تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
تحدّي
 «حسن» رجل بسيط لا يجرؤ على رفع عينيه في وجه أحد، لم يقرأ ولكنه متعلم واكتفى بما يعلم فلم يشوّش تفكيره بما لا يعنيه. وفي موجة الاكتئاب التي يمرّ بها أعوان وعملة المؤسّسة لم يتغيّر «حسن» وبقي لا يبالي بما حوله. 
«حسن» ليست لديه قضيّة ولا مشكلة مع قريب ولا بعيد، فلم يفقد بسمته النادرة التي لا يعرضها مجانا إلاّ على من ارتضى ولا أظنّني منهم لأنّني لم يتسنّ لي اقتناصها إلاّ خلسة لمّا ألمحه عن بعد يعمل منجله الصّغير في شجيرات الحديقة. 
لما فقد الجميع الرّغبة في العمل وساد المشغل جوّ خانق لتعطل المكنات وهروب الحرفاء وأصبح العمّال باختلاف درجاتهم يجرّون أرجلهم جرّا ذهابا وإيابا مثقلين بالهموم ويتبادلون نظرات شكّ وحذر فتخوين وعداء، واصل «حسن» عمله المعتاد بنفس الرّتابة صباحا، مساءا ودون يوم الأحد، فيجمع ما تكدّس من قمامة على أبواب الأقسام لنقلها للمصبّ الخارجي ثمّ يكمّل يومه في العناية بأشجار الزّينة وتنقية الأعشاب. 
«حسن» رجل رصين جلب لنفسه الاحترام والتّقدير. أيام تغيّبه عن العمل قليلة تحفظ في الذّاكرة لأنّه الوحيد الذي يفتقده كلّ العملة لو غاب والوحيد الذي إن تكدّست ملفّاته تنتن وتتفشّى رائحتها وتنتشر كريهة فما عليه إذا إلاّ معالجتها والتّخلص منها في آجالها. لم يهتم «حسن» بما يجري ولم يشغل باله ما تناقل إلى أسماعه أنّ المؤسّسة تمرّ بصعوبات كبيرة. بل لم يبدُ أنّه تفاجأ بالأمر، ربّما لأنّه لاحظ أنّ صاحب المشغل أصبح منذ مدّة يبيت بالمكتب من كثرة الزّوار، أو بلغه أن قد يستغني صاحب المشغل عن مديره وبعض من مساعديه وقد يتمّ كذلك التّخلي عن عدد كبير من العملة إن لم يسترجع المشغل نشاطه المعتاد. رُجّحت إشاعة هذه الأنباء ثمّ تأكّدت بتكاثر الصّخب وتوافد العمال جماعات وفرادى على مكتب المدير ومكتب صاحب المشغل ولكلٍّ في رأسه مشروع وكلٌّ في رأسه متهم.
أقبل اليوم كعادته وهو الوحيد الذي باشر عمله المعتاد أو ربّما ثاني اثنين أو ثالث الثّلاثة باعتبار سكرتيرتي المدير وصاحب المؤسّسة. فبعد أن ملأ الحاويات وجرّها إلى المصبّ، عرّج «حسن» على المشرب ليخلّصه ممّا جمع منذ البارحة من قمامة، ولكنّه تذكّر أنّ العمال يتناولون قهوتهم مجتمعين خارج المشرب وأنّ الأوساخ التي كانت تكدّس أصبحت منتشرة حيث يلتقون في حلقات صغيرة ممّا جعله يلتقط ما تبعثر هنا وهناك. لم يكمل حسن ما انشغل به حتّى سمع الصّفارة على غير عادة في هذا الوقت من الزّمن تصدح لتدعو العمّال إلى الالتحاق بمواقع عملهم.  ثم لم يلبث طويلا حتّى سمع عبر مضخّم الصوت صاحب المشغل بنفسه يدعو الجميع إلى اجتماع عام. فأسرع البعض وتباطأ البعض الآخر واتجه جميع العمال والإطارات إلى مبنى الإدارة.
قاعة المحاضرات التي خصّصت لتحتضن هذا الاجتماع لا تتّسع لجميع الحاضرين جلوسا، فاحتل المبكّرون الكراسي المنتشرة بانتظام حول مائدة الاجتماع وعلى طول جدران القاعة، أمّا البقية فمنهم من كان متطرّفا فأسند ظهره إلى ما تيسر من الحائط ومنهم من اعتدل واقفا وسط الحشد. غصّت القاعة بمن التحق أخيرا متثاقلا أو متردّدا، وفي هذه المرّة تسلّل بينهم «حسن» ليحضر أوّل اجتماع ولعلّه الأخير بما أنّه على أبواب الإحالة على التّقاعد لبلوغه السّن القانونيّة. لم يندم «حسن» ولا يعتقد أنّه أضاع شيئا ثمينا بمقاطعته مثل هذه الاجتماعات. وقف مثل غيره دون استناد وقد اندسّ بين الحاضرين وقد استوت في هذا اللّقاء رتبهم فلا يخضع اليوم أحد لرئيسه والكلّ مسؤول على نفسه دون سواه. 
وصل أخيرا صاحب المشغل يفتح بين الواقفين مسلكا لبلوغ طاولة الاجتماع، لم يجد كرسيّا شاغرا فلم يبال. ولم يكترث كذلك أن لا أحد من الجالسين تنازل له عن كرسيّه ولو مجاملة ومراعاة لسنّه. لم يهتم وقد تأكّد من حضور جميع المديرين ومساعديهم. لقد رآهم واقفين خلف العملة مسندين ظهورهم لما أتيح لهم. اشرأبّت الأعناق في اتجاه الرّجل وتعالت الأصوات واختلطت واندفع الحاضرون يطلقون وابل غضبهم على صاحب المشغل في شعارات تعوّدت الأذن سماعها خلال هذه السّنوات الصعبة «شغل – حرّية – كرامة - وطنية». رفع صاحب المشغل يديه لتهدئة الأجواء وإعلانا عن بدء الاجتماع وتهيّأ للحديث المهمّ الذي أراد أن يبلغه للحاضرين. وبعد لأي وعلى إثر أحاديث بقيت متواصلة من هنا وهناك شرع الرّجل في الكلام بصوت عال يُسمِعه لكلّ الحاضرين، فقال: «أنا اليوم كعادتي بينكم. أنا اليوم أكبر المتضرّرين ومازلت على وعدي بإصلاح الأمور إن وجدت الآذان الصّاغية والنّوايا الحسنة لأن الأكثر تضرّرا كما تعلمون هي البلاد.  كنت حذّرتكم قبل هذا اليوم من مغبّة الانصياع إلى نداءات أصحاب السّوء الذين لا يريدون إلاّ طمس الحقيقة ونشر ثقافة الفشل في صفوفكم وها قد نجحوا فأوصدوا في وجوهكم أبواب الرّزق وتصدّروا المنابر وعلوا علوّا على جوعكم ومعاناتكم. ولا أعد هذا العلوّ منهم علوا بل، بالذي لا إلاه إلا هو، ما هم إلّا أسفل سافلين. واليوم إذ أخذْتم بالعزّة والكبرياء إلى الفتن، سأحاسب كلّ من كان السّبب في غلق المشغل وقطع أرزاقكم. فما قولكم جميعا؟.»
أمام المصائب، يتخفّى المرء خلف رئيسه، فاتجهت الأنظار سهاما إلى شخص المدير والتقت عليه كأنّه على ركح أضيئ ببريق أعينهم. تململ السّيد المدير ومن مكانه قال دون تردّد: «أيها الإخوة والأخوات، إنّ الوضع العام بالبلاد أثّر سلبا على مستوى مبيعاتنا التي شهدت فتورا طال أمده. وأمام الطّلبات المتزايدة والتي أثقلت كاهل المؤسّسة، ها نحن الآن نعاني من الوضع الذي كنت حذّرتكم منه. واليوم الحلّ بأيديكم ولا مناص من تخفيض النّفقات حتى تسترجع المؤسّسة نسق نشاطها التّجاري المعتاد. فحينها سيتمّ دعوة العمال المسرّحين للالتحاق بعملهم من جديد.»
ارتفعت الأصوات من كلّ جانب تسبّ وتشتم المدير وتنعته بالفساد والفشل ونادت بعض الأصوات من هنا وهناك دون انسجام وبتستر «ديقاج». وخلال اللّغط والتّصفير المتواصل تنطلق أحيانا كلمات سوقيّة بذيئة كادت تفسد الاجتماع بخروج بعض نسوة خدِش حياءهن لولا تدخّل «سي يوسف» الممثّل النّقابي الذي بهدوء وبإشارة واحدة أسكت الجميع. فنطق حينها وقال: «كلام السّيد المدير مردود عليه. من مِن الحاضرين يريد الكلام فليوجز».
ارتفعت الأيدي وارتفعت الأصوات أعلى وعاد الصّخب والصّياح طلبا للكلمة. وتقدّم رجل عريض الكتفين معتدل القامة ومورّد الخدين، هنأه بعض الأصدقاء من الحاضرين على جرأته وشجعوه بالتّصفيق. استعد وأخذ من الوقت ما استكْثِر عليه وهو يحيي كلّ من بادله الابتسامة والرّضا غمزا ولمزا. فأخرج من جيب سترته ورقة ملفوفة فتحها وأعطى الإشارة لمن يتابعون حركاته وشرع يلقي بصوت عال وفي غنّة شعارات تردّدها خلفه بنفس التّرنيمة جوقة بحماس ورفع للسّواعد. استحسن البعض هذا التّظاهر وهزّ لديهم الحماسة فرافقوا الجوقة في انسجام محتشم. 
«أحنا أولاد الدار والبرّاني على برا»
«المشغل اتباع وأنا حقّي وين» ...
........... يا عصابة السرّاق»
ولمّا أكمل الخطيب ما لديه من شعارات وبعد أن فتر صوته من شدّة الصّياح تراجع ليتقدّم رجل آخر صاح مباشرة: «أنا أبو عيال. بدمي سقيت هذه الأرض وبدموعي شحنت هذه المكنات، والآن يريدون التّخلص مني. أنا لست عبئا على أحد. .... أريد حقّي وحقّ أولادي.» ثم أعطيت الكلمة إلى كل من طلبها فوجّه اتهامه إلى أطراف هو لا يعلمها.
ثم جاء  دور «سي يوسف» الذي أراد أن يبسط وجهة نظره كممثل نقابي أي أنّه يتكلّم باسم كلّ العملة باختلاف درجاتهم. وبكلّ هدوء وبإشارة واحدة شدّ انتباه الجميع فقال: « في الأخير من يدفع الفاتورة ؟ هذا هو السّؤال المفصلي. تريد إدارة المشغل على لسان السّيد رئيسها رمي المسألة على كاهل العامل البسيط فاقد السّند الاجتماعي «زوالي» الذي لا حول له ولا قوة «إذا خدِمْ كلَا وإذا قعدْ جاعْ». هذا محال بعد هذا اليوم. لن نسمح بهذا الظلم المسلّط على الفئات الهشة وعلى المستضعفين. إنّنا نستنكر قرار السّيد المدير ونحمّله مسؤولية الفشل. قد نتفهم صعوبة الأوضاع العامّة بالبلاد التي أثّرت على العامل ولا يقدر أن يؤثر فيها، فهو لا ناقة له فيها ولا جمل ولا يمكنه تحمّل تبعات ما حصل. ولن نقبل أن تمسّ شعرة من كرامة عمّالنا رأس المال الذي تبقى.»
في موجة تصفيق عارمة واصل «سي يوسف» بكلّ ثقة في النّفس واعتزاز وفخر:«كنّا نبهنا السّيد المدير من سوء تصرّف منظوريه ومساعديه وقدّمنا له ملفّات تحمل شبهات فساد فلم يحرّك ساكنا، بل دافع عنهم وحماهم. واليوم ها هو يطالب بأن يدفع العامل البسيط من دمه وبدمعه ما تمّ نهبه من مال المؤسّسة. ... أتريدون أن يتحمل «حسن» ... (ورفع رأسه يبحث عنه) أين «حسن»؟ كنت قد رأيته منذ قليل....»
 ضاع كلام «سي يوسف»، لم يعد يسمعه «حسن» الذي وجد نفسه لأوّل مرّة يستمع بهدوء وثبات فانقطع فجأة. أذهله الموقف وارتعد لأجله. ها هم يقودونه بل يحملونه على أياد قويّة لأنّه لم يعد يشعر برجليه تحملانه أو تلامسان الأرض بالمرّة. ووجد نفسه أمام «سي يوسف» وبالقرب من السّيد صاحب المؤسّسة ووسط الحلقة الدّائرة من الوجوه التي يعرفها كلّها. نعم، يعرفهم جميعهم. الكلّ عار أمامه. يعرف عنهم الكبيرة والصّغيرة وكأنّه يقرأ ما لم تحتوه ملفّاتهم المحفوظة بسجلاّت مصلحة الموظفين، تلك التي لا يدسّ فيها إلا شهادات الخبرة وشهادات طبيّة غير حضوريّة. إنّه يعرف عنهم فردا فردا أكثر من ذلك بكثير. 
هل هو في حلم أم في يقظة؟ ليته لم يأت إلى هذا الاجتماع. لماذا قادته رجلاه إلى حيث لم يتعوّد. أحسّ «حسن» أنّه في ورطة. كلّ الوجوه التي تحملق فيه تتمنّى مكان «حسن» لإلقاء كلمة بحضور «سي يوسف» الذي لا ينطق إلاّ للدّفاع عنهم. و«حسن» الذي لم يطلب لنفسه يوما شيئا والذي يعرف حقيقة ما يدور بخلد كلّ الحاضرين، هل سيتواطأ ويشهد شهادة زور؟ هل يستحق عمرو هنا وزيد هناك ما يطلبانه من استحقاقات أم ......؟ هل يجرؤ على أن يأخذ الجميع بفساد هؤلاء ؟ إنّه لامتحان صعب.
طال صمت «حسن» ضانّا أنّ جميع الحاضرين ينتظرون بنفاذ صبر كلمته وأنّهم ما أتوا به إلى وسط الحلقة إلاّ ليتكلم ويستمعون إليه. وأخيرا تحرّك وأشار بما يوحي أنّه وجد الطّريق التي يجب أن يسلكها في هذه الزّحمة التي حجبت عنه الأفق. وبهدوء فاضح لم ينجح في إخفاء خلجات صدره، تحدّى «حسن» حسنا وتكلّم أخيرا فسكت بغتة «سي يوسف» وبابتسامة فسح لحسن الأول المجال  فقال: « أيها الإخوة والأخوات، كلّكم تكلّمتم واستمعت جيدا لفضائلكم وبلائكم الذي أبليتم. لو صدقتكم، لكان أجدر أن أصدّق أنني وإيّاكم هنا في حفل تكريم وتوزيع الإكراميّات والهدايا بمناسبة نجاح المؤسّسة في تحقيق أرباح. والحال ولا أظنّني أحلم، أنّنا نخوض في مسألة إفلاس لا أحد تسبّب في شيء منه ولا أحد منّا تهاون في دفعه عنا. أهنئكم أيها الحالمون لأنّنا برغم فضائلكم نحن حقيقة في حالة إفلاس. وأريح بالكم لأنّكم لم تكونوا، وكلّكم مجتمعين، قادرين على تفادي هذا الإفلاس. 
واليوم أفاجئكم وأخبركم أنّني أنا المتسبّب الوحيد في هذا الذي أنتم فيه. وأدعوكم إذن للتوقّف عن البحث أين تعلّقون الفشل. أنا الوحيد الذي أردت وسعيت ونجحت رغما عنكم. واليوم كذلك اتضح لي ولم يعد يخفى عليكم أنتم أننّي الوحيد الذي يمكنني إصلاح ما أفسدت دونكم. وكما لم تقدروا من قبل، لن تقدروا - وإن اجتمعتم - أن تحولوا بيني وبين بلوغ هدفي. ابقوا كما أنتم ضحايا مهمّشين، مفعولا بكم لا فاعلين. السلام عليكم – أنا مستقيل .»
بين وترين متوترين وتر صدق ووتر العدم، تسلّل حسنان وتركا الحاضرين في غفوة يحملق الكلّ في وجه الآخر يبحثون أكان حسن بينهم حقيقة أم خيالا، فلم يستكشف كل منهم إلا صورته في وجه الآخر.
فليطر معشر ويعلـــو فإنـــــــي لا أراهم إلا بأسفـــل قـــــــاب
لا أعد العلو منهم علـــــــــــــوا بل طفو يمين غيــــــر كــذاب
جيف أنتنت فأضحت على اللجـ ـة والدرّ تحتها في حجـــــاب
«إبن الرّومي»