قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
أزمة أم أزمة وعي
 (1) 
البلد في أزمة والأزمة تتفاقم يوما بعد يوم، وكلّما لاح ضوء في النّفق ازداد النّفق طولا وظلمة. هل في هذا التّوصيف مبالغة ؟ هل يعني هذا أنّ التّفاؤل صار ضربا من الخيال الحالم؟ هل أنّ قدرنا أن نظلّ في صراع مع ظلمة النّفق دون أمل في رؤية النّور؟
(2)
سر في هذا البلد باتجاه الشمال يطالعك الإخضرار في كلّ ناحية، بساتين غناء من الزّياتين والكروم وأشجار البرتقال والفرولا والإجّاص وحقول شاسعة ينبت فيها الزّرع من القمح والشّعير كأنّها جنّات عدن.
وسر فيه جنوبا تجد حقولا أخرى للزّرع والرّمان والحنّاء وما يحتاجه النّاس في عيشهم من كلّ أنواع الخضر في بساتيــن يحفّها النّخل كأنّما يحتضنها احتضانا. وسر فيه وسطا تجد ما لا حصر له من بساتين بها الآلاف من أشجار الزّيتون في منظـر بديـع، ومع الزّيتون كل أنواع الثمار مما تشتهيه الأنفس. أما إذا سرت نحو شطّ الجريد وما يتاخمــه من بلاد، فإنّك سـوف تبتهج بمرآى الآلاف من أشجـار النّخيل التي تجود على زارعيهـا بأنواع من التّمور غاية في الجودة وحلاوة المذاق. لكلّ ذلك لم تكن تونس الخضراء يوما إلاّ إسما على مسمّى وهي بلاد يطيب فيها العيش ولا يجد ساكنها إلاّ ما يسر، إنّها باختصار بلد الخير والخيرات منذ العهود القديمة، فمن أين جاءتنا الأزمة إذن؟
(3)
عدد السّكان في تونس عشرة ملايين أو تزيد قليلا وكذلك فإنّ نسق النّمو السّكاني ليس مخيفا، حيث أنّ نسبته تعدّ مقبولة بل ويخشى من تناقصها إلى الحدّ الذي قد يهدّد المجتمع بالتهرّم في المدى القريب إذا استفحلت الأزمات أكثر وخاصة منها أزمة الشّباب. وفي كلّ الأحوال فإنّ العدد الحالي للسّكان لا يمكن أن يشكّل عبئا في بلد مازال فيه حجم الاستثمار الفلاحي دون المأمول، حيث يكاد الخبراء فى الميدان يجمعون على أنّنا نتوفّر على إمكانيات ضخمة لم يقع استغلالها بعد بالقدر الذي يتيح لنا مزيدا من الانتاج وفرصا أكبر للنّمو.
العلّة إذن لن تكون بحال من الأحوال فى التّزايد السّكاني، وهي كذلك ليست فى شحّ الموارد، فأين مكمنها إذن؟ ولماذا نتّجه نحو الإستثمار في مشاريع ليس الآن أوانها ونهمل الاستثمار في الفلاحة التى هي عماد الاستقلال وقد قيل فى المثل «لا حياة لشعب يأكل من وراء البحار»؟
(4)
يكثر في هذه الأيام الحديث عن الثروات الباطنيّة المنهوبة وعن تلك التى تستخرج من باطن الأرض ولا يكون لسكّانها أي فائدة أو ريع من وراء استخراجها ومن ثمّ يأتي الحديث عن ضرورة إعادة النّظر في كيفية استغلال ما هو باطني من الثّروات لجهة إعادة تثمينه بعقود جديدة أو لجهة إعادة النّظر في كيفة استغلاله حتّى تعمّ فائدته القريبين منه قبل أو مع البعيدين عنه.
وبغض النّظر عن صحّة ما يُقال عن امتلاكنا لثروات طبيعيّة هائلة من عدمه وعن كلّ ما يمكن أن يحيط بمظاهر الإحتجاج من ريبة وشكّ، ومع تقديرنا أنّنا إزاء أمر لم يكن متاحـــا لنـــا الحديث فيــه قبــل الثّــورة وهو بذلك أمر كان محفوفا بالسّرية والغموض، إلاّ أنّنا في النّهايــة أمام أزمة أخرى مــع ماهـــو في باطن الأرض قد تكون أشدّ تمظهــرا من تلك الأزمــــات التى عانيناهـــا ونعانيهــا مع ما هو فوق الأرض ونحن بالتالي أمام مفارقة أخرى من المفارقات التي ستضطرّنا عاجلا أو آجلا إلى إعادة النّظر في الكثير من المسلمات التى بنينا عليها دولة ما بعد الاستقلال لعلّ أهمّها على الإطلاق مسلّمة الاستقلال نفسها، فأيّ معنى لاستقـلال لا تكون لنا فيه سيادة على باطن الأرض وعلى ثروات الأجيال السّابقة واللاحقة.
(5)
ليتنا أمام أزمة مظاهرها مادّية صرفة، إذا لكنّا اتخذنا سبلا مادّية لعلاجها ولكنّا صبرنا قليلا أو كثيرا حتى اجتزنا عقباتها ولكنّنا أمام أزمة طالت الإنسان نفسه حتى صار جزء من الأزمة وأصابه اليأس والقنوت وبات عاجزا عن إدراك الحل. إنّنا إزاء مسألة بالغة التّعقيد حيث أنّ العدد الأكبر من السّكان هم من الشّباب ومن ثمّ فشريحة الشّباب هي المعنيّة أكثر من غيرها بأزمة المجتمع وهي الأكثر تفاعلا مع تجلياتها المختلفة.
قبل الثورة كان جليّا مقدار ما يعانيه الشّباب من تأثّر بأزمات المجتمع المختلفة وعلى كلّ الأصعدة السّياسية والاجتماعية والأقتصادية والثقافية. ولقد ظلّ هذا الشّباب يصدر الإشارة تلو الأخرى لعلّ المجتمع والدولة يلقيان بالا لإزمته الخانقة ومن أبرز هذه الإشارات على الاطلاق نزوعه نحو العنف الفردي والجماعي والتي كان من مظاهرها مثلا كثرة المنحرفين فى الأحياء الشّعبية والتطوّر اللاّفت لنسب الجريمة، بل إنّنا شهدنا في مناسبات كثيرة مظاهر للعنف الجماعي خاصّة أثناء المباريات الرياضيّة. فهل تغيّر الحال بعد الثّورة؟ ألا نرى الآن مظاهر أخرى من مظاهر العنف الفردي والجماعي إن استمرت فسوف تتّخذ حدّة أين منها مظاهر العنف القديمة؟
(6)
في زمن الاستبداد كنّا نضع كلّ بيضنا في سلّة السّياسة ونحمّل أنظمة الحكم وزر كلّ الأزمات والشّرور وفي زمن الثّورة والخيار الشّعبي ما زلنا نفعل الشّيء نفسه، مازلنا مجتمعا في مواجهة الدّولة أو النّظام وإن تغيّرت أشكال المواجهة. قبل الثّورة كنّا ننادي بالتّغيير الجذري من أجل استبدال نظام استبدادي بآخر ديموقراطي وكان الظّن أنّ هذا وحده سوف يكون كفيلا بالقضاء على كلّ أزماتنا في زمن قياسي، وبعد الثّورة ها نحن نشهد من جديد انفصالا تدريجيا للدّولة عن المجتمع وعودة مخيفة للحديث عن أزمة خطيرة تتعدّد مظاهرها لتطال كل شيء ولتهدّد المجتمع والدّولة. 
 إن رهاننا على السّياسي لم يصل بنا إلى التّغيير المنشود وهذا وجده ما يفسر هذه الدّعوات المقيتة إلى تمجيد الماضي والحطّ من شأن الحاضر، فهل العلّة في رهاننا على السّياسي أي على التّغيير من خلال الإصلاح السّياسي أم أنّ أخطاء الممارسة قضت على الحلم فى التّغيير وأربكت الفعل الثّوري كلّه؟ وهل يمكننا الحديث عن فعل إقتصادي أو تنموي أو ثقافي فاعل في ظلّ فشل الخيار السّياسي والسّياسيين على حدّ السّواء؟ وعلى ماذا علينا الرّهان إذن ونحن أمام مجتمع لا يتوفّر على بوصلة واحدة تحدّد له الاتجاه الصّحيح ودولة عاجزة أمام المجتمع وأمام أزماته المتفاقمة؟
(7)
إنّ التّعبير عن وجود أزمة ما لا يترجم وعينا الموضوعي والكامل بكنه هذه الأزمة وسبل علاجها ولنا في الثّورة خير مثال. وكذا فإنّ الانتقال بواسطة الثّورة من الاستبداد إلى الديمقراطية لا يعني انتقالا من تعبير مزلزل عن أزمة هيكليّة داخل المجتمع إلى مقاربة إصلاحيّة لهذه الأزمة وإلاّ لكنّا انتقلنا من الثّورة إلى الحكمة لا إلى المطلبيّة المشطّة والتّناحر والانقسام.
إنّنا إزاء أزمة عميقة تتعدّد مظاهرها وتزداد تعقيدا يوما بعد آخر، وفي هذا الخضم ما زلنا نتناسي أننا نعيش على أرض لا ينتهي عطاؤها، فمتى ننتبه إلى أنّ هذا العطاء إنّما هو منّة الله للإنسان ووسيلة هذا الإنسان فى الرّقي والسمو بنفسه ووطنه من أجل خيره وخير الجميع أم أنّ فصول التناحر لم تكتمل بعد؟