وجهة نظر

بقلم
محمد المعالج
علاقات افتراضية
 يسعى العديد من الأشخاص في خضم الهيمنة الواسعة لشبكات التّواصل الاجتماعي على العقول والأذهان إلى التّواصل مع الآخرين قصد سبر أغوارهم. فقد بات جليّا أن «الفايسبوك» صار همزة الوصل بين كلّ من يريد إقامة علاقات افتراضيّة عبر الشّبكة العنكبوتيّة ممّا ساهم في تقريب المسافات وإزالة الحواجز الجغرافيّة والثقافية بين النّاس. ونتيجة لذلك، أصبح من السّهل الحديث عن تطور هذه العلاقات من مجرّد دردشة بريئة إلى مشاعر حبّ ومودّة تتوج أحيانا بالزّواج. فإلى أيّ مدى يمكن أن تنجح هذه الزّيجات؟ وماهي الدّوافع الكامنة وراء انتهاج سبل من هذا القبيل؟
  تتعدّد العلاقات العاطفيّة عبر مواقع التّواصل الاجتماعي كالفايسبوك وتويتر وغيرها من الوسائل الحديثة التي أصبحت بمثابة الملاذ الذي يلجأ إليه شباب اليوم ويجد فيه ضالته لأسباب عديدة. إذ يرى خبراء علم النّفس أنّ العلاقات الافتراضيّة لا تعدو أن تكون مجرّد نزوة أو حالة من الفراغ العاطفي والنّفسي التي قد يمرّ بها الشّباب خلال فترات معيّنة من عمره، حيث يكون الإنسان خلالها مؤهّلا لإقامة علاقات مجهولة يضفي عليها طابع السّرية والخصوصيّة بصرف النّظر عن تأثيراتها وتبعاتها. 
وتشير الأبحاث الحديثة إلى أنّ معظم المرتبطين بعلاقة عن بعد يتحدّثون أكثر من الذين يعيشون في مدينة واحدة ولكنّهم يتفاعلون بشكل أعمق وأكثر وضوحا من الآخرين. ويرى باحثون أنّ هذا التّفاعل من شأنه أن يساعدهم على التّعرف على بعضهم البعض. فالعلاقات التي تنشأ بين شخصين تفصل بينهما مسافات متباعدة ترتكز في المقام الأول على الحميميّة العاطفيّة أكثر من الحميميّة الجسديّة، لذا، فإنّ الحبّ هو المحرّك الفعلي لكلّ علاقة قد تجمع بين رجل وامرأة وهو ما يجعلها تستمرّ أكثر من العلاقة التي تبنى على الانجذاب الجسدي. بالتّالي، وجب عدم التّسرع في إصدار الأحكام المسبقة بشأن هذه العلاقات التي بالرغم من غموضها وضبابيتها إلاّ أنّها تمثّل أرضيّة ملائمة لزيجات قد تستمر لعقود طويلة إذا ما التزم الطّرفان بالمسؤوليّة والوعي الرّشيد في العلاقة.   
وعن أسباب اللّجوء إلى مثل هذه العلاقات، يذهب بعض المتخصّصين في العلاقات الاجتماعيّة إلى أنّ الفراغ النّفسي وعدم توفّر أنشطة مفيدة موجّهة للشّباب تعدّ أبرز العوامل التي تدفع الشّباب نحو إقامة علاقات عاطفيّة عبر الانترنت. 
كما أنّ الفطرة تدفعهم إلى الحبّ والارتباط من خلال هذه الطّريقة إضافة إلى وجود مشكلات داخل الأسرة وعدم الاهتمام النّفسي وغياب لغة الحوار من شأنه أن يحفز الشّاب أو الفتاة إلى اقتحام عالم الشّبكة العنكبوتية بحثا عن فضاء حرّ يتبادل فيه مع غيره الآراء والأفكار حول عدّة مواضيع. هذا فضلا عن رغبة الشّاب والفتاة في إقامة علاقات عاطفيّة مع أشخاص تربط بينهم قواسم مشتركة. وقد نصادف بعض الفتيات اللّواتي يحبّذن ربط علاقات افتراضيّة مع من يكبرهن سنّا سعيا لإيجاد نوع من التّكامل الذي لا يتسنّى لهن إلاّ في ظلّ وجود رجال ناضجين يعرفون معنى الصّدق والإخلاص. وتجدر الإشارة في هذا السّياق إلى أنّ بعض المراهقات تبحثن عمّن يصغي لهنّ ولهواجسهن، فلا يلبثن حتّى يقعن في شرك أحدهم في إطار سياسة البوح التي تتوخّاها الفتاة بحكم طبيعتها الأنثويّة، ثمّ تتطور العلاقة تدريجيا إلى أن تتّخذ شكل الحبّ المزيّف. 
وقد ساعدت عدّة عوامل في انتشار هذه العلاقات الافتراضيّة من أهمها الحالة الاقتصاديّة المتردّية التي تمرّ بها أغلب الدّول العربيّة، ممّا جعل معظم الشّباب العربي يعدل عن فكرة الارتباط وتكوين أسرة إضافة إلى غلاء المعيشة وزيادة متطلبات الزّواج وانتشار البطالة. كلّ هذه الأسباب من شأنها أن تدفع الشّباب العربي نحو الشّعور باستحالة تحقيق أحلامه وطموحاته العاطفيّة ممّا ينعكس على سلوكه الشّخصي. و قد يجد بالتّالي ضالّته في مثل هذه العلاقات التي تبنى عن بعد ولا تكلّفه الكثير سوى بعض الوقت لكي يفرغ طاقته ويعالج مشاكله النفسية. 
وإذا أردنا التوقّي من تداعيات العلاقات العاطفيّة النّاشئة عبر مواقع التّواصل الاجتماعي، فعلينا أن لا نجعل مقاربتنا العلاجيّة مقتصرة على الرّقابة وإنّما ينبغي الاشتغال على سبل توفير فضاءات تواصل موجّهة للشّباب من الجنسين قصد توظيف طاقاتهم الكامنة في مشاريع تنمويّة قادرة على إحداث نقلة نوعيّة في حياتهم. كما أنّ من شأن هذه الأنشطة توفير مساحات حرّة للشّباب يستغلّونها لأجل التّعارف والتّلاقي الإيجابي نظرا لعائدات هذه الملتقيات سواء على المستوى الشّخصي أو الجماعي. فالمشاركة اهتمام وتواصل مبني أساسا على مبدأ الحوار ممّا يؤهّل الشّاب والشّابة على حدّ السّواء لملء أوقات فراغهم النّفسي والاجتماعي.
وبالإضافة إلى مدى شعور الشّباب بالانتماء والولاء للوطن، فإنّه يجب ألاّ نتغافل عن أهميّة تعزيز الوازع الدّيني لدى هؤلاء الشّباب بحكم تأثيره العميق في إحساسهم بالمسؤوليّة والرّقابة الذّاتية التي تنبع بالدّرجة الأولى من الدّاخل، ومن ثمّة فهي تحول دون إقدامهم على إشباع احتياجاتهم العاطفيّة بطريقة خاطئة وعدم الوقوع في المحظورات. فالارتقاء بالوعي الدّيني في صفوق الشّباب يمثّل دعامة أساسيّة لهذه الشّريحة المجتمعيّة الهشّة في مواجهة فتن العصر.
ففي صورة وجود علاقات اجتماعيّة ناجحة وقائمة على الحوار والانفتاح على الآخر، فلن يكون هناك داع للتّفكير في إقامة علاقات عاطفيّة مفرغة من المعنى في عالم افتراضي لا تتوفّر فيه أبسط مبادئ الشّفافية والثّقة. و ليس أدل على ذلك من تواتر جرائم التّحيّل والإبتزاز عبر الانترنت ممّا يستدعي إعادة النّظر في منظومة حماية مستخدمي هذه الشّبكة التي مازالت تمارس فنّ السّحر على الكثيرين ممّن أبوا إلاّ أن يسجّلوا حضورهم وانضمامهم الفعلي حديثا وليس حادثا.