التدوينة

بقلم
محمد الصالح ضاوي
مشروع مصرف: القرض الحسن
 لما أهداني الدكتور «محمد الحاج سالم» كتابه: «من الميسر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية[1]، شرعت في قراءته وأنا حامل لسؤال العنوان، ومتوتّر من العلاقة التي يعلنها البحث بين مصطلحيّ الميسر والزكاة، من حيث الأصل البنيوي لكليهما... فالجمع بينهما في مثل هذا البحث، جديد ولم يسبق إليه...وكانت مناسبة لعرض آيات الزّكاة (الصّدقات) الواردة في القرآن على التّفكير، ولم أجد ما يشير إلى علاقة محتملة بين الزّكاة والميسر في ظاهر القرآن. 
ولما كانت خلفيتي الفكريّة عرفانيّة أكبريّة، تقبل بكلّ رؤية وكلّ تأويل، ولا تقصي طرفا، ضمن رؤية شموليّة وجوديّة ذات المستويات المتعدّدة، وعرفانيّة ذات التّجليات الكثيرة، حيث العين الواحدة لا تمنع الكثرة، كان عليّ القبول بتخريجات «الحاج سالم» باعتبارها وجها للمسألة، لا كلّ الوجوه، مع الانفتاح على مناقشته في تفاصيل كثيرة، تضمّنها البحث الدّؤوب والرّصين. وقادني التّأمل ثمّ البحث إلى وجود علاقة بين الزّكاة والرّبا، تتطلب تعمّقا بنفس التّحليل والمنهج الذي اتبعه «الحاج سالم». وهي علاقة تظهر بوضوح وجلاء في الآيات التّالية من سورة البقرة:
«الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)»
فالسّياق العام لهذه الآيات يتعلّق بالرّبا وتحريمه والتّحذير من ممارسته، ولكن أيضا، ذكر الصّدقات، التي هي الزّكاة، كمقابل للرّبا، في الكفّة الأخرى، وأعلن القرآن بوضوح، أنّ الله يمحق الرّبا، ويربي الصّدقات أي الزّكاة. والمقابلة بين المصطلحين: الرّبا والصّدقات (الزّكاة) واضحة ومحكمة، لا شبهة تأويل فيها. لكن المفسرين طيلة قرون، لم يتطرّقوا إلى هذه العلاقة، في بعدها الاجتماعي المؤسّساتي، واكتفوا بالبعد الفردي فقط. والسّؤال الذي يفرض نفسه: كيف للزّكاة، كمنظومة إسلاميّة جديدة، أن تعوّض منظومة الرّبا التي كانت سائدة في المجتمع العربي؟
لاحظ، أنّ السؤال نفسه يحمل مصادرة، تتمثل في أنّ الزّكاة مؤسّسة قامت لتعوّض مؤسّسة الرّبا، وهي مسألة يمكن إثباتها نظريّا بتأمّل الآيات السّابقة. بقي هل أنّ الواقع المجتمعي، عرف قيام الزّكاة بوظيفة القرض بلا ربا؟ أم أنّ الأمر كان يتمّ على صعيد فردي في إطار خلق إسلامي جديد، دون أن يتطوّر ويتمأسس في ظلّ الدّول العربيّة المتعاقبة بعد الخلافة الرّاشدة؟.
ولعلنا لا نشطّ إذا اعتبرنا، أنّ الوظيفة الأكثر إعلانا للزّكاة، هي محاربة الرّبا إلى جانب تلطيف الفقر والمسكنة والحاجة. وأنّ الطريقة الوحيدة لمحاربة الرّبا، والمعلنة بوضوح في القرآن، هي: الزّكاة. وهذا المعطى تمّ إهماله من قبل المفسرين والعلماء المعاصرين، الذين اشتغلوا على ما يسمّى بالمصارف الإسلاميّة.فمن الغريب الواقع، أنّه لا يوجد مصرف إسلامي في العالم، يقدّم قرضا مباشرا بلا فوائد ولا أرباح... باستثناء بعض التّجارب البائسة والصّغيرة، ومنها ما تعطّل وتوقّف، تحت عنوان: الخدمات الاجتماعية للمصرف الإسلامي [2]، وتجربة صندوق الزّكاة بالجزائر[3]، الذي قدّم لفترة، وبشروط، قرضا حسنا لبعض الفئات.
إن المصارف المنتشرة اليوم، والتي تتسمّى بالإسلاميّة، فهمت آيات الزّكاة في القرآن من منظور ليبرالي، حيث اهتمت بالاستثمار ونسيت الجانب الاجتماعي والوقائي الذي أشارت إليه الآيات بوضوح. ولم تطرح نظاما بديلا عن الرّبا، وإنّما نافست الرّبا في الرّبح، عن طريق الالتفاف على النّظريات والقواعد الفقهيّة، وخسرنا السّلام الاجتماعي الذي بشّر به القرآن، من خلال حرب الله على الرّبا.
ونحن في تونس، لو عدنا إلى الأرقام الرّسمية التي أعلنها وزير الشؤون الدّينية في 2017، لوجدنا أن قيمة الزّكاة تصل إلى 3500 مليون دينار[4]، وأنّ مصارفها محدّدة بالآية القرآنيّة الواردة في سورة التّوبة: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)»، وعليه، فإنّه يمكننا إحداث مصرف القرض الحسن (التّسمية من القرآن) يتصرّف في أسهم المؤلّفة قلوبهم، وفي الرّقاب، وفي سبيل الله، ممّا يعني ميزانية تتجاوز: 1300 مليون دينار. ويمكن تحصيل أموال أخرى من الأسهم الباقية، حسب الحاجة، حيث يجيز المذهب المالكي، المعتمد في تونس رسميّا، نقل أموال الزّكاة من سهم إلى آخر، حسب الضّرورة.
 فلو أقمنا مصرف القرض الحسن بتونس، فإنّه سيتولّى منح قروض استهلاك للمواطنين، مباشرة، وبلا فوائد، ولا أرباح، وتسترجع على فترة متّفق عليها، تهدف إلى التّشجيع على استهلاك المنتوج الوطني، من عقار ومواد كهرومنزليّة ومواد مكتبيّة وصناعات تقليديّة وغيرها، بشرط انخراط المؤسّسات المنتجة لهذه المواد في نظام الزّكاة، والتّمتع بشفافية، يمكن للمصرف مراقبتها. ويقوم المصرف بتمويل صندوقه بالأموال المتأتية من الزّكاة سنويّا، إضافة إلى الأقساط المسترجعة. وبهذا الشّكل، نحلّ مشاكل كثيرة مرّة واحدة، تتعلّق بتنشيط الاقتصاد المحلّي، وتنمية الصناعات التّقليدية، وضمان سوق وطنيّة ثابتة ومتطوّرة للصّناعات الوطنيّة، وتدوير الأموال وعدم اكتنازها لخلق القيمة المضافة، وإلغاء الفوائد والأرباح على القروض الاستهلاكيّة، وضمان موارد ثابتة للمصرف تضمن له التطور والإشعاع.
إن هذا المصرف، يحقّق مصلحة مزدوجة للزّبون والمؤسّسة الوطنيّة، فمضاعفة الإنتاج تليها مضاعفة للاستهلاك، ممّا يرفع من طاقة التّشغيل ويحدّ من المشاكل الاجتماعيّة في البلد. ويمكن للمؤسّسات أن تقرض المصرف، قروضا مستحقّة لفترة خمس سنوات بلا فائض، تعطيها الأفضليّة والأولويّة لخدمة زبائنها وطالبي منتوجها عن طريق المصرف.كما يمكن للمصرف أن يدخل في شراكة مع بعض المؤسّسات، التي يضمن لها سوقا لمنتوجاتها عن طريق القرض الحسن المقدّم للاستهلاك.
وأهمّ ميزة لهذا المصرف الإسلامي الحقيقي، أنّه في حالة تطوّر ونمو دوما [5]، ولا يتأثر كثيرا بالأزمات الاقتصادية، بل هو صمّام أمان وحلّ للأزمات، من حيث دوره الهام في تنشيط سوق وطنيّة دائمة [6] ، مع إمكانيّة تطوير أدوات مصرفيّة كثيرة تتماشى مع واقع المجتمع، وإمكانيّة عقد اتفاقات مع ممثليّات للعمال ومجمعات اقتصاديّة، تنخرط في نظام المحاسبة المعتمدة للزّكاة. وكذلك إنشاء مؤسّساته الخاصّة بالتّأمين والبعث العقاري وتنشيط السّياحة الدّاخلية.
هذه فكرة نقدّمها، لأهل الحلّ والعقد، قصد إيلائها الأهميّة التي تستحقّها من الدّرس والبحث، لعلّها تكون بادرة لتغيير وجه الاقتصاد التّونسي، ونموذجا للحلول المبدعة التي تحقّق عدّة أهداف، في تواصل مع هوية المجتمع ومصالحه.
الهوامش
[1] الحاج سالم، محمد: من الميسر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية، قراءة إناسية في نشأة الدولة الإسلامية الأولى، دار المدار الإسلامي. ط 1، 2014.
[2]  شحاتة، حسين حسين: المصارف الإسلامية بين الفكر والتطبيق، ط 1، 2006. الفصل الثاني.
[3]  أحدث صندوق الزكاة بالجزائر سنة 2003 وتضاعفت إيراداته عشر مرات في ظرف أربع سنوات، ثم أنشأ صندوق فرعي سمي بـ «صندوق استثمار أموال الزكاة»، كان الهدف منه المساهمة في مكافحة الفقر والبطالة باستغلال جزء من أموال الزكاة التي تقدم للشّباب البطال المتخرّج من الجامعات ومراكز التّكوين المهني، وأيضا للعائلات المنتجة والحرفيين وغيرهم من الفئات القادرة على العمل. لكن المشروع الذي تمت إدارته مع بنك البركة، توقف بسبب صعوبات في استجاع القروض المقدمة.
مسدور، فارس: مخاطر القرض الحسن من صندوق الزكاة وسبل تغطيتها، دراسة منشورة على النت.
[4] هذا الرقم قدّمه لأول مرة الخبير المحاسب محمد مقديش رئيس الجمعية التونسية للزكاة في ندوتها يوم 6 أفريل 2017، وأعاده وزير الشؤون الدينية أحمد عظوم في الندوة الرابعة للزكاة التي نظمتها الجمعية الدولية لعلوم الزكاة يومي 11 و12 أفريل 2017. وهو رقم يبقى نظريا.
[5]  النظام الربوي في أزمة دورية ولا يحقق إلا الخسائر وقليل من الأرباح، وخسائره يوزعها على عدّة قطاعات...هكذا دوريا، لكن نظام القرض الحسن لا يعرف الخسارة أبدا، وهو دائما في حالة نمو، وهو مصداق الآية: « يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ « 276 البقرة.
[6]  كمثال على ذلك: قطاع البعث العقاري والبناء: لو يقدم المصرف 5000 قرض لشراء سكنات جاهزة، فإنه يساهم في تنشيط القطاع ورفع رقم معاملاته بـ50 في المائة، وهو ما يعتبر قفزة نوعية في مؤشر التنمية. مع إمكانية بعث مؤسسته للبناء والتهيئة الترابية، حيث أن المستهلك مضمون بالقرض الحسن.