أي سقفاً للعالم محفوظاً. وفي تفسير «روح المعاني» للألوسي (ت 1270 هـ)  نجد:{ وَٱلسَّمَاء بِنَآءً } أي قبّة ومنه أبنية العرب لقبابهم التي تضرب وإطلاق ذلك على السّماء على سبيل التّشبيه، وهو تشبيه بليغ وفيه إشارة لكرويتها. ويقول ابن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره «التحرير والتنوير»: والبناء: ما يُرفع سمكه على الأرض للاتقاء من الحرّ والبرد والمطر والدّواب. ووصف السّماء بالبناء جار على طريقة التّشبيه البليغ. وقد استوفى ابن عاشور الكلام في معنى {والسَّماءَ بِناءً } وذلك في تفسيره للآية 22 من سورة البقرة حيث قال : فإنّ أهل الجاهليّة لم يكونوا يشعرون بأنّ للسّماء خاصّية البناء في الوقاية وغاية ما كانوا يتخيّلونه أنّ السّماء تشبه سقف القبّة كما قالت الأعرابيّة حين سئلت عن معرفة النّجوم: أيجهل أحد خرزات معلقة في سقفه. وربّما يتساءل القارئ عن اعتبار تفسير ابن عاشور تفسيرا قديما إلاّ أنّ ما يهمّنا في هذا التّفسير هو محتواه وهو محتوى نجده في أقدم التّفاسير وليس فيه جدّة فيما يتعلّق بمعنى السّماء وخاصّة كون السّماء بناء. وحتّى في ما قاله في الآيات 47 و7 من الذّاريات والرّحمان على التّوالي.
الآية (2): في هذه الآية نجد إخبارا من الله تعالى بأنّ البناء السّماوي بني بأيد وإنّه تعالى موسّعه. سنعتمد في عرض بعض أهم المعاني المستفادة من تفسير هذه الآية والتي من بعدها، على نفس المصادر السّابقة. فنقرأ للطّبري: والسّماء رفعناها سقفاً بقوّة وقوله: { وَإنَّا لَمُوسِعُونَ } أي: لذو سعة بخلقها وخلق ما شئنا أن نخلقه وقدرة عليه. أمّا ابن كثير فيقول: يقول تعالى منبهاً على خلق العالم العلوي والسّفلي { وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَـٰهَا} أي جعلناها سقفاً محفوظاً رفيعاً { بِأَيْيْدٍ } أي بقوّة { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } أي قد وسعنا أرجاءها، فرفعناها بغير عمد حتّى استقلّت كما هي. وفي روح المعاني نجد: {وَٱلسَّمَاء } أي وبنينا السّماء { بَنَيْنَـٰهَا بِأَييْدٍ } أي بقوة ، ومثله ـ الآد ـ وليس جمع يد { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } أي لقادرون من الوسع بمعنى الطّاقة. وننهي بما قاله ابن عاشور حيث نقرأ : وابتدئ بخلق السّماء لأنّ السّماء أعظم مخلوق يشاهده النّاس. واستعير لخلق السّماء فعل البناء لأنّ منظر السّماء فيما يبدو للأنظار شبيه بالقبّة ونصب القبّة يُدعى بناءً.
والأَيْد: القوّة. وأصله جَمع يد، ثم كثر إطلاقه حتى صار اسماً للقوة. والمعنى: بنيناها بقدرة لا يقدر أحد مثلها. والمُوسِع: اسم فاعل من أوسع، إذا كان ذا وُسع، أي قدرة. وتصاريفه جائية من السَّعة، وهي امتداد مساحة المكان ضدّ الضّيق، واستعير معناها للوفرة في أشياء مثل الأفراد وغيره.. 
الآية (3): أمّا هذه الآية فأهمّيتها بالنّسبة لموضوع المقال تأتي من فعل الرّفع من ناحية ووضع الميزان من ناحية ثانية فلنر ما قيل فيها ونبدأ بالطّبري فنقرأ : وقوله: { والسَّماءَ رَفَعَها } يقول تعالى ذكره: والسّماء رفعها فوق الأرض.وقوله: { وَوَضَعَ المِيزَانَ } يقول: ووضع العدل بين خلقه في الأرض. أمّا ابن كثير فيرى في {وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ } العدل. ونجد عند الألوسي: {وَٱلسَّمَاء رَفَعَهَا } أي خلقها مرفوعة ابتداء لا أنّها كانت مخفوضة ورفعها، والظّاهر أنّ المراد برفعها الرّفع الصّوري الحسّي، ويجوز أن يكون المراد به ما يشمل الصّوري والمعنوي بطريق عموم المجاز أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يرى جوازه. ورفعها المعنوي الرتبي لأنّها منشأ أحكامه تعالى وقضاياه ومتنزل أوامره سبحانه ومحلّ ملائكته عزّ وجل. وَ{وَضَعَ ٱلْمِيزَانَ } أي شرّع العدل وأمر به والميزان مستعار للعدل استعارة تصريحيّة. ونختم بإن عاشور الذي يكتب: ورفع السّماء يقتضي خلقَها. وذُكر رفعها لأنّه محلّ العبرة بالخلق العجيب. ومعنى رفعها: خلقُها مرفوعة إذ كانت مرفوعة بغير أعمدة كما يقال للخيّاط: وسّع جيب القميص، أي خِطْه واسعاً على أن في مجرّد الرّفع إيذاناً بسموّ المنزلة وشرفها لأنّ فيها منشأَ أحكام الله ومصدرَ قضائه، ولأنّها مكان الملائكة، وهذا من استعمال اللّفظ في حقيقته ومجازه. وتقديم السّماء على الفعل النّاصب له زيادةٌ في الاهتمام بالاعتبار بخلقها.و{ الميزان }: أصله اسمُ آلة الوزن، والوزن تقديرُ تعادُلِ الأشياء وضبط مقادير ثقلها وهو مِفعال من الوزن... وشاع إطلاق الميزان على العدل باستعارة لفظ الميزان للعدل على وجه تشبيه المعقول بالمحسوس.
تعليق
إن أهمّ ما يمكن أن نحتفظ به من هذه التفاسير هو التالي : 
- إن استعمال لفظ البناء عند ذكر السّماء يأتي على سبيل التّشبيه لأن العرب كانوا يتخيّلونها سقف قبة كما أنّه استعير لخلق السّماء فعل البناء لأنّ منظر السّماء فيما يبدو للإنسان من الأرض شبيه بالقبّة ونصب القبة يُدعى بناءً كما يقول ابن عاشور.
- إنّ كل ما يمكن أن نجده من معان لهذا البناء مع ما تسمح به اللّغة طبعا كالقول بأنّ السّماء سمّيت بناء لعلوها على الأرض، هو ما يذكره القرآن نفسه من أنّ السّماء سقفا محفوظا مثلا أو أنّها رفعت فوق الأرض بدون أعمدة نراها أو أنّها سقفا مرفوعا أو أنّها بنيت بقوّة وقد ذكرت تلك المعاني في آيات صريحة لا يسمح المجال لعرضها إذ أنّ لفظ السّماء ذكر مئات المرّات في القرآن الكريم وسنعود إلى موقفنا منه لاحقا.
- أمّا بالنّسبة لكلمة أيد فهناك إجماع على معنى القوّة الذي يسمح به اللّسان العربي وهو جمع الآد وليس جمع اليد.
- وكلمة موسعون التي هي اسم فاعل من أوسع، ففيها القول بالحقيقة وبالمجاز مثلها مثل فعل رفع. فيرى البعض أنّ موسعون تحيل إلى المعنى الحقيقي أي ضدّ الضّيق أو بتعبير آخر الامتداد في الحيز الفضائي المحاط بالسّماء-السّقف أي توسيع أرجائها ويرى آخرون أنّها تدل على الطّاقة والقدرة الإلهيّة. وقد استفرد المعنى المجازي لفعل الرّفع في تفسير الآيات إذ أن رفع السّماء هو دليل على سمو منزلتها وشرفها وهي منزلة تحمل النّظرة القديمة للتّصور للعالم باعتباره مكوّن من جزأين سفلي متغيّر وفان وعلوي كامل وأزلي في حين أنّنا نقرأ في القرآن الكريم أنّ الله هو اله في السّماء والأرض على السّواء كما في الآية 84 من سورة الزّخرف. 
- وأخيرا فإنّ في تعبير «وضع الميزان» فقد فهم الميزان على أنّه استعارة مجازيّة للعدل بين الخلق. 
- إنّ السّماء هي كما تبدو للعين المجرّدة قبّة زرقاء مرفوعة فوق الأرض وقد استدعى بناؤها قوّة هائلة وذلك بحكم  ضخامتها، قوّة جبارة لا يمكن أن تكون إلاّ إلهية. وهذا البناء، المرفوع ضرورة، يمكن أن يكون مرفوعا بأعمدة لا ترى أو بدون أعمدة أصلا كما جاء في تأويل الآية 2 من سورة الرّعد. تلك هي الصّورة إذن للبناء السّماوي وهي في جزء منها انعكاس لما يبدو للعين المجردة وفي جزء آخر عناصر تخبر عنها الآيات وتؤول باعتماد المجاز إذ لا مجال لإنكارها وهي وحي من الخالق وكان لا بدّ من إضفاء معنى لها لا يتناقض مع ظاهر السّماء من ناحية ويستوعب ما تخبر به الآيات ولو لزم الأمر إلى الاستعانة في الكثير من التّأويل بالمجاز من ناحية ثانية. 
لكن لو حاولنا تجاوز هذه التّفاسير وما تنقله من صورة بديهية عن السّماء وما تحيل إليه من مجموعة المفاهيم المجازيّة كالقوّة والعدالة وغيرها ممّا نجده في التّفاسير وتسلّحنا بما أصبح لدينا من معارف تتعلّق بالسّماء بمعنى الكون كما سنوضح ذلك وتقيّدنا بالمعاني اللّغوية التي يسمح بها لسان العرب للكلمات التي نعتبرها مفاتيح وهي بناء، رفع، أوسع، الميزان والاييد، لو حاولنا ذلك فهل بمقدور الآيات تلك أن تستوعب الحقائق العلميّة سواء تلك التي يجمع عليها العلماء أو تلك التي رغم بعدها النظري فإنّها تتمتع بقبول واسع في السّاحة العلمية العالميّة؟ هذا ما سنحاول القيام به في المقال القادم ...