شخضيات

بقلم
التحرير الإصلاح
رفاعة رافع الطهطاوي...عصفور غرّد خارج السرب
 رفاعة الطهطاوي هو عالم أزهري اتخذ لنفسه سبيلا مختلفا عن الآخرين، في زمن كانت فيه مصر خاصّة والعالم الإسلامي عامّة في حاجة إلى من يوقظها من سباتها الذي طال ومن الجهل والتخلّف الذي تغلغل في مختلف مجالات الحياة. اعتبره البعض من أبرز رواد النهضة وقادتها في مصر (في عصر محمد علي)والعالم العربي بل ذهل البعض إلى اعتباره الأب الروحي للنهضة العربية والتنوير في مصر الحديثة، في حين اعتبره البعض الآخر صاحب السبق والريادة في إدخال العلمنة بما تعنيه هذه الكلمة من تهميش الإسلام، وإقصائه عن إدارة شؤون المسلمين. 
وُلد رفاعة رافع الطهطاوي في 15 أكتوبر 1801، بمدينة طهطا إحدى مدن محافظة سوهاج بصعيد مصر، لقي عناية من أبيه، فحفظ القرآن الكريم، ثمّ من أخواله من الشيوخ والعلماء - بعد وفاة والده - فحفظ على أيديهم المتون التي كانت متداولة في ذلك العصر، وقرأ عليهم شيئا من الفقه والنحو. ثمّ التحق وهو في السادسة عشرة من عمره بالأزهر أين تتلمذ على يد عدد من العلماء الأجلاّء الحديث والفقه والتصوف والتفسير والنحو والصرف.. وغير ذلك. وفي سنة 1821، جلس للتدريس وهو في الحادية والعشرين من عمره، والتف حوله الطلبة يتلقون عنه علوم المنطق والحديث والبلاغة والعروض، ثم ترك التدريس بعد عامين والتحق بالجيش المصري النظامي الذي أنشأه محمد علي إماماً وواعظاً لإحدى فرقه، واستفاد من هذه الفترة الدقة والنظام.
في سنة 1826 كان رفاعة أحد ثلاثة من علماء الأزهر اصطحبوا بعثة محمد علي العلمية إلى فرنسا لدراسة العلوم والمعارف الإنسانية. بدأ رفاعة في أثناء ذلك تعلم اللّغة الفرنسية ولذلك قررت الحكومة المصرية ضمّ رفاعة إلى بعثتها التّعليمية، وأن يتخصّص في التّرجمة، وقبل أن يتقدّم رفاعة للامتحان النهائي كان قد أنجز ترجمة اثني عشر عملاً إلى العربيّة.
في سنة 1832، عاد إلى مصر وكانت قد سبقته إلى محمد علي تقارير تفوقه وامتيازه في مجال الترجمة، فكانت أولى وظائفه مترجماً بمدرسة الطب، ليغدو أول مصري يتولى هذا العمل. كان رفاعة الطهطاوي يأمل في إنشاء مدرسة عليا لتعليم اللغات الأجنبية ؛ فتقدم باقتراحه إلى محمد علي ونجح في إقناعه بإنشاء مدرسة للمترجمين عرفت بمدرسة الألسن، وقد تخرجت الدفعة الأولى في المدرسة في 1839، وعندما تولى الخديوي عباس الأول الحكم أغلق المدرسة وأمر بإرسال رفاعة إلى السودان.
إلى جانب عمله مدرساً بمدرسة الألسن، تجلى المشروع الثقافي الكبير له؛ ووضع الأساس لحركة النهضة التي صارت في يومنا هذا، بعد عشرات السنين إشكالاً نصوغه، ونختلف حوله يسمى الأصالة أم المعاصرة! كان رفاعة أصيلاً ومعاصراً من دون إشكالٍ ولا اختلاف، ففي الوقت الذي ترجم فيه متون الفلسفة والتاريخ الغربي، ونصوص العلم الأوروبي المتقدِّم؛ نراه يبدأ في جمع الآثار المصرية القديمة ويستصدر أمراً لصيانتها ومنعها من التهريب والضياع.
بعد أربع سنوات في المنفى توفي الخديوي عباس فعاد رفاعة إلى القاهرة بأنشط مما كان، فأنشأ مكاتب محو الأمية لنشر العلم بين الناس وعاود عمله في الترجمة (المعاصرة) ودفع مطبعة بولاق لنشر أمهات كتب التراث العربى (الأصالة). ولم يكتف رفاعة بهذه الأعمال العظيمة، فسعى إلى إنجاز أول مشروع لإحياء التراث العربي الإسلامي، ونجح في إقناع الحكومة بطبع عدة كتب من عيون التراث العربي على نفقتها، في 1854، وتولى نظارة المدرسة الحربية، ثم أغلقت تلك المدرسة بدورها ، وبعد تولي الخديوي إسماعيل الحكم عاد الطهطاوي وتولى نظارة الترجمة عام 1863 لترجمة القوانين الفرنسية. ثم عهد إلى الطهطاوي إصدار مجلة روضة المدارس عام 1870. وظل يكتب فيها مباحث ومقالات حتى توفي في 27 ماي 1873.
اشتهر الطهطاوي في العالم العربي بكتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» الذي خطه بتوجيه من شيخه حسن العطار الذي تولى مشيخة الأزهر عام 1246هـ، حيث حكى فيه ما عاشه من وقائع خلال سفره لباريس. ويعتبر أول نافذة أطل منها العقل العربى على الحضارة الغربية الحديثة.
يُعلن الطهطاوي أن مراده مما دونه في كتابه هو حث «ديار الإسلام على البحث عن العلوم البرانية والفنون والصنائع» ويبدو ممّا جاء فيه أنّ أفكار الثورة الفرنسية قد تركت رواسب عميقة داخل نفسه بالرغم من تعليمه الأزهرى. فقد دعا إلى تكريس فكرة المواطن والحرّية واحترام القانون فـ«معنى الحكم بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين، بحيث لا يجوز الحاكم على إنسان، بل القوانين هي المحكمة والمعتبرة» إذ كان يعتقد أن المجتمع الصالح هو المجتمع المبنى على أسس العدالة. وأن الهدف من الحكومات هو رعاية مصالح المحكومين. وأن الشعب لا بد له من المشاركة فى الحكم. لذلك يجب إعداد أفراد الشعب لهذا الغرض. وكان يرى أن القانون يجب أن يكون ديناميكيّا. يتغير تبعا للظروف. وأن الحكام الصالحين فى وقت ما, ليسوا بالضرورة صالحين فى كل وقت. وأن حب الوطن هو أساس كل الأخلاق السياسية 
وقد بدا تأثر الطهطاوي بوضعية المرأة في فرنسا من خلال حرصه على نقل صورتها ـ عبر كتابه- في أدق التفاصيل وإن اقتصر في دعوته بخصوصها على ضرورة تعلمها وخروجها لسوق الشغل دعما للرجل في مسار التقدم وهجر معاقل التخلف، واقترح إدخال تعليم البنات في مصر.
وعلى الرغم من كل هذه الإسهامات، لم ينج الطهطاوي من اتهامات «التغريب» و«تخريب الهوية الإسلامية» بفعل القراءات المتعجلة لما كتبه مع أنه في مجمل ذلك، وإن كان معجباً بتقدم الفرنسيين المادي إلا أنه أبدى رفضاً واضحاً لكثير من عاداتهم الاجتماعية