في العمق

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
ألحان حزينة من الغربة
 مصري وتونسي
لي صديقان حميمان أحدهما مصريّ والآخر تونسيّ وليس للتقديم تفضيل للمصري على التونسي، فليس إلاّ عامل الزّمن والسّبق إلى الصّحبة ومشاركة المجال، فقد عرفت المصري وأنا أستهل الثّلاثينات من عمري وعرفت التّونسي بعد ذلك بعشر سنين، فكانا نعم الصاحبين. وهما من أحب النّاس إلى قلبي، يجمعنا نحن الثّلاثة الاغتراب عن الوطن، في وطن للمسلمين أجمعين، تشعرك المعيشة فيه أنّك لست في غربة، لكنّ عصر الغثاء الذي نحياه يؤلمك أكثر وأكثر ويشعرك أنك غريب عن الدّنيا كلّها. هذه الحالة الغثائية تتعاظم هنا جدّا، فالملايين في الحرمين في كلّ صلاة، وعلى عتبات الأقصى لا يستطيع المسلمون، وخصوصا أهل القدس، الصّلاة. تشعرك هذه الحالة بأنّنا لسنا فاعلين، وفي الحقيقة لا وزن لنا في الحضارة الحديثة، حتّى دخولنا في لعبة موازين القوى هي من قبيل الغنيمة الثّمينة التي يتقاسمها أطراف اللّعبة غيرنا، أي أنّنا مفعول بنا على الحقيقة والمجاز، تُغتصب الأوطان حتى النّخاع، حتى من بني جلدتنا ويصادر بعضنا بعضا حقّ الحياة وحقّ الحرّية و.. و... غربة حقيقية أن نعيش في حالة لا نعمّر فيها أرض ولا إنسان. 
أتينا الغربة شبابا فشبنا وصارت الغربة نسبنا بعد أن قطعت أوطاننا أنسابنا كما يقول «أبو عبد الله الكلثوميّ النّحوي»:
تقول سعاد ما تغرّد طائـــــــــر 
على فنــــن إلّا وأنـــت كئيـــب 
أجارتنا إنّا غريبــــــان ههنــــا 
وكلّ غريب للغريـــب نسيـــب 
أجارتنا إنّ الغريب وإن غــدت 
عليه غوادي الصّالحات غريب 
أجارتنا من يغترب يلقى للأذى 
نوائب تقذي عينـــــه فيشيــــب 
يحنّ إلى أوطانه وفؤاده لــــــه 
بين أحناء الضّلــوع وجيـــــب
اصطفي الله عز وجل صديقيّ العزيزين بمرض واحد، وفي الغربة تكون الوعكة مائة وعكة لما تخلفها من آثار نفسيّة. وفي كتاب «زهر الأكم في الأمثال والحكم» أنّ عائشة رضي الله عنها، قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وعك أبو بكر، وبلال، قالت: فدخلت عليهما فقلت: يا أبه، كيف تجدك ؟ويا بلال، كيف تجدك؟ قالت: وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصـبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلع عنه الحمّى، اضطجع بفناء البيت ثم يرفع عقيرته فيقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخـر وجليـــل
وهل أرِدن يوماً مياه مجنـــة وهل يبدون لي شامة وطفيل
وقالت عائشة رضي الله عنها: ثم دنوت من عامر بن فهيرة ، فقلت له: كيف تجدك يا عامر ؟ قال:
لقد وجدت الموت قبل ذوقه إن الجبان حتفه من فوقـه
كل امرئ مــجاهد بطوقـــه كالثور يحمي جلده بروقه
قالت عائشة رضي الله عنها: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: «اللّهم حبب إلينا المدينة، كحبّنا مكّة، أو أشدّ، وصحّحها، وبارك لنا في صاعها ومدّها، وانقل حماها، فاجعلها بالجحفة».وقد وصل بهم الأمر، من المرض، والألم، وشدّة الحمى، أنهم - أي صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم - لا يستطيعون الصّلاة إلاّ وهم قعود وكذلك صاحبي. وهذه الأخبار هي مما جبلت عليه النّفوس من حبّ الوطن والحنين إليه «مكّة» وأي وطن، كذلك فهذه هي جبلة في البشر كما روي في حديث أصيل الغفاري ويقال فيه الهذلي حين قدم مكّة فسألته عائشة: كيف تركت مكّة يا أصيل؟ فقال: تركتها قد ابيضت أباطحها وأحجر ثمامها وأعذق إذخرها وأمشر سلمها، فاغرورقت عين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لا تشوقنا يا أصيل! ويروى أيضاً أنه قال له: دع القلوب تقرّ! وفي هذا المعنى قول الآخر:
إلاّ ليت شعري هل أبيتن ليلــــهٌ
بوادي الخزامي حيث ربتني أهلي
بلادٌ بها نيطت علي تمائمـــي
وقطعن عني حين أدركني عقلــي
تمدد الزمن وانكماش الفراغ
يتمدّد الزّمن وينكمش الفراغ بالحركة وينحني الزّمكان بالتّثاقل وبالحركة المتسارعة، والغربة والهجرة هي أمّ الحركات النّفسية الدّاخلية المتسارعة التي تحسب لحظاتها بالدّهور المتمدّدة ويكافؤ فضاؤها الواسع بالزّنازين الضّيقة المنكمشة المنحنية، والمسألة كلّها في الفضاء النّفسي وليس في سعة العيش، وكأنّه تطبيق عملي للأفكار الفيزيائية الرّياضية في علم النّفس. ومهما حاولت من نفي أو تبطئ التّأثيرات الجانبيّة للغربة فلن تستطيع إلاّ بعدم التّفكير، أي بتجريدك من أهمّ صفاتك الإنسانية. في الغربة يتعاظم الإحساس بعدم الأمان والأمان ليس الأمن، وكأنّ المدّ في اللّفظ الأول أكسبها بعدا نفسيّا داخليّا. في الغربة يفصل عنصري الإنسان، يغادر التّربة التي نشأ منها ونفخت روحه فيها، ويأتي أرض الغربة بأرض غريبة عنها وهي جسده وتتعلّق روحه هناك بملاعب صباه ويصير جسدا بلا روح، ولا أدلّ على ذلك من كلام أبي العباس المبرد النحوي:
جسمي معي غير أنّ الرّوح عندكـم
فالجسم في غربةٍ والرّوح في وطن
فليعجب النّاس منّي أنّ لي بدنـــــاً
لا روح فيه ولي روح بلا بــــدن.
في الغربة، كُتب عليك أن تعيش بعيدا، بعيدا عن كلّ شئ، بعيدا عن أمّك وأبيك، بعيدا عن إخوانك، بعيدا عن بيتك، بعيدا عن الدّروب الموصلة إليه، بعيدا حتّى عن روحك. الغربة تجربة حيّة للموت قبل الموت كما مرّ بالصحابة رضوان الله عليهم ولم تكن إلا غربة داخل الوطن حيث الامتداد القبلي يغطّي المكان. 
وفي الغربة يتعاظم الإحساس بأشياء كثيرة غير محبّبة إلي النّفس منها الإحساس بالضّعف، فأنت بعيد عن مكامن قوّتك المادّية، فليس لك ركن شديد تأوي إليه، ومنها الشّعور الدّاخلي بالاستعباد. وكأن الغربة بهذه المعاني خلقها الله ليمتحن بها حبّنا لوطننا الأم الذي هبط منه أبونا آدم، وكأنّ الذي لا يعيش الغربة بداخله هو الغريب عن البنية الإنسانيّة. وطننا الحقيقي والأصلي هو الجنّة وهي الغيب المطلق عن كلّ بني البشر إلاّ عمّن عاش فيه أو حتّى رآه: كأبينا آدم وأمّنا حواء ومن اصطفى الله من الأنبياء. 
وإذا كان الغيب الذي لا تعرفه هو وطنك الحق، ففي كلّ وطن تعرفه وطن آخر لا تعرفه. وإذا كانت المعيشة في الغربة شيئا مؤلما وبالمرض تكون أشدّ ألما، لكنها تكتب لنا تاريخا ملحنا من الحزن يربطنا بأصلنا. في الغربة يتعاظم الإحساس بأنّ شيئا جوهريّا ينقصك وتتألم لذلك ألما شديدا حتي وإن اكتملت بعض من ملذات الدنيا معك، لكن من رحم الألم تولد الأجسام المضادة للنقص. في الغربة وفي المرض، فما بالك بهما معا، يتعاظم الإحساس بالتواضع واللّين وطول الصّمت وربّما الحزن الدّاخلي في ذلك الإنسان القويّ في أهله، وكما يقول الرّافعي في كتابه رسائل الأحزان «إنّ اللّين في القوّة الرّائعة أقوى من القوّة نفسها، لأنّه يظهر لك موضع الرّحمة فيها والتّواضع في الجمال أحسن من الجمال، لأنّه ينفي الغرور عنه. وكل شيء من القوة لا مكان فيه لشيء من الرحمة فهو مما وضع الله على الناس من قوانين الهلاك» [2] 
ضريبة النقد والحسد والحقد
يتطلّع النّاس كلّ النّاس دائما إلى ما لا يستحقّ التّطلع، ويردنا إلى رشدنا إمّا التّأمل المستمر في أحوال البلاد والعباد وإمّا النّذير العريان وعند المسلمين هو نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري في كتاب النّكاح، باب موعظة الرّجل ابنته لحال زوجها من حديث ابن عباس مع الفاروق عمر رضي الله عنهم أجمعين يقول عمر رضي الله عنه: «... فرفعت بصري في بيته فوالله ما رأيت في بيته شيئا يردّ البصر غير أهبة ثلاثة، فقلت يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك، فإن فارس والرّوم قد وسع عليهم وأعطوا الدّنيا وهم لا يعبدون الله، فجلس النّبي صلى الله عليه وسلم وكان متّكئا فقال: أوفي هذا أنت يا ابن الخطاب، إن أولئك قوم عجلوا طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت يا رسول الله استغفر لي ...»[3] ولا أقول أنّ عمرا وهو الفاروق الملهم كان يحسد فارس والرّوم، بل كان مجرّد نظر إلي دنياهم المفعمة بالتّرف ودنيا رسول الله  صلّى الله عليه وسلم المعروفة لنا كلّنا، فحرّكت فيه رضي الله عنه مشاعر الشّفقة والرّقة في قلبه لحال نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم وقد استغفر الله بعد التّوجيه النّبوي مباشرة. 
كما أن ردّ النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه دعوة لتحبيب الفقر إلى النّاس أو للتّكاسل عن طلب الرّزق، ولكن التّوجيه النّبوي السّديد فيه أنّ ذلك لا ينبغي أن يكون شغلا للقلب أو همّا للرّوح حتى ولو للحظة، فبعد طلبك وسعيك للرّزق يكون قضاء الله هو الخير كلّه، ينبغي أن يكون التعلّق بوطنك الأصلي بالسّماء لا بدار غربتك. لكن مضى عصر النّبوة بأنواره واستقر بنا المقام في عصر تحسدك النّاس فيه على شيءٍ لا يستحقّ الحسد. وينسون أو يتناسون أنّك مشرّد وحتى على التشرّد لا بدّ أن تدفع ضريبة. 
تحيا في بيئة/غربة غير بيئتك/وطنك، حتى لو كانت بيئتك أسوأ من غربتك، ففيها وفيها فقط المتّصل الزّمكاني لعالمك الطبيعي والمتّصل «الروح-جسماني» لعالمك البشري. فلا تستطيع الأسماك أن تحيا في بحر العطور لكنّها تستطيع أن تحيا في الماء الآسن. 
الرّوح خطّ الدفاع الأول والأخير
لما فارقت الروح الجسد وهي مازالت في الدّنيا لم تصعد لبارئها، فقد الجسد بذلك خطّ الدفاع الأول والأخير فأصبح عرضة للتّغيرات السّريعة والشّديدة والمفاجئة، لكن ومن رحمة الله بنا أن يأتينا الحنين إلى الأوطان المسلوبة كطيف عابر من أرواحنا هناك، وكأنّه يغذّينا ببقايا أرواح كانت فينا وبها نتساند نحن وأصحابنا في غربتنا التي أشبهت الحبس عند عبد الله بن معاوية بن جعفر في بعض زواياها، حيث كان رحمه الله يقول في محبسه:
خَرَجنا مِنَ الدُنيا وَنَحنُ مِنَ اَهلِها فَلَسنا مِنَ الأَمواتِ فيها وَلا الأَحيـــا
إِذا دَخَلَ السَجّانُ يَوماً لِحاجـــــَةٍ عَجِبنا وَقُلنا جاءَ هَذا مِنَ الدُنيــــــــا
وَنَفرَحُ بِالرُؤيا فَجُلُّ حَديثِنـــــــا إِذا نَحنُ أَصبَحنا الحَديثُ عَنِ الرُؤيا
فَإِن حَسُنَت كانَت بَطيئاً مَجيئُهــا وَإِن قَبُحَت لَم تَنتَظِر وَأَتَت سَعيــــــا
ورحم الله أبو الطيب المتنبي لما اختصر حال غربتنا في حال حماه في مصر في رائعته «الحمي» وكأنّها أي الحمّى/الغربة عدوّ أقام في جسده فلا يبرحه حتّى يفنيه وليس فناء رحيما بل لم تترك الحمّى فيه مكانا زائدا للسّيوف ولا السّهامِ:
جرحتِ مجرحا لم يبق فيــــــه مكان للسيوف ولا السهـــــــــامِ
يضيق الجلد عن نفسي وعنهـا فتوسعــــــه بأنواع السقـــــــــام
إذا ما فارقتني غسلتنـــــــــــي كأنا عاكفانِ على حـــــــــــــرام
الهوامش
[1]  نور الدين اليوسي الحسن بن مسعود بن محمد ويسمى «  زهر الأكم في الأمثال و الحكم»، «أشهر كتب الأمثال في المغرب» موقع الوراق،  http://www.alwarraq.com
[2]  مصطفي صادق الرافعي، «رسائل الأحزان: في فلسفة الجمال والحب»، مؤسسة هنداوي للنشر للتعليم والثقافة، (2012 )، مصر.
[3] حديث شريف، في صحيح البخاري برقم 4895 ، دار بن كثير.