قصص القرآن

بقلم
الهادي بريك
قصة ذي القرنين
 وردت القصّة بهذا الإسم الرمزي في سورة الكهف ضمن قصص ثلاث احتضنتها السّورة وهي : فتية الكهف أنفسهم وقصّة موسى مع الخضر عليهما السلام وهذه القصّة. وممّا ورد مناسبة للنّزول أنّه سئل عليه الصّلاة والسلام عن بعض هذه القصص إمّا تحدّيا وإختبارا أو رغبة في العلم. ترتيب هذه القصص الثلاث في هذه السّورة يشي بعبرة في الإصلاح والتّغيير كبيرة توافقا مع المناخات السّائدة داخليّا وخارجيّا وعنوانها أنّ الحدّ الأدنى للإصلاح هو الخلاص الفردي فرارا من المواجهة غير المتكافئة وهو ما لجأ إليه «فتية الكهف» وهي حالة يمكن تكرّرها في الزّمان والمكان، كما أنّ لعملية الإصلاح ومشروع التّغيير حدّا أوسط وهو بثّ العلم أو ما نسمّيه اليوم «العمل المجتمعي» المتجنب للصّدام مع الهياكل السّلطانيّة المستأسدة الشّرسة وهو ما أقدم عليه كلّ من موسى والخضر عليهما السّلام ومخّ هذا الإصلاح هو التّزود بفقه الموازنات لأجل دفع الضّرر الأعظم عن الفقراء والضّعفة قدر الإمكان في موازين دوليّة منخرمة كثيرا في اتجاه الجور والقهر، أمّا إذا كانت الأوضاع سانحة بشروطها المعروفة لنشوء حكم عادل يفرض الإصلاح ويمضي التغيير بوازع السّلطان فإنّ الحدّ الأقصى يكون إصلاحيّا وتغييريّا مع ما أقدم عليه «ذو القرنين» أي الجمع بين السّلطان والقوّة والعلم والتّقوى وهي حالة نادرة في التّاريخ وتتطلّب إعدادات لعقود بل قرون وبذلك تكون سورة الكهف نفسها قد تضمّنت مناهج التّغيير الممكنة في التّاريخ البشري بحسب الإمكان إذ لا تكليف إلا بقدرة وذكر.
خلاصة القصّة
كعادة القرآن عندما يريد صرف الانتباه عن الصّغائر والتعلّق بالكبائر، لم يشأ أن يشغل العقول عن الإسم الحقيقي لهذا المصلح الكبير ولا حتّى عن موطنه وزمانه لأنّ كل ذلك مشغلة يتعلّق بها الأطفال، أمّا الكبار فلهم العبر والدروس والعظات ولكن رغم ذلك الدّرس الباهر فإنّك لاقٍ في التّفاسير كلهّا تقريبا إلاّ نزرا قليلا ما يملأ الصّفحات عمّا لو كان مهمّا في القصّة لما أغفله الوحي الكريم وهي آفة حقّا إذ يتوجّه النّاس في الأعمّ الأغلب في الإتجاه المعاكس لإتجاه القرآن الذي يربط الأفئدة بالعبر وهي تأبى إلاّ أن تنحدر إلى الحفر. 
الإسم كاف للإعلان منذ البداية عن الإتجاه العلمي لهذا الرّجل فهو «ذو قرنين» والقرن رمز للقوّة وله منه إثنان. ألا يكفي ذلك حتّى يكون المبنى للإسم ملتصّقا بغرض المعنى؟ من قائل أنّه «الإسكندر المقدوني» سيّما أنّ جزء من قصّته مع «يأجوج ومأجوج» وقد يكون هؤلاء أنفسهم سليلي تلك المنطقة، ثم يغرق العقل العربي المعاصر في تخيّلات وتمحلات وتصوّرات وتكهّنات لا ساحل لها وما ذلك بالمقصود الأوّل من القصّة. 
هي قصّة رجل جمع الله له تمكينا في الأرض لأجل الإصلاح بين القوّة السّلطانية فهو يجوب المشرق والمغرب بحرّيّة واعتراف، وبين العلم فهو يجهز القناطر المتينة السّميكة بالحديد لأجل حماية الضّعفة من بطش البطّاشين، وبين التّقوى فهو يفعل كلّ ذلك تقرّبا إلى الله وليس غرورا ولا منّا.
أبرز العبر من القصّة
(1) أول خطوات القوّة هي السبب
ليس إعتباطا ـ حاشا الكتاب الكريم ـ أن يتكرّر هذا الجذر في هذه القصّة القصيرة أربع مرّات. في كلّ خطوة إصلاحيّة جديدة يخبرنا الله سبحانه أنّ ذا القرنين اتبع سببا أي أنّه لا يغامر بإمكانياته ومؤهّلات جنده وعلمه ليخوض حربا خاسرة ثم يعلق الهزيمة على القضاء والقدر أو على المؤامرات الخارجيّة، بل يعدّ الأسباب الكفيلة بتحقيق النّصر بإذن خالق السّبب نفسه سبحانه. الأسباب للعيش والنّصر والقوّة والتّمكين والعلم والتّسخير مبثوثة في الأرض أي في هذا المعرض الكوني الكبير الذي نحيا فيه ولا يتطلّب غنمها سوى التّفكير الحرّ والبحث، فهي موجودة ويبتغى إكتشافها وليس إختراعها فما إخترع الكيميائي شيئا ولا الفيزيائي ولا الطّبيب ولا غيرهم من دهاقنة العلم وإنّما أطلقوا الحرّية الكافية والكاملة لعقولهم وتجارتهم فجوزوا عن ذلك علما. أليس من أنكى نواكينا اليوم أنّنا نبتغي تبديل الحال بلا سبب ولا جهد؟ نريد الخروج من منطقة التّخلف دون مقاومة ومن مساحات الجهل والأمّية بلا تعلّم ومن دوائر الإحتلال بلا تجميع لقوّاتنا ثم يسيل لعابنا لما أنجزه الغربيّون فنطفق لهم مقلّدين ظانّين أنّ الدّين هو سبب تخلّفنا ولو تسلّقنا سلم الأسباب الذي تسلقوا لكنّا خيرا منهم وأعلم وأقوى وأجمع. حتّى الأنبياء المرسلون لم يعفوا من طلب السّبب وهم يعيشون المعجزات، فهذا «موسى» عليه السّلام لا ينفتح البحر الأحمر في وجهه ليكون طريقا يبسا إلاّ بعد أن يضرب بعصاه وهذه «مريم البتول» عليها السلام لا تضع وليدها إلاّ بعد أن تهزّ إليها جذع نخلة سميكة، فهل يصدّق عاقل أنّ ذينك السّببين من «موسى» و«مريم» أحدثا المعجزة فإنشق البحر ووضعت مريم؟ أبدا. إنّما أريد بهما تعليمنا أنّ السّبب لا بدّ منه حتّى في حالة النّبوة والمعجزة فما بالك في حالة قوم فرّطوا في أنفسهم فكانوا طعما للتّخلف والأمية والتّأخر.
(2) لا يشد الملك شيئ مثل العدل
المقولة العظيمة هذه للمعلم الأكبر «إبن خلدون» عليه الرّحمة والرّضوان. هو نفسه إجتزأها من القرآن الكريم الذي يعنى كثيرا بفقه الإصلاح ومعالم التّغيير وسنن القوّة وأسباب الضّعف. لمّا أراد «ذو القرنين» أن يؤسّس ملكه الكبير مشدودا لا تنخره الشّاغبات، بناه على أساس عظيم عنوانه:«أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا، وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ ۖ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا». أي أنّه بنى ملكه على قيمة العدل لينزجر الظّالم فلا تطلق يده في أموال النّاس وكراماتهم وحرماتهم وأعراضهم وهو عذاب الدّنيا أي جزاء الدّولة للمفسدين، أما يوم القيامة فأمره إلى مالك يوم الدّين وحده سبحانه. كما أنّه توازنا مع ذلك فإنّه يثيب المحسن بالإحسان قولا وعملا وهو لاف اليسر ليكون له ذلك مشجّعا على مزيد من فعل الخير. ذلك هو الأمر الذي توخّته الدّول الغربية أو كثير منها فأخذت بأحد أكبر أسباب القوّة والغلبة فقهرتنا به على كفرها وإيماننا، فما أغنى عنّا إيماننا في الدّنيا شيئا ولن يغني إيمان عن صاحبه في الدنيا شيئا ما دام حليفا للقهر خصيما للظلم.
(3) مشروعية السلطان في تحرير الفقراء من سجن الحاجة
لم يذكر لنا القرآن الكريم عمّا فعله «ذو القرنين» لأهل مشرق الشّمس وهم عراة حفاة بلا مأوى ولا سرابيــل تقيهــم حرّهـــا ولكنّــه عندمـــا ذكـــر لنا اتجاه الإصلاح المتوخّى في أهل المغرب ـ أي إحلال الــعدل ـ فإنّه يريد لنا أن نتخيّل أنّـــه عالــــج هــذه الحالـــة المشرقيّـــة بما يناسبها وهل يناسبهــا ســــوى العمل لأجل تحرير أولئك الذين تلذعهم الشّمس بتوفير المآوي والملابس؟ ربّما لم يذكر ذلك كذلك لأنّ معالجته لا تتطلّب لسلطان قويّ عالم مؤمن شيئا كثيرا مقارنة مع ما تتطلبــه معالجـــات إحـــلال العدل في الحالة الغربيّـــة ولا يمكن لمصلح مثل ذي القرنـــين أن يغضّ الطّرف عن قوم ليس بينهم وبين الشّمس ستر يقيهم لذعها.
(4) الحديد عنوان القوة العصرية
لم أعجب من شيء عجبي من الإعلان الصّريح من لدن هذا الكتاب المعجز أنّ الحديد ـ وقد خصّص له سورة مدنيّة كاملـــة ـ هو عنوان القوّة الإقتصاديّة والعسكريّة. أليس كأنّه يتنزل الآن على قـــوم يصنعون الحديد وآخرين يفترسهم الحديد؟ ولم أجد شيئا يجعلني حزينا كئيبا مثل ما أجد أنّ دستور المسلميـــن يحوي سورة كاملة تحمل إسم الحديـد وهم يظنّون أنّ دستورهم مثـــل المسيحيّة يأمرهم بالتّقـــوى والبعد عن الحديد وأهل الحديـــد والإنكفاء على الذّات وإعتبـــار أنّ الأرض تعمرها الحملان الوديعة وليس الذّئاب الجشعـــة النّهمة. 
عنوان قصة ذي القرنين هي الحديد الذي هو صناعة إرتفاقيّة مدنيّة وعسكريّة معاصرة لنا نعرفها وتعرفنا ولم يكن لها بالسّالفين شأن. أليس هذا عجب عجاب؟ ما إن علم «ذو القرنين» أنّ قوما ما بين السّدين بدو سذج مستضعفون لا شأن لهم بالتّحضر والتّرقي، لا معرفة ولا صناعة حتى استجاب لطلبهم وبدون مقابل بمثل ما عرضوا هم، فشيد لهم ردما يحول دونهم ودون عدوانات «يأجوج ومأجوج». بل إنّه يعلم الصّناع المعاصرين اليوم ـ أجل. اليوم ـ كيفيّات استخدام الصّناعة الحديديّة أي تقسيم الحديد إلى زبر أي أجزاء حتّى يسهل استخدامها وتطويعها للغرض المبتغى ثم اعتماد التّساوي الهندسي والتّعادل التّركيبي أن يخرّ السّقف بعد قليل ثم اعتماد القوّة الكهربائيّة المعبر عنها يومها بالنّفخ، والنّفخ يوفّر القوّة بمثل ما توفّر الكهرباء اليوم الطّاقة، فإذا ما استحال ذلك نارا ـ والنّار اليوم هي الكهرباء التي بوقودها يسير كلّ شيء بل هي معجزة التطور الصناعي المعاصر ـ جاء بالنّحاس المذاب ـ أي القطر ـ ليكون له ذلك رابطا قويّا يمسكه في وجه عاديات الرّياح والأمطار وتقلّب الزّمان. أليس ذلك درسا لنا اليوم أنّ الحديد الذي يفترسنا بأيدي صنّاعه وهو مبثوث في الأرض ـ بل هو في أرضنا وليس في أرضهم ـ نحن به أجدر لأنّه مبثوث في أرضنا وفي كتابنا؟ هل هناك كتاب سماوي يفصل في صناعة الحديد واستخداماته بمثل ما فعل القرآن ؟
(5) تشريك الناس في الصناعة والهمّ الوطني
كان يمكن لذي القرنين أن يتولّى الأمر بنفسه أي بناء الجسر الواقي سيّما أنّ قوم ما بين السّدين «لا يكادون يفقهون قولا» أي أنّهم في مستوى منحدر من التّحضر الفكري والرّقي النّفسي ولكنّ الله أراد أن يعلّمنا درسا ـ هو لنا وللدّولة ـ مفاده أن حمل الهمّ الوطني لا بدّ أن يكون مشتركا ولذا قال: «فأعينوني بقوّة». أي لا بدّ من مشاركتكم في بناء المشروع وبقوّة وتكافل وتعبؤ وليس بمشاركة رمزيّة أو ثانويّة وذلك حتّى يشعر النّاس أنّ البلاد بلادهم  وأنّ القضيّة قضيّتهم وأنّ الدّولة زائلة والشّعب باق إلى حين وهذه سياسة تلجأ إليها المنظّمات الإغاثيّة التي تعتمد الإستثمار لا العطاء وبمثل ذلك تبنى الخطط الاقتصاديّة في أوروبا على أساس إجتماعي شعبي، لا في مستوى الحوار فحسب بل في مستوى التنفيذ كذلك سيّما أنّ الدول التي تعتمد النّظام الفدرالي يكون ذلك مساعدا لها. ربّما يكون ذلك ترجمة للمثل الصيني العظيم : «لا تعطني سمكة بل علمني كيف أصطاد»
(6) خارطة حضارية مشابهة لخارطتنا المعاصرة
قبل خوض غمار هذه المقاربة الظّنية ـ بل هي رمزيّة كذلك ـ لا بدّ من التّأكيد مجدّدا على أنّ المقصود الأول والأعظم من قصّة ذي القرنين إنّما هو إعداد الإطارات العلميّة الكبرى للمستقبل فيما يتعلّق بوضع أمّتنا لأجل تأهيل نخب جامعة بين المثلث الشّرطي للتّقدم والنّهضة أي العلم الكفيل بإعدام التّخلف وبناء النهضة والقوّة الكفيلة بتجاوز المعوقات والتّدين الصحيح الكفيل بإستدامة الخيرات ونبذ سرطانات العجب والغرور والمنّ وما اجتمعت تلك الشّروط الثلاثة في مشروع أو مجتمع إلا أينعت ينابيع النهضة في آجالها وأثمرت أغصانها وآتت أكلها طيبة. هي خارطة مشابهة لخارطتنا : غرب حيث تغرب الشّمس في عين حمئة سخنة ظاهرها الدّفء وباطنها الوحل هو وحل الحمأة ولكنّه غرب عامل متّصل حتّى إنّ أقوياءه يجورون على ضعفائه ويفترس أغنياؤه فقراءه ولكن بإسم القانون والموازين المنخرمة وهو غرب آيل إلى الضّعف إلاّ إذا أعملت فيه معاول العدل التي جاء بها «ذو القرنين». وشرق حيث تشرق الشّمس صمت عنه القرآن والصّمت أولى في مواطن الصّمت وربّ لسان حال أبلغ من لسان مقال. شرق يستقبل الشّمس مع كلّ مطلع جديد بسيقان عارية وصدور أعرى فلا مأوى ولا مأكل ولا مشرب ولا مدفأ . شرق دونه ودون مشاكل النّهضة في الشّاطئ الغربي لقمة عيش ولذا أخفقت الديمقراطية الشّرقية أو تكاد لأنّ الحريتين متلازمتين فلا تغني لقمة العيش عن حرية اللّسان  والقلم ولا تغني هذه عن تلك.