قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
الردة والسلام
 يتّجه العالم أكثر فأكثر نحو مزيد من الانقسام والتّشضّي وتنفجر الصّراعات بمختلف أشكالها فى مناطق كثيرة لن تكون نتيجتها محمودة بأيّ حال ولن تؤدّي فى النّهاية إلاّ إلى مزيد من الصّراع والانقسام.
فى عالمنا العربي صراع مرير فى العراق منذ ما يقرب العقدين وأنباء القتل والاقتتال هي كلّ ما يصلنا منه ، وفى سوريا قتال فى كلّ قرية وفي كلّ مدينة وحرب كرّ وفرّ وانقسام واضح بين الطّوائف والمناطق وتدمير شامل للبلاد والعباد، وفى اليمن حرب تدور رحاها منذ سنوات وتنذر بالانتشار والتّصعيد دون انتصار طرف على آخر، كلّ ذلك والبلد يتفتت وينقسم، والشأن فى ليبيا لا يختلف عن غيره فى البلدان التى ذكرناها .
فى أوروبا تبدو بوادر التّفتت من خلال عزم المملكة المتّحدة على مغادرة الاتحاد الأوروبى، وأزمة اقتصاديّة خانقة، وصراع قديم جديد بين أوروبا وأمريكا، وصعود مخيف لليمين المتطرّف، وعودة قويّة لتيارات معادية للأجانب والتّيارات العنصريّة، وفوبيا الإسلام، وانحسار للقيم التى طالما روّجت لها الدّول الأوروبيّة بعد الحرب العالمية الأولى والثّانية. وكلّ هذه ليست إلاّ مقدمات لصراع قادم سوف تخوضه بلدان القارة العجوز فى بينها ومع بلدان أخرى قريبة وبعيدة من أجل تقاسم الثّروات والنّفوذ من جهة ومن أجل أسباب إثنية وعرقيّة من جهة أخرى، إذ لا شيء مستبعد فى عالم يسوده الصّراع المتوحّش. وقد شهدنا من قبل قتالا ومجازر لأسباب عرقيّة فى البوسنة والهرسك ونشهد الآن عداء لتركيا يتفاقم يوما بعد يوم دون أن ننسى أنّ هذه القارّة مثلها مثل غيرها تحمل فى داخلها من أسباب الصّراع أكثر ممّا تحمل من أسباب الوحدة وما الحربان العالميتان اللّتان قتلتا ملايين البشر فى أقلّ من أربعة عقود إلاّ خير دليل على ما يمكن أن ينتظر أوروبا من مستقبل مخيف.
فى افريقيا حدث ولا حرج عن صراعات مبثوثة فى كلّ مكان وحروب تقتل آلاف النّاس فى الصّومال وفي نيجيريا وفى ساحل العاج وفى جنوب السّودان وشماله وفى بلدان إفريقيّة أخرى كثيرة. ولا تبدو البلدان التى لا حروب فيها بمأمن عن الحرب والصّراع، فكلّ الاستقرار فى إفريقيا هشّ وكلّ بلدانها محكومة من الخارج وتتمتّع فيها الشّركات الكبرى والقوى التى استعمرتها من قبل بنفوذ كبير، هذا فضلا عن تركيبة بلدانها وما فيها من اختلاف إثنيّ وعرقي وقبلي داخل البلد الواحد. وهذه الاختلافات ليست إلاّ مقدّمات لصراع مرير قد تخوضه القوى المختلفة بالسّلاح إن عجزت عن إدارته بالحوار ممّا يعني مستقبلا مزيدا من الضّحايا ومزيدا من الانقسام.
هل تبدو الولايات المتّحدة الأمريكيّة فى منآي عن الصّراع والتشضّي وهي التى حقّقت وحدتها بالحرب والدّماء وبذل أهلها جهدا خارقا حتّى أصبحت القوّة العظمى الأولى فى العالم؟ ألا تحمل أمريكا فى داخلها أسبابا للانقسام والتشضّي ؟ وهل يمكن لقارة مهيمنة أن تبقى متماسكة إذا انحسرت هيمنتها وفقدت شيئا من قوّتها؟ وهل يكون التّنوع العرقي والدّيني واختلاف الألوان سببا لانقسام حادّ ينذر بصراع يأكل الأخضر واليابس .
إنّ مختلف الأسئلة التى طرحناها ليست أسئلة من فراغ  إذ أنّ حجم الإنفاق العسكري فى الولايات المتحدة هو الأكبر فى العالم كما أن اقتصادها ما زال هو الأقوى، ورغم ذلك فثمّة من يرى بوادر انحسار للدور الأمريكي وللقوّة الأمريكيّة على حدّ السواء وهو ما ينذر بارتداد الصّراع الخارجي إلى الدّاخل فى بلد يحمل في باطنه من أسباب الانقسام أكثر ممّا يحمل من أسباب الوحدة . كما أنّ شرطي العالم لم يكن نزيها وخاض فى دماء الملايين من البشر بلا رحمة ومازالت أمريكا تخوض أكثر من صراع فى العالم كما أنّها الحامي الأكبر للكيان الصّهيوني لتتحمّل بذلك دماء الفلسطينيين الذين قتلتهم الصّهيونية خلال عقود ولن تكون بالتالي فى مأمن من عاقبة الظالمين.
إنّنا اذ نقوم باستعراض لمناطق الصّراع فى العالم وما قد ينتج عنها من انقسام وتشضّي ندرك أنّ الصّراع والاختلاف سمة هذا العالم منذ وجد الإنسان ولكنّنا ندرك مع ذلك أنّ آلة القتل الحديثة صارت آلة جبّارة تقتل بلا تمييز وبلا رحمة وأنّ العالم لم يعد يكترث للقتلى الذين يسقطون في كلّ ثانية من الثّواني وأنّ الإنسان الحديث ورغم مظاهر المدنيّة وما يبدو عليه من تحضّر قد أصبح أشدّ بدائيّة وحقدا من أيّ إنسان مضى. إنّنا قد لا نبالغ إذا قلنا بأنّ العالم يتّجه نحو دورة من العنف قد تذهب بكلّ مكتسباته قديمها وحديثها وأنّ الإنسان قد بذل جهدا خارقا على مرّ العصور من أجل بناء منظومة من القيم تؤسّس لحياته على الأرض غير أنّه يوشك أن يفقدها كلّها ليفقد معها إنسانيته كلّها.
هل نبالغ؟ هل نبدو متشائمين أكثر من اللاّزم؟ هل نحن عدميّون؟ هل من تفسير لسكوت العالم بأسره أمام دمار بلاد مثل سوريا من أجل بقاء حكم عائلي، ومشاهد القتل الأعمى على كلّ الشّاشات؟ وهل من تفسير لصمت العالم إلاّ ما ندر أمام قتل المسلمين «الرّوهينغا» وحرقهم أحياء وهدم دورهم وغير ذلك من البشاعات؟ وهل يوجد معنى لصمته أمام المجاعات والتّشريد والتّهجير القسري والقتل على الهويّة والدّين والعرق؟ كيف يمكن للعالم المتحضّر الذي أصدر مدونات بأكملها للحديث عن حقوق الإنسان أن يصمت أمام نبش القبور والتّنكيل بالجثث؟
إنّنا أمام ردّة فى القيم وفي السّلوك ليس لها مثيل وهي ردّة ستجعل هذا العالم أشبه ما يكون بالبركان الذي يقذف حممه على النّاس فى كلّ مكان. ويا ليت الأمر يقف عند هذا الحدّ بل إنّ لهذا التّحول البشع انعكاس ولا ريب على ثقافة الإنسان القادم الذى لن يعود مؤمنا بقيم الحرّية والعدالة والإنسانيّة والحوار بين الثقافات والشّعوب بل إنّه سيرتدّ إلى منظومة قيميّة جديدة لا تؤمن بالحرّية ولا بالعدالة ولا ترى فى الإنسان المختلف إلاّ جثّة ينكل بها فى الشّوارع.
 إنّ الذين يدفعون باتجاه الانقسام بين الشّعوب وداخل الشّعب الواحد لا يدركون أنّهم إنّما يسهمون فى قتل هذا الإنسان عاجلا أو آجلا وأنّهم لن يكونوا فى الحدّ الأقصى إلاّ سكّينا فى خاصرة هذا الإنسان وأنّهم كلّما أشعلوا نارا للفتنة احترقوا بها ليذوقوا وبال أمرهم.
لا يطفئ نار الفتنة إلاّ السّلام وثقافة السّلام والله هو السّلام وهو صاحب الأمر من قبل ومن بعد.