قصص القرآن

بقلم
الهادي بريك
قصة موسى عليه السلام في مدين
 تذكير سريع
أولا : لئن كان القرآن الكريم ممتلئا بالقصص فإنّ القصص إمتلأ بأزيد من نصفه بالقصّة الإسرائيليّة ولا بدّ لمدّكر من عبرة قوامها أنّ الإيمان يجنى من القصّة والتّاريخ نظرا. وإعتبارا وأنّ الظّاهرة الإسرائيليّة ستظلّ معنا بسبب اكتظاظ الأرض اليوم بدويّ تلك الظّاهرة التي يراد لها أن تظلّ آمنة قويّة محتكرة لأسباب التّقدم.
ثانيا : حضور موسى عليه السّلام في تلك القصّة حضور قويّ، فهو بطل القصّة يظهر تارة مع قومه وتارة مع فرعون وأجناده هامان وقارون وتارة أخرى مع السّامري وتتبع مواضع ذكره يحتاج إلى سفر ضخم ولكن نعالج قصّته من مشهد إلى آخر.
سيرة موسى عليه السّلام مع أهل مدين
وردت القصّة في سورة القصص وذلك عندما قتل عليه السّلام رجلا على وجه الخطإ فكان مطلوبا لفرعون وجاءه النّذير يخبره أنّه عليه الفرار فخرج من مصر خائفا يترقّب وإنتهى به المطاف إلى بئر بمدين والتي أرسل إليها سبحانه شعيبا نبيّا وهي قرية من قرى شبه الجزيرة العربية. ورد الرجل المطارد بئر ماء ليطفئ لهيب ظمئه فما إن شرب حتى أبصر فتاتين تنتحيان مكانا تحجزان فيه رعيهما ولا تخوضان معركة الدلاء، فسألهما عن الأمر فأجابتا بأن أباهما شيخ كبير لا يقدر على خوض تلك المعركة الحامية التي يحتكرها الرجال الأقوياء الأشداء فأبت عليه شهامته التي لأجلها فرّ من مصر إلا أن يسقي لهما بما أوتي من بسطة في الجسم ثم إرتدّ إلى ظل شجرة يناجي ربه بدعاء مجمل عام لا يعلم كنهه سوى من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور سبحانه وما لبث إلاّ برهة حتى جاءته إحدى الفتاتين تحمل إليه دعوة من أبيها الذي يريد إثابته على مساعدة إبنتيه وقد رابه أن يرجعا في هذا اليوم باكرا على غير العادة. 
لبّى الرجل الغريب الدعوة وبعد تبادل الحديث أمّنه الشيخ ـ لعله يكون شعيبا ولعله لا يكون ولا عبرة بذلك ـ وفي الأثناء أشارت إحدى الفتاتين على أبيها أن يستأجره لخدمته فهو مستوف لشرطي الخدمة العامة : القوّة والأمانة فإستجاب الشّيخ المضيف صاحب البيت وعقد النّكاح بين موسى عليه السّلام وبين بنت شيخ مدين وكان المهر خدمة البيت لثماني حجج ـ أي سنين ـ شرطا مشروطا أو عشرا تفضّلا من النّاكح الذي منّ عليه ربّه سبحانه بالأمن النّفسي والجنسي في غضون يوم واحد. وفّى الزوج بمهر زوجه كاملا أي عشر سنوات ثم قفل راجعا بزوجه إلى مصر أرضه الأم وفي الأثناء أوحي إليه ليكون نبيّا رسولا كليما من أولي العزم.
أبرز العبر الملتقطة
مهمّة الإنسان الأولى هي تحرير نفسه
من يتتبّع الخطاب القرآني الكريم يدرك بيسر أنّ الله سبحانه يريد تحريرنا أوّلا ـ ومن أنفسنا أوّلا ـ فإذا تحرّرنا عرض علينا الإيمان ليكون تقبّلنا له عن بينة لا إكراه فيه ولا تقليد ولا إجترار أو رفضنا له عن بينة كذلك لا إكراه فيه ولا تقليد ولا إجترار، ولذلك نسب المشيئة في الإيمان دون سواه إلينا «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر». ولذلك جعل للإنسان المطارد فسحة في الأرض ليهاجر حيث يتحرّر من ضغوط القهر أمّا أن يذلّ الإنسان نفسه فلا لأنّه يحمّلها ما لا تطيق إذ الحرّية هي أكبر غريزة في الإنسان وعندما عبّر عن ذلك علماء النّفس في الحديث بقولهم أنّ أكبر غريزة معنويّة هي غريزة حبّ التّقدير والاعتبار فإنّهم يقصدون أنّ الشّعور بالحريّة والانعتاق هو الدّافع نحو جبلة الاعتبار والتقدير. لذلك بادر موسى عليه السّلام ـ ولم يكن إذ ذاك نبيّا بعد ـ إلى خوض مغامرة الهجرة من مصر حتّى مدين ـ أي مئات الأميال وبينهما في أكثر الشّريط الحدودي بحر والله أعلم إن كان سلك الطّريق البحري أم قدم عن طريق سيناء ـ والهجرة مغامرة سيّما في تلك الأيّام حيث قطع الطّريق وبعد المسافات عدا ما يشوبها من عذابات الابتعاد عن الوطن الأمّ الرّوحية للإنسان ولكن دون الحرّية التي لولاها لما كرّم الإنســان وعلّم وأعلي شأنه في الكون يهون كل شيء. لم يخبرنا القــرآن لماذا إختار موسى «مدين». ربما لعلمه أن تلك الجهة بصفة عامة هي محطات الوحي السالفة من إبراهيم وبنيـــه بل ربما كان يعلم أن بمديــن «شعيبا» نفسه وعلى كل حال جهة الشرق أوســـع مدى من جهة الغرب
التوكل على الله سبحانه أمضى سلاح
الإنسان كائن متوكل بالضرورة ولا وجود لإنسان لا يتوكل عند معانقة المشاريع الكبرى من مثل السفر البعيد والهجرة وخوض المغامرات ولكن إختلاف البشر هو في من المتوكل عليه فحسب، فمنهم من يتوكل على نفسه عبادة لهواه وإنسحاقا تحت أقدام الذات المتبرجة ومنهم من يتوكـــل على قوى غيبية وهو ما كان يفعله العربي تطيرا إذ يرمي الطائر بحجر فإن طار يمينا مضى وإن طار شمالا أحجم ومنهم من يتوكل على المشعوذيـــن في الغابر والحاضــر وقراء الكف والحظوظ الكاذبة التي يلقي بها اليوم شياطين الإنس يملؤون بها الفضائيات والجرائد ربطا زائفا بين تاريخ الميلاد وحركة الفلك ومنهم من يتوكل على الواحد الأحد سبحانه.
الإنسان إذن كائن متوكّل فلا يغرنك كاذب ينبذ التوكّل بفيه ـ أي بفمه ـ وهو كارع في التوكل الذي لا يزيده إلا إرتهانا وإنتكاسا حتى الأعناق والآذان. موسى عليه السلام ـ ولم يكن إذ ذاك نبيا ـ علمنا هنا أنه كائن متوكل على ربه الحق إذ قال وهو يخطو أول خطوة في مغامرة لا يعلم عذاباتها إلا الله سبحانه : «عسى ربي أن يهديني سواء السبيل». وقال قبلها : «ربي نجني من القوم الظالمين». التوكل قوة نفسية ضرورية لأن الإنسان كائن تقوده نفسه وليس جسمه والفارق الأكبر بين الفالح والخاسر في مشاريع الدنيا هو التوكّل إذ ينصر الله المتوكّل على غيره حتى لو كان توكله بغيره سبحانه لأنّ التوكّل مطلوب لذاته فإذا كان التوكّل على الوكيل الحقّ سبحانه فإن الإنسان يملأ فؤاده بالوقود الصافي الذي لا يجف ولا ينضب. النفس برئت على غير ما يهرف الدجّالون من عبيد الفكر الغربي بتوقانها إلى اللجوء إلى قوة غيبية عظمى تحتمي بها عند الشدائد والهجرة شديدة من الشدائد سيما في تلك الأيام ولذلك تهفو النفس إلى الإعتماد على قوة غيبية تضمن لها قوة وأمنا وقوتا.
التعامل مع النساء بين غلوين منكورين
منّا من يتأثّر أكثر من اللّزوم بالغلوّ الغربي فينفتح تعاملا مع النّساء انفتاحا يجور على الفطرة وتكون النتيجة فواحش مشاعة ولقطاء وإضمحلال مؤسسة الأسرة التي هي عماد المجتمعات ثم تفشـــو أسبــاب التدهــور والإنحطاط فينــا إذ الإنسان منجذب إلى الشّهــوة جبلة وفطرة وغريزة لا يحتاج إلى أمر بذلك وعندما يجد الإنسان ـ مرأة أو رجلا ـ موطنا يقضي فيه وطره الجنسي فإنه لم يعد يحتاج إلى زوج وبيت تكون له أعباؤه المالية والأدبية ثم يزين الشيطان ذلك للإنسان فليس هو إنحــلال وتسيب بل هو تحضــر وترق ومدنية وتطور. ومنّا من يتجه إلى الإتجاه المعاكس فيتأثر أكثر من اللزوم بالغلو الشرقي فينغلق تعاملا مع النساء إنغلاقا يجور على الفطرة وتكون النتيجة نشوء مجتمعين متوازيين في مجتمع واحد : مجتمع ذكوري ومجتمع نسوي وتتعثر العلاقات بينهما فلا تعاون ولا تعارف والحال أن النّكاح الذي به تنشأ الأسرة لا يكون إلا بعد تعارف بل إنّ التعارف مقصد الإسلام الأعظم بين الناس في الأرض كلها ومن ثمّ يجتهد المنسوبون إلى الدين بحق أو بغش في توفير أدبيات يغلب عليها تشنيع العلاقة بين الرجل والمرأة وتبشيعها وإحاطتها دوما بغالبية الفتنة وحضور الشيطان ومن ثمّ تلزم المرأة البيت فلا علم ولا تعلم ولا مشاركة ولا معرفة ولا مخالطة وإفادة من مدرسة الحياة وهي أعظم مدرسة للإنسان. 
قصة موسى عليه السلام يريد سبحانه أن يعلمنا من خلالها أن التعامل مع النساء عند الحاجة أو الضرورة هو تعامل مع الإنسان قبل أن يكون تعاملا مع المرأة لإن المرأة إنسان قبل أن تكون أنثى بل إن سؤاله عليه السلام هنا لإمرأتين أقوى رسالة لنا لأن المرأة بالنسبة إلى الرجل كائن ضعيف ماديا ولذلك عادة ما تكون بحاجة إلى مساعدة فإذا قام الدين المزيف حاجزا دون ذلك إرتددنا عن الدين من حيث نظن كذبا أننا نستقيم عليه. حتى لو ألفاهما لوحدهما يذودان لسألهما لأن كل أمر يفتح لك باب خير عليك ولوجه فإن لم تلجه بإسم تقوى الفتنة فإن الشيطان يضحك عليك إذ حبسك عن الخير بإسم الدين. 
هذا المشهد ينسحب على كل رجل يقدر أن المرأة في حالة تدعو إلى الإعانة سواء في مدرسة أو شارع أو معهد أو ريف أو حضر . ولكن سرعان ما نفثت الإسرائيليات في تراثنا لنعتقد أن صوت المرأة عورة ولا أظن أن تراثنا جنى على البشرية جناية أكبر من هذه وظلت الأعراف والتقاليد العربية تضيق على مساحات التواصل بين الرجال والنساء حتى ظن الجهلة أن ذلك هو الدين المدين الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام
فعل الخير هو خطة المسلم أينما حل وإرتحل
ليس لفعل الخير ميحط به يُحيط ولا زمان ولا مكان فهو كالمعروف والإحسان والتقوى من القيم الإنسانية المشاعة كلما كانت الفطرة أسلم. حتى وهو مهاجر عليه السلام وهو بحاجة إلى الخير فإنه عندما يقدر أن له خيرا يمكن أن يجود به على غيره لم يتردد ولذلك بادر بسؤالهما ولم تتردد الفتاتان بالإشارة إلى سبب ذودهما أي حبس رعيهما حتى يصدر رعي الرجال ولم يجل بخاطرهما أن صوت المرأة عورة بل إن العورة عند موسى الكليم عليه السلام هي أن يكون له فضل خير فلا يجود به تدينا كاذبا مزيفا أن يكلم إمرأة بل إن الرجال أنفسهم لم ينكروا عليه ذلك ولو كان ذلك منكرا عندهم لزجروه وهو الغريب بينهم. منّا من يظن أن فعل الخير لا يقدر عليه إلا الأقوياء الأشداء مالا أو جاها أو غير ذلك. وهذا موسى عليه السلام لا يملك من ذلك عدا البسطة الجسمية فلم يتردد ولو إنتظر المرء حتى يكون صاحب جاه أو مال ليساعد المحتاجين لمات وما فعل في الحياة خيرا. فعل الخير لا محيط به يحيط فهو متاح لكل من هب ودب ولا ينحبس عنه إلا شقي فلا تحقر من الخير شيئا ولو أن تقوم من مكانك في الحافلة لتجلس فيه عجوزا أو معوقا بل حتى لو ربتّ على كتف يتيم أنت وإياه في الفاقة سواء ولو فعل المرء في كل يوم خيرا واحدا لجمع في حياته مثل جبال تهامة خيرا. كما تدين تدان فلا تلقى من خير في الحياة وفي العسرة إلا بما قدمت من قبل للناس
الحياة : أمن نفسي وأمن جنسي
ما إن ضمن موسى لنفسه أمنه النّفسي إذ شرب وقدّم الخير للفتاتين وإرتدّ إلى الظلّ يحتسيه في يوم قائظ حتى دغدغته الجبلات الأخرى وما أكثرها وليس الإنسان سوى شبكة واسعة من الغرائز والفطر. دغدغته الجبلة الجنسيّة ومقتضياتها من بناء بيت والأنس بزوج وولد وغير ذلك مما هو محفور فينا. لذلك دعا ربه هذا الدعاء المجمل العام: «رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير». يعلمنا هنا أوّلا أنّه قبل الدعاء لا بد من أدب مع المدعو ـ أي الله سبحانه ـ وهو أدب البوء بحمد النعمة السالفة إذ أقرّ أنه سبحانه أنزل إليه خيرا كثيرا ولكنه يظل معه فقيرا. لم يخبرنا عن هذا الخير الذي هو إليه فقير ولكن الظاهر أنه شعر بالوحدة والحاجة إلى الأنس ولم لا إلى الحاجة الجنسية نفسها؟ أليس هو بشر ككل بشر؟ الأنبياء لا يتديون تدينا كاذبا مثلنا. الأنبياء يعلمون البشرية الواقعية الإسلامية القحة. ها هو قبل قليل يسقي لفتاتين فهو الآن يرجو أن يكون له زوج يقضي به وطره المادي والمعنوي معا سيما أنه في أرض غير أرضه ومن يكون ذا شأنه يحتاج إلى الزوج والأهل والأنس أكثر من حاجة من هو في موطنه. ربما لم يصرح بذلك إستحياء من ربه أنه قد أنعم عليه بالأمن والماء وربما فعل ذلك ليكون جوده سبحانه من كل خير ولكن المؤكد أن الله وحده سبحانه يعلم ما في صدر موسى وهو يملؤه بهذا الدعاء العجيب الذي يبوء فيه إليه سبحانه بفقره والإنسان فقير إلى ربه سبحانه كلما أنعم عليه بنعمة سأل التي تليها. الحياة حقا : أمن نفسي وأمن جنسي وأمن غذائي وموسى تحصل له منهما أمنان فهو بحاجة إلى الأمن الجنسي الذي يأتي بالبيت والزوج والأنس والولد والعمارة
زينة المرأة حياؤها المعتدل
هذا المشهد من قصة موسى عليه السلام يزخر بذكر المرأة. فهي التي سقى لها وهي التي طلبها في دعائه الضارع وهي التي تأتيه الآن على إستحياء وهي التي ستكون صاحبة المقترح بحضرة أبيها وهي التي ستكون له زوجا. المرأة بطلة رئيسة من أبطال قصة القرآن ونحن نجعل منها عورة. وليس هناك عورة في الحياة عدا من يعتقد أن المرأة عورة بصوتها أو بعملها. قال عن الفتاة : فجاءته إحداهما تمشي على إستحياء. إذا كان منطقنا الأعرج هو المقدم لم لم يرسل شيخ مدين إبنتيه معا إتقاء الفتنة؟ أليس فتاتان أتقى من فتاة لوحدها بحضرة رجل غريب؟. بل لم أصرّ شيخ مدين على إرسال فتاة أصلا إذ ليس له من يرسل لهذا الرجل الشهم من الرجال؟ لم لم تحضر قيمة الفتنة التي نجعل منها نحن اليوم الدين كله لنضيق على الناس وعمارة الأرض بإسمها. وبإسمها تحبس عنا واجبات وطاعات وقربات وفرائض منها العلم والبحث والإجتهاد والهجرة لطلب المال والعلم والنكاح والمشاركة في الحياة العامة سياسية ومالية وإجتماعية؟ أجل. تمشي الفتاة على إستحياء. ليكون حياؤها صهوة تمتطي ظهرها فهي المالكة لحيائها لأن حياءها فطري صحيح تلقائي لا مفتعل ولا مصطنع. هي من يملك حياءها وليس هو مفروض عليها وهي من تملكه وليس هو يملكها لأنه مسخر لها تقضي به وطرها. ليس هو حياء بل هو إستحياء ملكت أطرافه ووسعت جنباته فهو متمكن منها وهي متمكنة منه وليس هو حياء إلى التبذل أدنى.
ليس الحياء ملبسا ترتديه وإن كان الملبس مفردة منه وليس هو هيئة تتكلفها وإن كانت الهيئة جزء منه ولكن الحياء خلق فطري جبلي غريزي في الإنسان وهو في المرأة أعرق وأرسخ وهو رسالة المرأة إلى الرجل: أني إنسان أوّلا فإن أعجبت بي إنسانا أوّلا ثم قالبا ثانيا فالزوجية بيننا ممكنة. إستحياء بنت شيخ مدين لم يمنعها من القدوم إلى هذا الرجل الغريب الشهم لوحدها ولم يمنعها كذلك من مخاطبته بقولها: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا. لو كان صوتها عورة لما قالت ذلك ولما سجل القرآن ذلك على وجه البيان والقبول
في أيامنا هذه قد تصادفك إمرأة مختبئة وراء أسمال الحياء من لباس ساتر ولكن في عينيها وحركتها ما لا يعدمه بصير من أسباب الميوعة والإغراء وتصادفك الأخرى في أردية عادية لا تستر ما يجب ستره كله ولكن حياءها يفيض من عينيها وحركتها. الحياء مشهد نفسي وليس مشهدا جسميا ولكن الأسمال والحركات بريده الصادق
لا حرج في ثواب على خير
من ثمار التدين المزيف عندنا أن يستنكف المتدين الكذوب عن نيل ثواب معروض عليه بإسم التعفف المغشوش وقد يكون في حالة موسى عليه السلام أي في حاجة ماسة إلى مثل ذلك وهذا ما أنزل الله به من سلطان. التعفف يكون عبادة مقبولة عندما يكون عن شيء لا حاجة لك به أو هو يشكل حرجا على المثيب أما عندما تكون في حاجة وقد منّ الله عليك بثواب فلا تلزم التعفف الكذوب لأنه ركل لمنحة الله. ثواب الناس بعضهم لبعض سنة مسنونة في التاريخ البشري وفعل الخير الذي يهمّ به صاحبه إبتغاء مرضاة الله وحده سبحانه ثم يترتب عليه ثواب من حيث لم يكن يدري صاحبه يكون مأجورا مرتين : مرة في الدنيا ومرة في الأخرة فلا تكن أكثر إيمانا من الخليل إبراهيم عليه السلام الذي أوتي أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين كما أخبر عنه ربه سبحانه في كتابك. الله أكبر وأغنى من أن تظن أنه بأجر الدنيا يخصم لك من أجر الآخرة. تلك ثلمة في التدين
أكبر قانون عمراني يلتقط من في إمرأة
إمتلأ الكتاب العزيز بالقوانين العمرانية التي تبين مسالك النهضة وسنن الإندحار فهو كتاب سببي سنني عمراني إجتماعي بإمتياز شديد وليس هو كما يظن الحمقى كتاب حلال وحرام فحسب بل إن فسحة الحلال والحرام فيه لا تكاد تجاوز جزء واحدا من ألف ألف جزء من إنبساطاته الأخرى سيما في المسألة العمرانية التي لأجلها خلق الإنسان. أكثر ما إلتقطه القرآن الكريم من تلك السنن العمرانية العظمى كانت من أفواه النساء وهنا مثال إذ قالت الفتاة لأبيها بحضرة الرجل الغريب الذي ضمن الأمن من في صاحب البيت شيخ مدين بنفسه : إن خير من إستأجرت القوي الأمين. تلك قاعدة عمرانية عظمى معناها أن كل أجير يخدم قوما أو يقوم على شيء مهما كان الحقل لا بد أن يستوفي شرطي القوة والأمانة. القوة تعني العلم والمعرفة بما يفعل والأمانة تعني الوفاء والرحمة والحلم ولزوم النصيحة وليس الغش والكذب ولعل ذلك ينطبق اليوم أكثر ما ينطبق على الحكام والرعاة إذ أن الحاكم أجير كما قرر ذلك الفقه السلطاني القديم والأمة هي من يستأجره لخدمة قضاياها بكفاءة وخبرة وأمانة ونصيحة. لا أدري لماذا لا نطرح هذا السؤال وإلى متى نتجنبه : لم إلتقط القرآن أكثر السنن العمرانية العظمى في الحياة من أفواه النساء وليس من أفواه الرجال؟ الرجال لا يطرحون ذلك لأنّه في نظرهم القاصر يعيبهم والنساء لا يفعلن ذلك لأن أكثرهن يجهلن ذلك وبعض من هؤلاء وأولئك لا يطرح ذلك لظنهم أنه ليس مهما أو لأنه يصادم العادة ويخرق التقليد الذي ورثناه قوامه أن الفحل بفحولته وليس بأي شيء آخر هو الأكرم المفضل والمرأة بأنوثتها وليس بغير أنوثتها كائن ناقص من درجة منخفضة. ظني أننا نخفي ما الله مبديه ومن هذا شأنه لن يتقدم إلا على الطريق المسدود. نحن نهمل اليوم القانون نفسه فنرضى بالحاكم الضعيف الخائن كما نهمل السؤال الذي يبرز لنا أن المرأة كائن إنساني كينونة كاملة تامة مثل الرجل ولها أن تشارك كما فعلت بنت شيخ مدين في الحياة العامة تفكيرا وإنجازا. فأنى لنا بالتقدم؟
المرأة التي علّمت الحوار في البيت إمرأة إيجابية
لو لم يعلّم شيخ مدين إبنته هذه على الحوار في البيت قبل مجيء موسى عليه السلام ما كانت لتبادر بمقترحها في حضرة رجل غريب يطأ لأول مرة البيت والقرية بأسرها. أليس واقع بيوتاتنا أن المرأة آخر من يتكلم إذا تكلمت وسيما إذا كانت عذراء في خدرها؟ أليس تعامل بالزجر أن تصمت وألا تتدخل في الشؤون العامة فهي من تخصصات الفحل؟ لم نكذب على أنفسنا فنقرأ القرآن الذي يوجهنا بغير ما به نتوجه في حياتنا ثم نشفعه بقبلة وقولنا : صدق الله العظيم؟ أليس مقترح هذه المرأة وحكمتها هي التي سرّ بها أبوها وقبلها وكانت قارب النجاة لهذا الشيخ نفسه ولبيته ولرعيه ثم لهذا الرجل الغريب الشهم نفسه؟ أجل. كلمة واحدة ممن نعتقد أن صوتها عورة كانت كفيلة بحل مشكلة البيت ومشكلة الغريب وتوفير علاقة مصاهرة بين مدين ومصر.
حرب ذكاء مرة أخرى
أدهشني الخطاب القرآني وهو يعتمد حرب الذكاء في مواضع كثيرة منها كما أسلف في هذا المسلسل القصصي ما جرى من ذلك بين سليمان عليه السلام وبلقيس. هنا كذلك حرب ذكاء فهذا موسى يقول ضارعا: «إني لما أنزلت إلي من خير فقير». فأي خير يقصد على وجه التحديد؟ وهذه المرأة تقول : «يأ أبت إستأجره». فأي إجارة تقصد ؟ هل تقصد إستأجره على رعينا وشأننا أم أنها تومئ بذكاء عجيب وقّاد إلى النكاح؟ وهذا أبوها شيخ مدين يدرك الرسالة ببداهة وسرعة فيقول مباشرة لضيفه : «إني أريد أن أنكحك إحدى إبنتي هاتين» ..فما الرابط بين الإستئجار وبين النكاح؟ هو بيت الحكمة وهو بيت النبوة حيث تكون للكلمة معناها البعيد الذي يعالج بحروف قصيرة قليلة غزيرة فلا تصريح يخدش الحياء ولا إسرار بتقية الفتنة كما نفعل نحن تدينا كاذبا وبين الغلوين مندوحة للعمارة العادلة وأي عمارة أعدل من توفير نكاح بسيط صادق تلقائي بين هذا الرجل الغريب الشهم وبين هذه المرأة الذكية التي تجيد الحوار والمشاركة وهي تمتطي صهوة الحياء؟
وأي مهر هذا الذي يكون خدمة لا ذهبا ولا فضة ولا مالا؟ مهر يكون خادما للطرفين معا : فهو يخدم المرأة ببرّ أبيها بهذه الزيجة وهذه الخدمة لمدة عشر سنوات كاملات وهو يخدم الزوج نفسه في الآن نفسه ليرسخ أمنه في مدين ويعالج الحياة في بيئة أخرى ولا شك أن رعي الغنم والدواب الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام : ما من نبي إلا وقد رعى الغنم .. يورث الإنسان تجربة وهذا النبي ـ موسى عليه السلام ـ قيض الله له هذه التجربة في مدين
لسان الصالحين لسان صدوق
يصدق موسى عليه السلام أمره مع مضيفه ويبدأ العلاقة معه بالشهامة والمروءة حيال بنتيه الضعيفتين فيقابل ذلك من لدن الشيخ بمدين بالثواب المعجل : إضافة وتأمين وثناء على خصال القوة والأمانة ثم تناكح وتصاهر بمهر يفيد الجانبين معا وفي الأثناء يزكي شيخ مدين نفسه بلسان صدوق لا بد منه : ستجدني إن شاء الله من الصالحين … تزكية لا بد منها ليطئمن الرجل الشهم الغريب وهو الآن صهر وجزء من البيت ولكن تعليق ذلك بمشيئة الله سبحانه لا بد منه. عندما تبنى العلاقات في الحياة وفق هذا المنطق السليم شهامة ومروءة وتأمينا وتصاهرا وصدقا تكون الحياة حديقة غناء ظليلة وارفة يحلو فيها العيش وعندما تغزوها الذئاب المفترسة الجشعة النهمة فإنها تستحيل غابة حدباء لا يأمن فيها أحد من أحد
ذلك هو قانون الحياة : مراغم تكسبك تجربة ثرية
لا بد من معافسة الحياة ولا بد من الهجرة ومعرفة الناس ولا بد بأي وجه من الوجوه من جعل الحياة مدرسة تذيقك من ألوان التجربة الثرية ألوانا. ما كان موسى عليه السلام ليكون كليما ـ وهي من أعلى الدرجات مع الخلة الإبراهيمية ـ لو لم يهاجر ولو لم يؤثر على نفسه ليقدم الخدمة إلى البنتين ولو ركل ثواب هذا الشيخ تعففا كاذبا ما كان لينكح ولو أصرّ على مهر أدنى من ذلك ما كان ليأمن ويأنس من زوجه خيرا وأنى له بمهر عدا الخدمة فداء ببسطة جسمه وهو الغريب الباحث عن الأمن. ذلك هو قانون الحياة : معافسة ومعرفة للرجال وكسب للتجارب ومراكمة للمهارات أما القعود فيحسنه كل متبطل كسول