الأولى

بقلم
فيصل العش
الحرّية.... ترياق نهضة الشعوب
 إنّ من يراجع تاريخ نهضة الأمم والشّعوب يكتشف أنّ وراءها إيمانًا بفكرةٍ ورغبةً في تحقيقها. هذا الإيمان وهذه الرغبة لا يجتمعان إلاّ في إنسان متشبّع بالحريّة. فالحرّية هي القاسم المشترك بين كلّ الأمم التي تمكّنت من بناء نهضتها، لأنّ الحرّية على المستوى الفردي والجماعي هي أساس قويّ وحيويّ للعمل والإبداع، فالقدرة على العطاء تتناسب طرديّا مع وعيّ الإنسان وشعوره بحرّيته، فكلّما كان الإنسان حرّا كانت قدرته على التّفكير في التّغيير ومن ثمّ الإبداع والابتكار والرّغبة في تحسين العمل والأخذ بزمام المبادرة أكبر. قد لا تكون الحرّية وحدها أداة النّهوض، ولكنّها بالتّأكيد أحد دعائمه المركزيّة، فهي متطلّب أساسيّ وحيويّ للنّهوض الإنساني والاجتماعي، ومن ثمّ التّقدم في مختلف مجالات الحياة.
فالحرّية أولاً، إذ هي باختصار شديد ترياق نهضة الشّعوب والأمم، لهذا فإنّ الشّعوب التي تفتقد الحرّية لا يمكن أن تصنع حضارة بل لا يمكن أن تصمد أمام الصّعوبات أو تتجاوز العراقيل التي تقف أمام نهضتها. والشّعوب المكبّلة بأغلال الظّلم والاستبداد لن تصنع تنمية وإبداعاً. ويبدو هذا بارزا في البلاد العربيّة والإسلاميّة التي بالرّغم من ثرواتها الطبيعيّة الطائلة، فهي بلاد مازالت ترزح تحت نير التخلّف والتبعيّة، لأنّ شعوبها تعيش أزمة فقدان الحرّية وتعاني قمعا واستبدادا سياسيّين واقتصاديّين واجتماعيّين مصدرهما قوى قمعيّة داخليّة وخارجيّة بالإضافة إلى ثقافة دينيّة تحول دون الإنسان ونفسه، وتحرمه من التّعبير عن طاقاته التي تؤهّله لتجاوز تخلّفه والانطلاق في تحقيق نهضته.
ولأنّ تفكيرنا مستمر في الإنسان العربيّ ومشاغله وبحثنا متواصل في كيفيّة الارتقاء به، ومادام التّفكير في موضوع الحرّية هو أصلا تفكير في الإنسان ككلّ، والعكس صحيح، فقد ارتأينا الغوص، من خلال سلسلة من المقالات، في مبحث «الحرّية» بما نستطيع وبما تجمّع لدينا من معارف ومعلومات، لعلّنا نساهم في اكتشاف أسباب غياب «الحرّية» عن مجتمعاتنا العربيّة الإسلاميّة ونجيب عن أسئلة تتعلّق بمدى حضورها في ثقافتها.
ونتيجة ليقيننا بأهمّية هذا المبحث وصعوبة بل خطورة الغوص في بحره، فإننّا سنحاول قدر المستطاع أن نوغل فيه برفق وبتأنّ منطلقين في هذا المقال بالبحث في معنى كلمة «الحرّية» لغة واصطلاحا 
الحرّية .... لغة
يعود أصل مصطلح «الحرّية» إلى الكلمة اللّاتينيّة (Liber) وتعني القدرة على القيام بعمل والتّحرك بالحدّ الأدنى من القيود. وفي لسان العرب تعني كلمة «الحرّية» لغوّيا نقيض العبوديّة : « الحُرّ بالضمّ نقيض العبد، والحرّة نقيض الأمة، والجمع حرائر ويقال حرّ العبد يحرّ حرارة أي صار حُرّا»(1)  فالحرّية «هي المقابل المناقض للعبوديّة، والحرُّ ضدّ العبد والرقيق، وتحرير الرقبة عتقها من الرقّ أو الترك المعبّر عن إرادته، التي هي شوق الفعل أو الترك، في أي ميدان من ميادين الفعل، وبأي لون من ألوان التعبير الحرّ» (2) 
وبالعودة إلى جذر الكلمة في العربيّة «حرر» نجد سائر تصاريف الكلمة تدلّ على معان فاضلة ترجع إلى الخلوص والخيار من كلّ شيء، والفعل الحسن واستقلال الإرادة، ومنها تحرير الحرير أي تخليصه من الشّوائب (3)
وتحمل مادّة «حرّر» عند عبدالله العروي أربعة معان متميّزة: «الأول معنى خُلقي وهو الذي كان معروفا في الجاهليّة وحافظ عليه الأدب. نقرأ في اللّسان: الحرّة تعني الكريمة، يقال ناقة حرّة ويقال ما هذا منك بحرّ أي بحسن. والثاني معنى قانوني وهو المستعمل في القرآن مثلا «تحرير رقبة مؤمنة» (سورة النساء،92) وفي كتب الفقه مثلا : «ولا يقتل حرّبعبد ويقتل به العبد» (رسالة القيرواني). والثالث معنى اجتماعي وهو استعمال بعض متأخري المؤرّخين «الحرّ هو المعفى من الضّريبة». والرّابع، معنى صوفي: نقرأ في تعريف الجرحاني: «الحرّية في اصطلاح أهل الحقيقة الخروج عن رقّ الكائنات وقطع جميع العلائق والأغيار وهي أعلى المراتب»» (4) ويستنتج العروي من عرضه فائدتين «الأولى أنّ الصيغة المألوفة هي الصّفة ومشتقاتها: حرّ، محرّر، تحرير. أمّا المصدر الأصلي، حريّة، فإنّه يستعمل للتّمييز بين من كان حرّا منذ الولادة وبين من كان عبدا ثمّ أعتق. في اللّسان : «يقال حرّ الرجل حرّية من حرّية الأصل لا حرّية العتق» والفائدة الثّانية هي أنّ المعاني الأربعة تدور حول الفرد وعلاقته مع غير ذاته، سواء كان ذلك الغير فردا آخر يتحكم فيه من الخارج أو قوّة طبيعيّة تستعبده من الدّاخل» (5)
الملاحظ أن لفظ «الحرّية» لم يكن حاضرا في اللّغة العربيّة بنفس المعنى الذي حملته اللّغات الأوروبيّة، فلفظ الحرّية وما اشتقّ منه يفيد في اللّغة العربية معنى مضادّا لمعنى الرّقّ والعبوديّة، وغياب المفهوم عن اللّغة لا ينفي حضوره في الوعي والإدراك على حدّ قول «عبدالله العروي». فقد تحدّث الفلاسفة المسلمون عن الحرّية بالاعتماد على كلمات أخرى في باب الحديث عن القدر، والجبر والاختيار، وفيما إذا كان الإنسان مخيّراً أم مسيّراً.
الحرّية .... اصطلاحا
حظي مبحث «الحرّية» باهتمام كبير في الفكر الإنساني، وتناوله الفلاسفة والحكماء بالتّحليل والتّدقيق، وقد ذهبوا في بحثهم عن مفهوم مصطلح الحرّية مذاهب شتّى تتّفق في جوانب وتتناقض في أخرى، وذلك لما يستبطنه هذا المفهوم من أبعاد متكاثرة ومتنوّعة؛ اجتماعيّة وسياسيّة وفلسفيّة. لكنّ جميع هذه التّعاريف تتّفق في جامع واحد، وحقيقة مشتركة واحدة، هي «القدرة على الفعل والاختيار».
ولهذا يمكن أن نعرّف الحرّية في مفهومها العام كما عرّفتها الموسوعة العربيّة العالميّة بأنّها « الحالة التي يستطيع فيها الأفراد أن يختاروا ويقرّروا ويفعلوا بوحي من إرادتهم دونما أيّة ضغوط من أيّ نوع عليهم» (6) وهي «تلك الملكة الخاصّة التي تميّز الكائن النّاطق من حيث هو موجود عاقل يصدر في أفعاله عن إرادته هو، لا عن أيّة إرادة أخرى غريبة عنه. فالحرّية بحسب معناها الاشتقاقي هي عبارة عن انعدام القسر الخارجي، والانسان الحرّ بهذا المعنى هو من لم يكن عبدا أو أسيرا. ومن هنا فقد اصطلح التّقليد الفلسفي على تعريف الحرّية بأنّها اختيار الفعل عن رويّة مع استطاعة عدم اختياره أو استطاعة اختيار ضدّه، بيد أنّنا لو رجعنا إلى المعاجم الفلسفيّة لوجدنا أنّ كلمة «الحّرية» تحتمل من المعاني ما لا حصر له»(7) 
فهناك المعنى السّياسي والمعنى الاجتماعي والمعنى الاقتصادي وهناك المعنى النّفسي والمعنى الخُلُقي، ولها معان يتّصل بعضها بالعلم وأخرى بالميتافيزيقيا، ولهذا اختلف الفلاسفة الغربيّون في تعريف «الحرّية» فهي تعني عند «مولينا - Molin» و«بوسويه -Bossuet» «حرية الاختيار القائمة على الإرادة المطلقة أو حرّية استواء الطّرفين ومفاده أنَّ الحرّ هو من يقرّر حين تُعطى كلّ الشّروط الواجب توافرها للفعل، أن يفعل أو لا يفعل، أو أن يفعل الشّيء أو ينقضه» (8) ومقابل ذلك ينكر «فيورباخ - Feuerbach» حريّة الإرادة بالقول:«إنّها تكرارٌ خاوٍ للشّيء في ذاته»(9) والحرّية عند «كانت - Emmanuel Kant»  مفتاح الوجود، والتي ستجعل منها الفلسفة الوجودية، فيما بعد، قيمة القيم؛ بل ضرورة وجودية للإنسان تتأسّس عليها ماهيّته، حيث سيصبح الإنسان، بلغة «سارتر - J.P.Sartre»، محكوماً عليه أن يكون حرّاً، فـ«الانسان لا يمكن أن يكون حرّا تارة وعبدا تارة أخرى، فهو إمّا أن يكون حرّا دائما وإمّا أن لا يكون شيئـا على الإطلاق».(10)  وأمّا «ليبنتس - Leibinz» فيربط بين الحريّة والعقل:« فتكون الحرّية أوفر كلّما كان الفعل صادراً عن العقل، وتكون أقلّ كلّما كان صادراً عن الانفعال، ويرى أنَّ حريّة الاستواء غير ممكنة، لأنّها تناقض مبدأ العلّة الكامنة»(11) . 
أمّا «برجسون- Henri Bergson» فيفسّر الحرّية بأنها تقدّم تلقائي تسقط من النّفس سقوط الثّمرة من الشّجرة، فـ«الفعل الحرّ تقدّم متّصل يبدأ بنوع من العزم، ثمّ ينمو هذا العزم وينضج مع النّفس كلّها، إلى أن يصدر عنها كما تسقط الثّمرة النّاضجة من الشّجرة» (12) ويذهب «هايدغر- Martin Heidegger» إلى أنّ الحرّيّة ليست « هي ما يريد الحسّ المشارك أن يمرّره تحت هذا الاسم فقط: تلك النزوة التي تنبثق فينا أحيانا وتدفع باختيارنا إلى هذا الطّرف أو ذاك. إنّ الحرّية ليست مجرّد غياب الإكراه المتعلّق بإمكانياتنا في الفعل أو عدم الفعل، كما أنّها أيضا لا تكمن في طاعة أمر أو ضرورة ما ( ومن ثمة موجود ما) وإنّما هي قبل كل هذا، انفساح المجال أمام انكشاف الموجود من حيث هو كذلك» (13) فهي إذن القدرة الّتي ينفتح بها الموجود على الأشياء، وهو يكتشف الوجود من حوله، وهي الّتي تؤمّن التّوسّط بين عالم الوجود وعالم الأشياء، بيد أنّها ليست موقفاً سلبيّاً، بل هي مجهودٌ فعّال، لأنَّ الموجود ليس شفّافاً منذ البداية للإنسان، ولهذا فإنَّ الحريّة تنطوي دائماً على المخاطرة بالوقوع في الخطأ.
أمّا «هيغل - Hegel» فيرى أن «الحرّية هي جوهر وماهية الرّوح والغاية المطلقة للتّاريخ، فصفات الرّوح لا توجد إلاّ بواسطة الحرّية وأنّها كلّها ليست إلاّ وسيلة لبلوغ الحرّية (...) إنّها هي في ذاتها الهدف الذي تريد بلوغه والغاية الوحيدة للرّوح، وهذه النّتيجة هي الغاية الوحيدة التي يستهدفها باستمرار مسار التّاريخ الكلّي(...) هذه الغاية النّهائيّة هي الغرض الذي وضعه الله للعالم(...) وعلى الرّغم من أنّ الحرّية هي في الأصل فكرة غير منظورة (أي جوّانية) فإنّ الوسائل التي تستخدمها هي على العكس خارجيّة وظاهريّة، تتمثل في التاريخ أمام أنظارنا »(14) 
تبدو الحرّية الذّاتية عند هيغل، يقول «ماركس - K.Marx» «حرية فارغة (صوريّة)(...) لأنّه لم يتمثل بالتحّديد الحرّية الموضوعيّة كتحقيق وتجلّ للحرّية الذّاتية» (15) ويعرّف الحرّية كونها تكمن في معرفة قوانين الطبيعة والعمل على أساسها، فهي لا تتحقق إلاّ « عندما يتحكّم الإنسان الإجتماعي-الجماعي أي المنتجون المتشاركون في تبادلهم المادّي مع الطّبيعة تحكّما عقلانيّا، ويضعونه تحت رقابتهم الجماعيّة، بدل أن يسيطر هو عليهم كقوّة عمياء ويحقّقون ذلك بأقلّ إنفاق للقوى وفي ظلّ أفضل الشّروط وأكثرها جدارة بطبيعتهم البشريّة وأكثرها تواؤما مع هذه الطّبيعة»(16). فيصبح دور الإنسان أن يأخذ مكانه في مجرى الحركة التاريخية التي تتحرّك من خلال الصّراع الطبقي الذي يحدّده التّناقض الكامن داخله بين علاقات الإنتاج وأدواته. 
وقد ذهب بعضهم إلى استحالة فهم «الحرّية» فهما عقلّيا مجرّدا لأنّها ليست بالشّيء الذي يمكن تحديده، فلا يمكن إدراك الحريّة إلاّ بالفعل الذي تتحقّق بمقتضاه كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف الفرنسي «لافال - L.Lavelle» أوعلى ضوء نقيضها، فالحرّية تصبح خاوية على حدّ قول «ياسبارس - K.jaspers » إذا لم يكن ثمّة شيء يضادّها. فلابدّ للحرّية أن تواجه صعوبات أو محظورات إن وفِّقتٌ في التعبير لكي تتحول الحرّية من مجرد رغبة إلى قيمة.
ومن بين أهمّ المذاهب الفلسفيّة السّياسية الغربيّة التي تأسّست على فكرة «الحرّية» وطالبت بها، المذهب اللّيبيرالي الذي اتخذ من لفظ الحرّية مادّة لسانيّة لتسميته، فكلمة «الليبراليّة» هي في اللفظ الفرنسي «ليبراليزم - liberalisme» ويرجع من حيث الاشتقاق اللّغوي إلى لفظ «ليبرال-libéral» أي الحرّ، المشتقّ من لفظ «ليبرتي-liberté» أي الحرّية. وميلاد الحرّية بمدلولها الفردي انطلق مع فلاسفة هذا المذهب في القرن الثامن عشر ومن بين هؤلاء «هوبز- Thomas Hobbes» الذي يفهم الحرّية كونها الخلوّ من القهر الماديّ وانعدام القسر أي أنّها لا تتحقّق إلاّ عبر التّغلب على العوائق الخارجيّة من عادات وقوانين اجتماعيّة، والتّغلب على العوائق الدّاخلية من أهواء وعواطف، و«كلّ فعلٍ يتمّ وفقاً لدوافع، حتّى لو كان الدّافع هو الخوف من الموت، يُعدُّ حرّاً، والإنسان يكون حرّاً بقدر ما يستطيع التّحرّك على طرقٍ أكثر»(17) ويُعتبر المفكر الإنجليزي «جون لوك- Locke» المؤسّس للليبرالية كفلسفة مستقلة، فقد كان ينادي بالحقّ الطّبيعي للفرد في الحرّية وربط بين الحرّية والاختيار، «فالحريّة تعني أن نفعل أو لا نفعل بحسب ما نختار أو نريد»(18) 
الحرّية : معانٍ كثيرة والهدف واحد
ورغم هذا الاختلاف، فإنّ الفلاسفة والمفكرين يتّفقون بشأن الهدف المرجو تحقيقه من وجود «الحرّية» وهو تحقيق التّكامل الإنساني بما أنّ الحرّية هي مدخل لتحقيق إنسانيّة الإنسان، ترفع عنه القيود الماديّة والمعنويّة التي تكبّل طاقاته وانتاجه، فتجعله منسجما مع ذاته، قادرا على إحداث التوازن بين قدراته وطاقاته المختلفة وتنميتها. إنّها كما يعرفها الدكتور عبدالستار قاسم: «وحدة الذّاتي والموضوعي والتّي تحقّق الانسجام: انسجام السّلوك الإنساني مع خلق الانسان الموضوعي، وانسجام الانسان الذاتي مع العالم الموضوعي خارج الذّات الانسانيّة. وعندما يحقّق الانسان وحدة داخليّة ووحدة مع العالم الخارجي فإنّه يتحرّر من التّناقض ويصبح كامل الحرّية»(19) و«قوة الحرّية في الإنسان إنما تكمن في ذاته بمقومات التفاعل مع الكون كلّه، فيندمج به والحرية هي المدى الذي يبلغه الانسان في القدرة على التفاعل»(20)
والحرّية مرتبطة أساسا بالكائن البشري العاقل، يبحث عنها دوما في شتّى الدروب المتاحة والممكنة لأنّها « معرّفة بالعقل والإرادة، مشروطةٌ بهما»(21) ولا يمكن حسب د. زكريا ابراهيم «الحديث عن الحرّية إلاّ إذا اقترنت بإرادة التّحرر لدى الانسان، تحرّر من سيطرة الآخر وتحرّر من سيطرة الأنا وشهوات الانسان ولذّاته. وهذا يعني أن الانسان لا يكون حرّا حين يكتفي بممارسة تلقائيته بل يصبح حرّا بمعنى الكلمة حينما يعمل على توجيه تلك التلقائيّة في اتجاه التحرّر الحقيقي، فليست الحرية إذا مجرد انبثاق للتلقائيّة وإنّما هي تعبير حيّ عن خلق الشّخصية وتحقيق القيم الذّاتية»(22) وتذهب «حنة آرنت-Hannah Arendt» إلى أنّ إرادة التّحرّر لا تكفي بل «أن تكون حرّا، لا يستوجب الأمر التحرّر فحسب، ولكن مصاحبة أناس آخرين يقتسمون نفس الوضعيّة، كما يقتضي كذلك فضاء عموميّا مشتركا للالتقاء مع النّاس، عالم منظم سياسيا، والذي يمكن للنّاس الأحرار الانخراط فيه بالقول والفعل» (23) وهذا يقودنا إلى التّساؤل عن حدود الحرّية في حضور المسؤوليّة ومبدأ العيش المشترك.
حدود الحرّية
 لئن دعا عدد من فلاسفة الغرب إلى الحرّية المطلقة وكون الإنسان الحرّ هو الذي يفعل ما يريد، فإنّ عددا آخر لا يستهان به اعتبر تلك الحرّية مطلبا هلاميّا غير واقعي، لأنّ الوعي بالحرّية لا يجري في عالم الفكر المجرّد، بل في عالم التّجربة الاجتماعيّة الحيّة ولأنّ الحرّية في النّهاية أمر يكتسبه الإنسان ليس كفرد فحسب وإنما كجماعة أيضاً متفاعلاً مع سائر أبنية المجتمع، فالإنسان بطبعه لا يعيش منفردا وإنّما ضمن جماعة ما وكما أنّ له حقوقا وواجبات فهي متّصلة بتفاعل مستمر مع حقوق وواجبات غيره من النّاس. ولا يكون الإنسان حرّا بالفعل، إلاّ حينما يكون جميع الناس المحيطين به، أحرارا أيضا. فـ «حرية الغير، وبعيدا عن أن تكون حدّا أو نفيا لحريتي،هي على العكس من ذلك شرطها الضروري وإثباتٌ وتأكيدٌ لها»(24)  ولهذا فإنّ الحرّية الفردّية لا معنى لها خارج منظومة الحرّيات العامّة التي ينظمها القانون، «ففي الحرية العامّة ليس لأحد الحقّ في أن يفعل ما تحرمه عليه حرّية الآخرين، إنّ الحرّية الحقيقية لا تدمر نفسها بتاتا. وهكذا نجد أن الحرية دون عدالة تعدّ تناقضا حقيقيّا فلا حرّية دون قوانين ولا حرّية عندما يكون الأشخاص فوق القانون» (25) و«لا يمكن للحرّية في الدّولة، أي في المجتمع ذي القوانين، أن تقوم على غير القدرة على فعل ما يجب، وعلى عدم الإكراه على فعل ما لا يراد فعله ... فالحرية هي حقّ فعل كلّ ما تبيحه القوانين فإذا استطاع أحد النّاس القيام بما تحرّمه القوانين فقد حينئذ الحرّية، وذلك بقدرة الآخرين على القيام بمثل ما فعل»(26) ولهذا دعا عدد كبير من فلاسفة ومفكري الغرب إلى بناء دولة « غايتها القصوى ليست السّيادة أو إرهاب النّاس، أو جعلهم يقعون تحت نير الآخرين، بل هي تحرير الفرد من الخوف، بحيث يعيش كلّ فرد في أمان بقدر الإمكان، ويتسنّى لهم استخدام عقولهم استخداما حرّا دون إشهار لأسلحة الحقد أو الغضب أو الخداع، فالحرّية هي إذن الغاية الحقيقية من قيام الدولة»(27) لكنّ مفهوم الدّولة يحمل في ذاته سلطة والسّلطة قد تتحوّل إلى أداة قمع للحرّية لهذا سعى فلاسفة ومفكرون آخرون إلى ضبط حدود حرّية الدّولة، عبرالدعوة إلى توزيع السّلطات وبعث المؤسّسات الدّستورية للمراقبة وتشريك المجتمع المدني حتّى لا تتغوّل الدولة على حساب حرّية المواطن، «فهناك حاجة إلى الحرّية لمنع الدولة من استغلال سلطتها، وبحاجة إلى الدولة لمنع استغلال الحرّية»(28) 
وجه الصورة وقفاها
لقد أدّى الاهتمام الواسع للفلاسفة والمفكرين في الغرب بمبحث الحرّية منذ عصر الأنوار إلى إبرازها كضرورة إنسانيّة أكيدة ممّا أنتج حدوث تغييرات عميقة في المجتمع الأوروبي وتحقيق نهضته وتحوّلت بذلك الليبرالية من مذهب فلسفي سياسي في أوروبا إلى تيار منتشر في العالم يرى فيه النّاس منقذا لهم من الاستبداد ومحقّقا لهم أسباب النّهضة ومرشدا لهم في طريق الحداثة. ولكنّ ما تحدثنا عنه إلى حدّ الآن هو وجه الصّورة لا قفاها. لقد تطرقنا إلى الجانب النّظري من إشكالية مفهوم الحريّة في الفكر الأوروبي ولكنّنا لم نستعرض المؤثّرات العمليّة التي حكمت ذلك المفهوم أي صيغة تمثّل الحرّية وسيرة هذا التمثّل في التّاريخ. فجميل أن ندعو إلى الحرّية ولكن حرّية من؟ وكيف تكون تلك الحرّية؟ وهل تصدّى المفكرون والفلاسفة في أوروبا لمفهوم الحرّية بروح إنسانيّة شاملة أم بروح إغريقيّة رومانيّة قديمة، فقاموا بتوسيع مفهوم الأحرار من أثينا وروما إلى حدود أوروبا في حين ظلّت شعوب ما وراء البحار في نظر هؤلاء من العبيد والرعاع الذين لا يستحقون الحرّية وبالتالي لا تشملهم؟ ولهذا فإنّ الصورة لا تكتمل إلآّ عبر الانتقال بالتحليل إلى مستوى النموذج أي التطبيق. فهل حقّا حرّرت الليبرالية عملّيا الإنسان؟ أم أنها اقتصرت على الإنسان الأوروبي لاغير؟ وهل كان حقّا هدفها تحرير الإنسان أم تغيير شكل استغلاله؟ 
واذا كانت الحضارة الغربية قد تفوّقت على غيرها من الحضارات في رعاية «الحرّية» كقيمة، فهل يعني هذا أن الحرّية حكر على الحضارة الغربيّة، وهل أنّ كلّ دفاع عن قيمة الحرّية هو تقليد لمذاهبها اللّيبرالية؟
للحديث بقيّة....
 الهوامش
(1) ابن منظور، محمد ابن مكرم، لسان العرب، الجزء 4، ط.1 بيروت دار صادر ص.181 
(2) أ.د. محمد عمارة، إزالة الشبهات عن معاني المصطلحات، دار السلام، ط.1 - 2010م، ص354 
(3) الطاهر أحمد الزاوي، ترتيب القاموس المحيط،1/616، ط. دار الكتب العلميّة- بيروت 1979 
(4) عبدالله العروي، مفهوم الحرية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط.5 - 1993، ص13
(5) المصدر نفسه، ص14 
(6) الموسوعة العربيّة العالميّة، 9/298، ط.1 - الرياض 1996
(7) د.زكريا ابراهيم، مشكلة الحرية، مكتبة مصر ، دار الطباعة الحديثة، ط.2 -  ص.16
(8)  د. بدوي عبد الرحمن، موسوعة الفلسفة ج1، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1984، ص460  
(9)  المصدر نفسه،  ص.461 
(10)  جون بول سارتر، الوجود والعدم، بحث في الأنطلوبولوجيا الظاهراتية، ترجمة عبدالرحمان بدوي، دار الآداب بيروت ط.1 ،  ص.704-707 (بتصرّف) 
(11)   د. بدوي عبد الرحمن، موسوعة الفلسفة ج1، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1984، ص460 
(12) كميل الحاج، الموسوعة الميسّرة في الفكر الفلسفي والاجتماعي. ط.1، مكتبة لبنان ناشرون2000-، ص 100.
(13)  مارتن هايدغر، في ماهية الحقيقة، ضمن كتاب التقنية - الحقيقة - الوجود، ترجمة محمد سبيلاوعبدالهادي مفتاح، المركز الثقافي العربي، ط.1، 1995،  ص.25 
(14)   ماركس، نقد فلسفة الحقوق عند هيغل،دار كوست «Coste» للنشر باريس 1952، ص31 
(15)   ماركس، راس المال المجلّد الثالث، ترجمة د.فالح عبدالجبار، ط3، دار الفارابي، 2012، ص952 
(16)   هيغل، محاضرات في فلسفة التاريخ (العقل في التاريخ) ترجمة د.إمام عبدالفتاح إمام، ط3، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، 2007، ص86-89 
(17)  د. بدوي عبد الرحمن، موسوعة الفلسفة ج1، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1984، ص460 
(18)  المصدر نفسه،  ص.460 
(19)  قاسم عبدالستار، الحرية والتحررية والالتزام في القرآن،  ص.71
(20) محمد أبو القاسم حاج حمد، حرية الانسان في الإسلام،  ص.41
(21) د.عزمي بشارة، مقالة في الحرّية، المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات، الطبعة الأولى، جوان 2016 - ص.27
(22) محمد بهاوي، الحرّية، نصوص فلسفية مختارة ومترجمة، دار إفريقيا الشرق للنشر، ط.1 الدار البيضاء 2014 -  ص.75
(23) د.زكريا ابراهيم، المرجع السابق -  ص.238
(24) ميخائيل ألكسندر رونتش باكونين، إمبراطوريّة ألمانيا القمعيّة، ضمن الأعمال الكاملة،ج1، نشر ستوك،باريس 1895، ص281. 
(25) جون جاك روسو ، العقد الاجتماعي - دار الحرف القنيطرة المغرب 2007
(26) مونتيسكيو، روح القوانين، ترجمة عادل زعيتر دار المعارف بمصر القاهرة 1953 ، ص 227.
(27) باروخ سبينوزا رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة حسن حنفي، دار الطليعة، بيروت، ط.4، 1997، ص. 446-447
(28) كارل بوبر، في الترجمة والفلسفة السياسية والأخلاقيّة، ترجمة عزالدين الخطابي، منشورات عالم التربية، ط.1، 2004، ص.94