قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
بأية حال عدّت يا رمضان؟
عاد الشّهر الكريم مرّة أخرى ليكون شاهدا على النّاس و ليكون حجّة على من شهد الشّهر ولم يصمه أو نبع خير لمن صام إيمانا واحتسابا. عاد الشّهر الفضيل ليكون ضيفا على حياة المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها، وهو ضيف مبجّل يحتفي به أيّما احتفاء ويحبّه الصّغير كما يحبّه الكبير ولا يختلف فى حبّه حتّى الذين لا يصومونه، حيث أنّه يُدخل على حياتهم تغييرا رغم إرادتهم، ولا مفرّ لهم من مجاراة حياة النّاس التي تسير على وقع الشّهر الكريم.

شهر رمضان هو أعظم الشّهور عند المسلمين، فيه نزل القرآن وفيه فُرضت الصّلاة وفيه ليلة خير من ألف شهر. وفى شهر رمضان يكون النّاس على موعد مع عبادة لا يمارسها معظمهم إلاّ مرّة واحدة فى السّنة ولكنّهم يحرصون رغم ذلك على إيلائها مكانة لا تحظى بها بقيّة العبادات وخاصة فى المغرب العربي حيث يصوم من لا يصلّي، ويصلى من يستشعر الحرج فى رمضان فقط، فإذا انتهى الشّهر الكريم انقطع مجدّدا عن الصّلاة وهو يدرك أنّها عماد الدّين .للمسلمين أدب مع الشّهر عجيب ، فهم يجلّونه أيّما إجلال وينتظرونه بلهفة، صغارا وكبارا وقد تفنّنوا فى إطلاق الأسماء المرادفة لذكره فهو كريم ومبارك وأفضل الشهور وهو سيدي رمضان عند التّونسيّين مثلا وهو شهر التّوبة وشهر المغفرة وشهر الرّحمة ورمضان الخير والبرّ والتّقوى وهو شهر الرّزق الذي يأتى النّاس دون مكابدة . ولا يقتصر الأمر على الأدب مع الشّهر وإنّما يتبدّل حال النّاس مع الشّهر فيكونون أقرب إلى الله وعبادته منهم فى بقية الشّهور. وفى الأثر أنّ رمضان شهر الله وأن جزاء الصّوم العتق من النّار ولذلك ترى النّاس يحرصون على الشّهر حرص الرّاغب فى النّجاة من النّار وهم يدركون أنّ رمضان كفّارة للذّنوب .وللمسلمين تاريخ مع رمضان، فقد خاضوا فيه حروبا وفتحوا فيه بلادا كثيرة، ولم تكن مشقّة الصّوم لتمنعهم من تحمّل الصّعاب والسّعي فى سبيل الله فى مشارق الأرض ومغاربها صيفا أو شتاء، قدوتهم فى ذلك نبيّهم الذى كان أشدّ ما يكون عزما فى رمضان.ففي شهر رمضان فُتحت مكّة والأندلس وفيه جرت معارك القادسيّة وحطّين وعين جالوت وهي معارك فاصلة فى التّاريخ جلبت للمسلمين عزّا ونصرا كانوا فى أمسّ الحاجة إليه. ولم يكن القتال فى رمضان نزهة ولنا دليل فى قول أحد الشّعراء الذين شاركوا فى معركة القادسيّة مخاطبا قائده :  تذكّر هداك الله وقع سيوفنـــــا بباب قديس والمفر عسيــــر غداة تمني القوم لو أن بعضهم يعار جناحي طائر فيطيــــرعاد الشّهر الكريم ليكون فرصة أخرى من فرص التّوبة للمسلمين، لعلّ الله يغفر لهم ويبعثهم مقاما كريما وهو فرصة للخلاص لمن أراد الخلاص فى زمن لم تعد فيه للمسلمين مكانة تذكر لا كجماعة ولا كأفراد، بل صرنا غثاء كغثاء السّيل يضرب بعضه بعضا بكلّ أنواع السّلاح . فهل لهذا الخلاص من سبيل ؟ وكيف ينجو المرء في سفينة يأكلها المحيط؟إنّ العبادة فرديّة فى ظاهرها ولكنّها فى حقيقتها تكريس للإنتماء للجماعة بما هي جماعة مؤمنة تؤدي فى الآن نفسه العبادة نفسها وبذات الطّقوس، فهي فى المحصلة عبادة جماعيّة ومن ثمّ فإنّ أثر هذه العبادة يكون في الجماعة أوّلا  خيرا أو شرّا، فيكون الخلاص جماعيّا لا فرديّا ولكن هيهات. إنّنا للأسف جماعة تحسب أفرادها جميعا ولكن قلوبهم شتّى ولذلك لا يكون لعبادتنا أيّ قوّة تأثير فى واقعنا مهما حرصنا على إظهار حماسنا الجماعي نحوها ومهما بالغنا فى إحاطتها بمظاهر الإهتمام. إنّنا نريد النّجاة بالسّفينة بأداء العبادات دون الوقوف على مكنوناتها ودون أن يكون للعبادة أيّ أثر على سلوكنا الجماعي والفردي كأفراد منتمين لأمّة عظيمة لا كأفراد مسلمين.لسنا بصدد التّحقير من شأن فرديّة العبادة، فكلّ نفس بما كسبت رهينة ولا تزر وازرة وزر أخرى، ولكنّنا نطمع أن يكون للدّين أثر إيجابيّ فى حياة المرء منّا فينعكس ذلك الأثر على الجماعة القريبة وهكذا حتّى نصل إلى دائرة الأمّة . كلّما أقبل الشّهر الكريم تذكّرنا كيف كان استقبالنا له فى العام الفارط  وكيف كنّا نأمل لو أنّنا كنّا أفضل حالا كأمّة، غير أنّنا للأسف استقبلنا رمضان وودّعناه دون تغيير سوى للأسوء  وحال عامنا هذا لن يكون إلاّ أكثر سوءا. إننا لم ندرك بعد أن اختصار الدّين فى العبادات لن يزيدنا إلاّ بعدا عن روح الدّين، إنّ سعينا لإظهار الفرحة بشهر رمضان من خلال طلاء المساجد بطلاء جديد أو فرشها بفراش جديد أو من خلال الإكثار من دروس الفقه وحلقات حفظ القرآن، ليس إلاّ عملا محمودا غير أنّه يظلّ عملا ناقصا ما دام يقتصر على الطقوس العباديّة فقط واختزالها فى الجانب التعبّدي الفردي، إنّنا بحاجة لتجسيم المعاني الأخرى للصّوم و للحياة ضمن جماعة تعيش على نفس الأرض ولها نفس الأهداف، جماعة مصيرها واحد وطاقتها واحدة .قبل سنــوات قليلــة كتبت عن الفقر ومقاربته من خلال استلهام معاني الصّبر والتكافل فى الشّهر الكريم أو من خلال اتّباع سيرة المصطفي صلّى الله عليه وسلم والذي كان أجود ما يكون فى رمضان وقد خلصنا فى مقالنا ذاك إلى أنّه بالإمكان القضاء على الفقر فى رمضان ولو مؤقّتا من خلال حركة تضامنيّة واسعة بين عموم الجماعة المسلمة فى الوطن الواحد، فهل اختفى الفقر يوما أو ليلة واحدة فقط ؟ لقد أصبح الفقراء يخافون من حلول الشّهر الكريم وهم يعلمون أنّ لا قبل لهم بمصاريفه وسط إقبال غيرهم على الاستهلاك المفرط دون اهتمام بغيرهم. فردانية فى السّلوك الحياتي كما هي فى السّلوك التّعبدي، إذ كما يبحث الفرد عن الخلاص الفردي فى الآخرة يبحث أيضا عن الإشباع الفردي فى الدّنيا دون أدنى ارتباط بالجماعة.عاد الشّهر الكريم ليكون شاهدا علينا وسيصومه أكثرنا فى ربوع الأرض كلّها غير أنّنا سنجعل منه مرّة أخرى شهرا كبقيّة الشّهور ما دمنا لم نوفّه حقّه ولم نعتبر من مقدمه.