بهدوء

بقلم
أ.د انيس الرزقي
زمن البلطجة
 أصبحت كلمة «بلطجة» أو «بلطجيّة» متداولة بشكل مكثّف في وسائل الإعلام العربيّة وحتّى في الصّحافة المكتوبة في الآونة الأخيرة. حتّى أنّ بعض المعاجم العربيّة باتت تعتبرها كلمة عربيّة مستحدثة، وتعني  كلمة «بلطجة»: «فرض الرّأي بالقوّة والسّيطرة على الآخرين، وإرهابهم والتنكيل بهم لتحقيق مصالح خاصّة». يعود أصل كلمة «بلطجة» إلى التركيّة «Baltaçia» وهي تتكوّن من مقطعين «بلطة» وهى آلة حادّة تستخدم في تقطيع الأشجار وغيرها و«جي» وهو حامل البلطة. و«البلطجيّة» هم الأشخاص الذين يمارسون أعمال «البلطجة».  
استعملت الأنظمة العربيّة المستبدّة قبل الثّورات وبعدها «البلطجة» للسّيطرة على الفضاء العام، فمثلا كان النّظام المصري قبل الثّورة يستعمل «البلطجيّة» في المناسبات السّياسيّة على غرار الانتخابات أو حتّى التّظاهرات الشّعبية السّلمية لإحداث فوضى تقوّض سلميّة هذه التّجمعات وبالتّالي تمنع النّاس من المشاركة في الحياة العامّة وتبرّر التّدخل الأمني. ولا يخفى على أحد أنّ هؤلاء «البلطجيّة» يتحرّكون بأوامر من الأجهزة الأمنيّة، فبصفة عامّة «البلطجيّة» هم أشخاص من روّاد السّجون وممّن تعلّقت بهم جرائم جنائيّة تتمّ مقايضتهم بها، من قبل رجال الأمـــن أو المخابـــرات، ما بين السّجــــن أو الحرّية مقابل خدمات «بلطجة».
نريد أن نبيّن أنّ هذا الفعل، أيّ «البلطجة»، بمعنى السّيطرة عبر «البلطجيّة» على الشّارع والسّاحات العامّة، يتكرّر ولكن بصور مختلفة في كلّ ميادين الحياة العامّة أو ما يمكن تسميته «الفضاءات الاعتباريّة» أو «المعنويّة». في الواقع إنّ المجتمعات الحديثة المتحضّرة أنتجت العديد من «الفضاءات الإعتباريّة» والتي لا تقلّ أهمّية عن الفضاء العام، بل هي أهم، مثل الفضاء السّياسي والفضاء الإعلامي والفضاء الأكاديمي والفضاء المالي والفضاء الثّقافي والفضاء الدّيني... 
وكما أنّ الفضاء المادّي من حقّ كلّ مواطن شريف لم تتعلق به جرائم حقّ عام، فإنّ هذه «الفضاءات الاعتبارية» هي أيضا من حقّ كلّ مواطن لديه الأهلية العلميّة أو الثّقافيّة أو السّياسية...، حسب نوعية وطبيعة الفضاء. وكما يوجد «بلطجيّة» في الفضاء المادّي فإنّ «الفضاءات الاعتباريّة» أيضا مليئة «بالبلطجيّة» ولكن معظم المتابعين لا يدركون إلاّ «بلطجيّة» الفضاء المادّي! وكما هو موكل للأجهزة الأمنيّة أن تحمي الفضاء المادّي من تطفّل «البلطجيّة»، ولكنّها في كثير من الأحيان تقوم بالعكس تماما فترعى «البلطجيّة» أو حتّى تصنعهم، استحدثت الدّول الحديثة، سواء منها الديمقراطية أو غير الديمقراطية، «هيئات مستقلة» منوط بها حماية «الفضاءات الاعتبارية» من «البلطجيّة» وهي أيضا في بعض الأحيان تصنع «بلطجية» وتعمل من خلالهم على السّيطرة على الفضاء الإعتباري المنوط بها حمايته. 
نتطرق في ما يلي إلى عدد من الأمثلة للفضاءات الاعتبارية ونناقش كيفيّة صناعة «البلطجيّة» وكيف يمكن لهؤلاء «البلطجيّة» إفساد الفضاء الاعتباري ومن ثمّ التّأثير السّلبي على المجتمع. كما نطرح أيضا تصوّرات عن طرق التّصدي ومقاومة البلطجيّة في هذه الفضاءات.
بلطجية الفضاء الإعلامي
يعتبر الفضاء الإعلامي من أهمّ الفضاءات في المجتعات الحديثة فهو منوط به إعلام المواطنين بنشاطات وإنجازات الحكومة وتوفير المنابر لمعارضيها حتّى يتمكّنوا من تسليط الضّوء على ما يعتبرونه إخفاقاتها وإخلالاتها ومن ثمّ يتمكّن المواطن من مراقبة آداء هذه الأخيرة وتقييمه لها سواءً بالسّلب أو بالإيجاب. والمفروض أن يكون الإعلام محايدا تماما في هذا العمل الدّقيق والحسّاس بمعنى أنّه لا يجوز له أن يبالغ لا في تمجيد إنجازات الحكومة ولا في تقزيمها أو تهميشها. 
تعطي البلدان الديمقراطية أهمّية بالغة لمراقبة وحماية الفضاء الإعلامي من البلطجة، فتؤسس هيئات مستقلّة تعتني وتراقب الفضاء الإعلامي حتّى لا تسمح لمن هبّ ودبّ أن ينشط فيه ويبثّ سمومه من أخبار زائفة وفتن إعلاميّة من شأنها أن تعكّر صفو الحياة الاجتماعية والسّياسية وتهدّد السّلم الاجتماعي! ولكي تؤدّي دورها بصفة ناجعة، يكون لتلك الهيئات المستقلّة للإعلام صلاحيّات قانونيّة ردعيّة وجزريّة قويّة تمكّنها من معاقبة كلّ من تسوّل له نفسه العبث بالإستقرار الإعلامي.
لكن الواقع مغاير تماما في معظم بلداننا العربيّة وحتى في بلدنا تونس حديثة العهد بالديمقراطية أو على الأقل بحرية الإعلام. إذ تعمد حكومات هذه الدّول أو أجهزتها الأمنيّة ودوائر النفوذ من خارج الحكومة - وليس من خارج الحكم- إلى صناعة إعلاميّين «بلطجيّة» يتمّ إختيارهم من ضمن الصّحافييّن الشّبان حديثي العهد بالمهنة والذين لا تكون لديهم كفاءة مهنيّة تميّزهم، حتّى تتمكّن من السّيطرة التّامة عليهم. إنّ عمليّة إختيار أو صناعة هؤلاء الإعلامييّن هي مشابهة تماما لعمليّة إختيار عارضات الأزياء «casting»، حيث يتمّ التّركيز أكثر على المظهر الخارجي والفئة الاجتماعية والعمريّة للصّحفي أكثر من أيّ شيء آخر له علاقة بالمهنة، يتمّ ذلك حسب ما تقتضيه المهمّة الموكولة لهذا الصّحفي أو حسب الفئة المجتمعيّة المستهدفة. ومن ثمّ يتمّ وضع هؤلاء «الصّحفيين» تحت الأضواء السّاطعة للشّهرة ويتمّ إغراءهم وإغراقهم برواتب خياليّة ويتمّ تسهيل دخولهم عالم العلاقات العامّة مع رجال المال والأعمال والنساء والجمال، وحينها تكون قد صنعت صحفيّا «بلطجيّا» يمكنك أن تجعله يروّج للشّيطان لو أردت!! يتمّ تمكين هؤلاء «البلطجيّة» الصّحفيين من مساحات شاسعة في الفضاء الإعلامي دون أيّ موجب حقّ بمعنى دونما أيّ إستحقاق لا من ناحية الكفاءة ولا من ناحية القدرة على الإقناع والإبداع، ففي يوم وليلة يصبح أحدهم صاحب برنامج يومي بنسبة مشاهدة خيالية! ثم بعد ذلك تبدأ المهمّات القذرة، ليس أقلّها قذارة، استغلال هذا الفضاء الإعلامي في إرهاب وهرسلة الشّخصيات الوطنيّة الشّريفة والصادقة والجريئة، بتهميشها والتهكّم والسخرية منها أو تلفيق التّهم الكيديّة ضدّها والتي تصل إلى حدّ محاصرتها أو حتّى إقصائها من المشهد. 
إن هؤلاء «البلطجيّة» الإعلامييّن يمثّلون خطرا فعليّا، ليس فقط على حرّية التّعبير، بل على السّلم الاجتماعي والأمن القومي للبلاد أيضا. فلقد رأينا مثلا في تونس الثّورة بلطجيّة صحفيّين يزوّرون و«يفبركون» خطاب رئيس الجمهورية السّابق «الدّكتور المنصف الرزوقي» ! ورأينا أيضا «بلطجيّة صحفيين» يوهمون المشاهدين أنّهم صوّروا لقاء مع إرهابي عائد من بؤرة توتّر، والحال أنّه شخص عادي دُفع له مبلغ مالي ليقوم بهذا الدّور ويدلي بشهادات مزوّرة، وأخيرا وليس آخرا إستمعنا مثل أغلب النّاشطين على شبكات التّواصل الإجتماعي للتّسريب الصوتي الأخير لصاحب أحد القنوات الخاصّة ورأينا كيف تتمّ بكلّ صفاقة ووقاحة فبركة التّهم والعبث بشرف ووطنيّة كل من يعارض أو يفضح «بلطجيّة» هؤلاء! كلّ هذا يتمّ استخدامه لتظليل الرّأي العام وترهيبه والتّرويج لسيناريوهات وأجندات معدّة سلفا، ألا يُعتبر هذا تلاعبا سافرا بالسّلم الاجتماعي والأمن القومي للبلاد؟ وبالرّغم من وجود «هيئة مستقلّة» تعنى بالإعلام في تونس، بقي هؤلاء «البلطجية الصحفيّون» دون أيّ عقاب. 
تجدر الإشارة إلى أنّ «البلطجة الإعلاميّة» ليست حكرا على شعوبنا فهي أيضا متفشّية في الفضاء الإعلامي الأوروبي والأمريكي، ولقد تكوّنت شبكات من المجتمع المدني تشتغل على فضح هؤلاء «البلطجيّة»[1]، ولهذا فإنّه من الجيّد أن يعمل المجتمع المدني على فضح هؤلاء البلطجيّة الإعلاميين في جميع الوسائط الإعلاميّة إلى أن تأتي القوانين الجزريّة التي توقف هؤلاء عند حدودهم وتصلح وتحرّر الفضاء الإعلامي.
«بلطجية» الفضاء السياسي:
يعتبر الفضاء السّياسي من أهم الفضاءات المكوّنة للدّول وفيه تتحقّق المصالح سواء كانت مصلحة الدّولة أو مصالح الأفراد أو حتّى مصالح جهات أجنبيّة وبالتالي فهو فضاء صراع نفوذ بامتياز. لا يخلو هذا الفضاء من وجود «البلطجيّة» سواء في شكل أفراد أو منظمات أو جمعيات أو أحزاب سياسيّة. في الحالات غير الديمقراطية يكون الفضاء السّياسي محتلاّ تماتا من قبل حزب أو بضعة أحزاب «بلطجيّة» لا تسمح لأيّ كيان سياسي آخر بالتّواجد في السّاحة مستعينة في ذلك بجبروت الدّولة، وهذا تقريبا حال معظم الدّول العربيّة. لقد إستطاعت أحزاب حكم ما قبل الثّورة أن تصمد للعاصفة وأن تعاود بناء نفسها لتتصدّر المشهد السّياسي من جديد، تقريبا في كلّ التّجارب العربيّة التي عاشت ثورات. فبقيت نفس هذه الأحزاب التي كانت تمارس الاستبداد والفساد متمترسة في الفضاء السّياسي وإن تغيّرت بعض رموزها أو عناوينها. في الواقع الدّيمقراطي أيضا لا تتغيّر الأشخاص أو العقليات، فهي لا تعدو أن تكون مجرّد مجموعة آليات تحكم العملية السّياسيّة يمكن التّلاعب بها بسهولة إن غابت الأخلاق وغابت القناعة بالمسار الدّيمقراطي. ففي واقعنا التونسي على سبيل المثال، وبالرّغم من أنّ الثّورة غيّرت قانون اللّعبة السّياسيّة بصفة جذريّة تقريبا فتحرّر تكوين الأحزاب والجمعيّات وتحرّر الإعلام، إلاّ أنّ النّظام القديم و«بلطجيته» لا يزالون على نفس النهج الإقصائي لشركائهم السّياسيين -إن تمكّنوا من ذلك- ولا يزالون بنفس العقليّة الإنتهازيّة الزّبونية ونفس النّظرة للحكم على أنّه غنيمة يتمّ تقاسمها بينهم -أي أفراد الحزب- حسب درجة الولاء. تغيّر شكل «بلطجيّة» الحزب وأصبحوا يبرزون لنا في شكل «مستقلّين» سواء كانوا إعلاميّين أو إقتصاديّين أو خبراء في شتّى المجالات، ولكن المتابع الفطن سرعان ما يكشفهم بأفكارهم البالية وبلادة براهينهم وتكبّرهم التافه. يعمل هؤلاء «البلطجيّة» بنفس الطريقة التي يعمل بها «بلطجيّة الشّارع» فهم يبرزون في الإعلام بكثافة كل ما دعت الحاجة لذلك، فتجدهم في كلّ المنابر الإعلاميّة يردّدون نفس الخطاب وكأنما لديهم أوامرمن قبل نفس الجهة! تعرفهم من أسلوبهم المتوتّر الذي يعمد بسرعة إلى  إتهام المخالفين، وخاصّة منهم الثّوريين، بخيانة الوطن وتعرفهم أيضا باعتمادهم على المغالطات والإدعاءات الكاذبة بدون أيّة أدلّة أو براهين، وما إلى ذلك من الأساليب الإرهابية التي لا يتقنون غيرها! 
كما يوجد في الفضاء السّياسي حول بعض الأحزاب الكبيرة «أحزاب بلطجيّة» تُوكّل لها الأدوار القذرة التي لا يمكن أن تقوم بها تلك الأحزاب الكبيرة بحكم موقعها وتشابك علاقاتها السياسيّة. فمثلا لا يمكن لحزب أن يتّهم حزبا آخر مرتبط به بعلاقة توافقيّة فرضتها اكراهات السياسة بصفة مباشرة، على سبيل المثال، بالوقوف وراء عمليّة إرهابيّة، فتوكل هذه المهمة القذرة «لجمعية بلطجيّة» أو «حزب بلطجي» سواء لهدف التشويه أو الضغط لفرض تنازلات معيّنة. وهذا في حد ذاته هو إرهاب بالإرهاب، إذ أنّ هذه الأحزاب، باتهاماتها الخطيرة، هي بصدد توجيه رسالة تهديد غير مباشرة للحزب المتّهم، مفادها بأنّ إمكانية إقصائه من المشهد السّياسي مازالت واردة، وأن العودة إلى النقطة الصّفر ممكنة، وهذه هي «البلطجة» بعينها! ومن أساليب «الأحزاب البلطجية» أيضا إختلاق صراعات إيديولوجيّة حادّة تصل إلى حدّ التّنافي بمعنى أنّ هذه الأحزاب البلطجيّة تتعلّل بالتّنافي الإيديولوجي لتكيل الاتّهامات والادعاءات لخصومها وتهدّد طوال الوقت بتقويض العمليّة الديمقراطية برمتها والتي من المفروض أن تكون مبنيّة أساسا على القبول بوجود الخصوم الإيديولوجيّين والسياسيين! 
«بلطجية» الفضاء الأكاديمي:  
يعتبر الفضاء الأكاديمي من أهمّ الفضاءات المكوّنة للدّولة والمجتمع، ويشمل هذا الفضاء الأكادميين والعلماء والخبراء في كلّ الإختصاصات. إذ يسهل تسويق هؤلاء الأكادميين تقريبا في كلّ مناصب الدّولة التّقنية منها والسّياسية نظرا لما يحضون به من قيمة معنويّة هائلة في المجتمع. تعمد الدّول العظمى إلى تطوير فضاءاتها الأكاديمية وجعلها قبلة ومزارا للأكادمييّن من كلّ أنحاء العالم وذلك للحصول على السّبق العلمي الذي يؤدّي في النّهاية إلى التّفوق التكنولوجي المنشود. ولا تكتفي الدّول العظمى بدعم فضاءاتها العلمية فهي تسعى أيضا لإختراق الفضاءات العلميّة لباقي الدول سعيا إمّا للتّجسس العلمي، بالنّسبة للدّول المنافسة، أو لتدعيم نفوذها بالنّسبة للدّول التّابعة. 
لا يمثل الفضاء الأكاديمي لمعظم الدول العربية مجالا تنافسيّا بالنسبة للدّول العظمى وبالخصوص الإستعمارية منها، فهو فقط فرصة لتدعيم نفوذها. فهي تستغل من جهة  التّفوق العلمي الجلي لجامعاتها ومؤسّساتها البحثيّة لإستقطاب العقول النيرة العربيّة لتطعيم مخابرها وجامعاتها بالطّاقات الشّابة، ومن جهة أخرى تعمد -أي الدول الإستعمارية- إلى صناعة «بلطجيّة» أكادميين يكونون، في البداية وبصفة عامّة، من الشّبان ذوي المستويات العلميّة المتوسطة التي لا تسمح لهم بخوض غمار تجربة البحث العلمي- والتي تتطلّب قدرات علميّة مهمّة وثقة بالنّفس ودرجة إلتزام قويين- فيتمّ تأطيرهؤلاء الطّلبة من قبل أساتذة معروفين بانتماءاتهم السّياسية والجمعياتية المشبوهة. ثمّ يزوّد هؤلاء «البلطجية الأكادميّين الصّغار» بشهادات علمية «مغشوشة» ولكنّها من جامعات محترمة، إلى حدّ ما، مقابل الولاء المطلق لأجندات إستعماريّة خالصة. ثم بعد ذلك يتمّ تدريجيا النفخ في السير الذاتية لهؤلاء وتوريطهم أحيانا في بعض السّرقات العلمية لضمان الولاء المطلق، مثلهم مثل «بلطجيّة» الشّارع. فإن أصبحوا جاهزين يتمّ إقحامهم في دوائر القرار لدولنا العتيدة!. فيتمّ عادة تسويق هؤلاء على أنّهم خبراء إقتصاديون حتى يمكن تنصيبهم على رأس المؤسّسات المالية أو وزارت مثل وزارة التجارة أو الصناعة أو الإستثمار إلخ... يتمّ تعيين هؤلاء البلطجيّة كمديرين عامين بالوزارة فيضمنون بذلك الديمومة ويكونون أقوى من الوزراء المتعاقبين! وهكذا تكون المصالح المالية والتجارية والإستثمارية للدّولة الإستعمارية دائمة ومضمونة مائة بالمائة! يتم أيضا إستعمال هؤلاء «البلطجيّة الأكادميين» كخبراء في المجال التّربوي لتكريس مناهج تربويّة تدعم الثّقافة الإستعماريّة ولا تبني هوية مستقلة معتزة بذاتها وبذلك تأكد الدولة الإستعمارية ديمومة سيطرتها على الإقتصاد والتعليم والثقافة بدون أيّ تصادم مع المجتمع. 
أكاد أجزم أنّ هذا بالضبط هو ما عشناه في تونس منذ دولة الإستقلال الأولى إلى اليوم ولكن، بعون لله، إستطاع مجتمعنا الأبي في تونس أن يقاوم هذا المشروع الإستعماري، فتونس اليوم تزخر بكفاءات وطنية من جميع المستويات، من خريجي الجامعات الأجنبية ومن خريجي جامعاتنا الوطنية، لا ترهبهم أسماء الجامعات الأجنبية الكبرى ولا ينطلي عليهم النفخ في السير الذاتية فيكشفون زيف هؤلاء «البلطجيّة» ويتصدّون لأجنداتهم المريبة. نعتقد أنّه للحول دون هذه «الظّاهرة المؤامرة» يجب العمل على تدعيم مصداقيّة فضاءنا الأكاديمي عبر محاربة التّحيّل العلمي والزبونية العلميّة ممّا يجعل جامعاتنا تتحلّى بتنافسية علميّة قويّة وشفّافة تساهم في صناعة كفاءات وطنيّة مستقلة وجديرة بتحمّل مسؤوليّة المساهمة الفعالة في الإصلاح والتطوير في كافة المجالات، وبالتالي نتمكّن من تحقيق إستقلال فضاءنا الأكاديمي ومحاصرة وإقصاء هؤلاء البلطجية. 
«بلطجية» الفضاء المالي:
لا يختلف إثنان أنّ الأنظمة بصفة عامّة والأنظمة المستبدّة بصفة خاصّة كانت ولا زالت تصنع برجوازيتها بنفسها، لقد دامت الحقبة الإستعمارية في تونس حوالي سبعين سنة وبالتأكيد أنّ الفرنسيين ساهموا في تشكيل «فضاءنا المالي» حتّى أنّك تلاحظ، في كلّ الجهات تقريبا، أنّ هناك عائلات معروفة بتطبيعها مع الإستعمار، لا تزال تتمتّع بثروة طائلة ولا تزال تضع يدها على مجالات ومزايا إستثمارية في الدّولة! جاء الإستقلال ولم يتغير «الفضاء المالي» تقريبا فقط أضيفت عليه نكهة جهويّة وحزبية. بمعنى أنّه إزدادت العائلات الثّرية من جهات بعينها وبصفة ملفتة من السّاحل وأيضا من الحزب الحاكم. ثم جاء بن علي بعقيدة مالية أكثر إنحرافا ومافيوزية، فظهرت طبقة جديدة من الأثرياء من أسرته الموسعة وبدأ عصر «البلطجة الماليّة». 
لم يترك أهل المخلوع بابا من أبواب الرّشوة والسمسرة على الرشوة إلا وطرقوه، فعلى سبيل المثال كان الكثير من تجّار الملابس الجاهزة يتسوّقون من أسواق الجملة في ضواحي باريس بالعملة الصّعبة، على حساب أحد أفراد عائلة المخلوع، ومن ثمّ يعودون إلى تونس فتأتيهم سلعهم إلى حيث يريدون من دون إجراءات جمركية ومن دون ضرائب، ثم يدفعون للعائلة ثمن السّلعة مضاعف لتغطية خدمات التوصيل والتسهيل الجمركي! والأمثلة متعدّدة عن «البلطجة المالية» التي كانت تمارس في العهد السابق. في الواقع لم يكن المخلوع وعائلته «البلطجية» الوحيدين في الفضاء المالي بل كان هناك كثير من رجال أعمال «بلطجية» لم يستثمروا دينارا واحدا في صناعة الثّراء، فقد كانت ثرواتهم كلّها تأتي من السّمسرة في السّلع الأجنبية وفي العقارات. جاءت الثورة وهرب بن علي وعائلته لكنّ دار لقمان بقيت على حالها، فلم نسمع برجل أعمال واحد دخل السّجن أو أرجع جزء من ثروته إلى خزينة الدّولة! وبقي الفضاء المالي في تونس مليئا بالسّماسرة الذين يستنزفون العملة الصّعبة من خزينة الدّولة من أجل توريد المزيد من السّلع الأجنبيّة، فينافسون المنتوجات المحليّة ويضعفونها وربما يتسببون في غلق مصانعها فيضيفون بذلك أرقاما للبطالة. وهم أيضا بسمسرتهم تلك لا يصنعون أيّة فرص عمل في البلاد بل يصنعونها هناك أين يورّدون سلعهم! كلّ هذا بمباركة وتسهيلات من الدولة. يكفي أن تنظر إلى الأرقام المخيفة لميزاننا التجاري الذي يسجّل عجزا تلو الآخر منذ الثمانينات إلى اليوم، حتّى أنّ هذا العجز فاق في سنة 2015 حدود الخمسة مليارات من الدنانير(تقريبا 15 % من الناتج القومي المحلي)! والمضحك المبكي أنّه في تونس الخضراء نسجّل عجزا في الميزان التجاري للمواد الغذائية والذي فاق في سنة 2013 و2014 الألف مليار دينار! أين أموال هؤلاء السّماسرة؟ لماذا لا تستثمر في الفلاحة لتغطّي هذا العجز وتخلق فرص العمل لشبابنا؟[2]. 
يعتبر موضوع توريد السّيارات من أبرز الأمثلة على دعم الدّولة «لرجال الأعمال البلطجيّة» أو السماسرة على حساب مصلحة المواطـن والمصلحة الوطنية. إذ تضع الدّولة التونسية أداءات جمركيّة بمعدل 200 % من قيمة السّيارة عند توريدها من قبل المقيمين بالخارج وبذلك تمنعهم من توريد السّيارات -بصفة غير مباشرة- وتسمح لهم فقط بتوريد سيارة واحدة في العمربدون جمارك، علما بأنّ التونسيين بالخارج لا يضرّون الإقتصاد الوطني في شيء فهم يشترون السّيارة من مالهم الخاصّ بالعملة الصّعبة! في حين تسمح «لرجال أعمال بلطجيّة» بتوريد عشرات آلاف السّيارات سنويا على حساب مخزون العملة الصّعبة للبلاد! فلو فرضنا جدلا أنّ الدّولة تسمح للتّونسيين بالخارج بأن يورّدوا السّيارات كما يشاؤون فسوف يتقلّص عدد السّيارات التي يورّدها «رجال الأعمال البلطجيّة» وبالتالي توفّر الدّولة العملة الصعبة وتدريجيا يمكن توجيه تلك الأموال إلى إستثمارات أخرى منتجة للثّراء وللعمل [3].
ربما هذا هو ما يفسّر إنخراط عدد مهمّ من «رجال الأعمال البلطجيّة» في الأحزاب المحسوبة على المنظومة القديمة أو الثورة المضادّة، فتجدهم يصرفون الملايين لإيصال هذه الأحزاب للسّلطة. نعتقد أنّ على الأحزاب الوطنيّة العمل على دعم «بورجوازية وطنية» تنافس هؤلاء «البلطجية» وتتصدّى لهم، وعلى الأحزاب الوطنيّة أيضا أن تضغط على الدّولة حتّى تراجع القوانين المنظمة للجمارك بطريقة تحمي بها الإقتصاد الوطني وليس «رجال الأعمال البلطجية»!
في النهاية أخلص إلى القول بأنّ «بلطجية» الفضاء المادّي هم أقلّ «البلطجية» خطورة على عكس ما يبدون عليه وأن «بلطجية» الفضاء السّياسي والإعلامي والأكاديمي والمالي إلخ... يمثلون خطرا حقيقيا على العباد والبلاد وهم عقبة حقيقية أمام تحقيق الحرية والإستقلال الفعلي وأيّ مشروع تنمية لمجتمعنا !
أما عن الثورة، فإنها ثورات وأوّلها وأسهلها تحرير واسترجاع الفضاء العام المادي من قبل المواطنين، غير أنّ الطريق لا تزال طويلة لتحرير باقي الفضاءات من «البلطجية» ولكننا بعون الله حتما سوف نتمكن في النهاية من تحقيق الحرّية الكاملة لشعبنا. 
الهوامش
[1] أنظر على سبيل المثال: 
http://info-resistance.org/tag/media-mensonge/
News Focus.
[2] للتعمق في دراسة و تحليل أزمة الميزان التجاري التونسي أنصح بالإطلاع على :
https://www.bct.gov.tn/bct/siteprod/documents/Commerce_Exterieur_20160210_fr.pdf
http://perspective.usherbrooke.ca/bilan/servlet/BMTendanceStatPays?
[3] لقد نشرلنا مقالا يتحدث بأكثر دقّة في موضوع توريد السّيارات، أنظر: د. أنيس الرزقي: نظام توريد السيارات في تونس.. من المستفيد! جريدة الصباح 19-8-2011