تأملات

بقلم
عادل دمّق
ملامح تحليل نفسية في مقدّمة ابن خلدون
 تحليل النفسي قد أدى خدمة جليلة  لحلّ بعض المعضلات التي تطرح على الإنسانيّة ولكن مساهمته هذه لا تزال ضئيلة بالقياس الى ما يمكن أن يتمخّض عنه يوم يشرع مؤرخو الأديان والحضارة والتاريخ وعلماء النفس أنفسهم باستخدام أداة البحث الجديدة التي يوفرها». «فرويد» 
من مظاهر التميّز في المقدمّة اعتماد «ابن خلدون» على منهج تحليلي نفسي، فحينما نطالع العديد من الفصول تجدنا أمام نماذج من التّحليل تتجاوز أرقى ما وصل إليه الفكر الإنساني في أحدث تجليات إنجازاته، فهو حينما يتناول ظاهرة بالدّرس لا يقف عند حدود الوعي والإدراك الشّعوري وإنّما ينفذ إلى الأعماق اللاّشعوريّة . 
وأوضح ما يتجلّى هذا المنزع حين يتصدّى لدراسة الاتجاهات الفكريّة والسياسيّة في شقّيها المتقابلين: الاتجاه الدّيني المحافظ والاتجاه اللّيبرالي العلماني.
الاتجاه الليبرالي العلماني
إن ما يميّز هذا الاتجاه هو التّجافي عن تعاليم الدّين والاعتداد بالرّأي «الحرّ». نقرأ في فصل «أبطال الفلسفة وفساد (رأي) منتحليها»: «أمّا قولهم أنّ الإنسان مستقلّ بتهذيب نفسه وإصلاحها بملابسة المحمود من الخلق ومجانية المذموم، فأمر مبنيّ على ابتهاج النّفس بإدراكها الذي لها من ذاتها واعتباره بحال الصّبي في أوّل مداركه الجسمانيّة كيف يبتهج بما يبصره من الضّوء وبما يسمعه من الأصوات فلا شكّ أنّ الابتهاج بالإدراك الذي للنّفس من ذاتها بغير واسطة يكون أشدّ وألذّ». 
ابتهاج النفس: جانب نفسي عميق، مؤثّر من حيث لا يشعر الإنسان وهذا الابتهاج ناتج عن الشّعور بالتّميز والاستقلال والرغبة الجامحة في إثبات الذّات.
بإدراكها الذي لها من ذاتها: شعور بالاستقلال والحرّية يغذّي الإحساس بالقوّة والقدرة. ولعلّ «ابن خلدون» يقتبس من التّنزيل: «فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ»[1] كحال قارون كما جاء في سورة القصص «إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ (...)قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي» [2] 
«لا تفرح»: للفرح مظاهر لا تخفى عن الملاحظة.
«إنما أوتيته على علم عندي»: تعبير ينمّ على اعتداد بالأنا وشعور بالكبر والتّعالي «إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ۙ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ ۚ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» [3]
الكبر: حالة يتميّز بها الفاني حين يعجب بنفسه- قال الإمامُ ابنُ القيِّم رحمهُ الله: «وليحذر المسلم كلّ الحذر من طغيان (أنا، ولي، وعندي) فإنّ هذه الألفاظ الثلاثة ابتلي بها إبليس، وفرعون وقارون،» [4] 
و اعتباره بحال الصبي: إيراد في محلّ التشبيه قد يوحي بحالة نكوص وحنين يعيشها الرّاشد الذي لم يدرك الرّشد. فهو صبياني في تفكيره وتقييمه وأحكامه.
وكتابات العلمانيّة تعجّ بالدعوات إلى التّحرير والاستقلال والإبداع والخلق. وشهادة التّوحيد هي التي تعالج هذا الميل «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ» [5].«يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ» [6]. 
وقد أدرك «روجاي قارودي» هذا البعد:«تجعل كلمة التّوحيد من كلّ قدرة وكل علم وكل تملّك أمرا نسبيّا». ونقرأ في كتاب قواعد العقائد: «فلابدّ لكلّ عبد من مراد محبوب هو منتهى حبّه وإرادته، فمن لم يكن الله معبوده واستكبر عن ذلك فلا بدّ أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله فيكون عبدا ذليلا لذلك المراد المحبوب، إمّا المال و إمّا الجاه وإمّا الصور وإمّا ما يتّخذه الاها من دون الله كالشمس والكواكب والأوثان... وغير ذلك ممّا عُبد من دون الله»
الاتجاه الديني: 
هناك دعوات قوية ومؤثرة إلى العودة إلى الدّين والالتزام بتعاليمه في شتى مناشط الإنسان. نقرأ في المقدمة:«وأكثر المنتحلين لمثل هذه الدعوات تجدهم موسوسين أو ملبسين يطلبون رئاسة امتلأت بها جوانحهم وعجزوا عن التواصل إليها بشيء من أسبابها العادية فيحسبون أنّ هذا من الأسباب الموصلة بهم إلى ما يؤملونه من ذلك ولا يفطنون إلى ما ينالهم فيه من الهلكة لأنّه أمر الله لا يتمّ إلاّ برضاه وعنايته والإخلاص له والنّصيحة للمسلمين»
ملبسين: لم يتبين لهم وجه الصّواب بل خفي عليهم جراء إدراك وهمي (يحسبون) ناتج عن عقدة:«رئاسة امتلأت بها جوانحهم» لم تجد مجالات فتجلٌت في صورة متنكرة: العودة للأصول.
الإخلاص له: الإخلاص مبدأ محوريّ في العقيدة الإسلاميّة. «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ». [7] .و«أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ» [8]. والإخلاص يتمثّل في الاستجابة لله ولكلّ ما أمر الله وكما أمر الله ويتحقّق بالمجاهدة والمراقبة والمحاسبة:«علاج الإخلاص كسر حظوظ النّفس وكم من أعمال يتعب الإنسان فيها بنفسه ويظنّ أنّها خالصة لوجه الله ويكون فيها مغرورا لأنّه لا يدرك وجه الآفة فيها.. وهذا دقيق غامض قلّ ما تسلم الأعمال من أمثاله، والغافلون عنه يرون حسناتهم كلّها في الآخرة سيئات: «وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ* وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا» [9]. «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا » [10]
وأشدّ الخلق تعرّضا لهذه الفتنة العلماء، فإنّ الباعث للأكثرين على نشر العلم لذّة الاستيلاء والفرح بالاستتباع والطّبع يلبس عليهم ذلك ويقول الغزالي: «غرضه نشر دين الله والنّضال على الشّرع...ولو ظهر من أقرانه من هو أحسن منه وعظا وانصرف النّاس عنه وأقبلوا عليه ساءه ذلك وغمٌه ولو كان باعثه الدّين لشكر الله تعالى، إذ كفاه هذا الأمر بغيره».. وقد ينخدع بعض أهل العلم بغرور الشّيطان، فيحثّ نفسه بأنّه لو ظهر من هو أولى منه بالأمر فرح به. وإخباره بذلك عن نفسه قبل الامتحان محض الجهل والغرور. فمعرفة حقيقة الإخلاص والعمل به بحر عميق يغرق فيه الجميع إلاّ الشاذّ النّادر والفرد الفذّ وهو المستثنى بقوله تعالى:«إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» [11] . فليكن العبد شديد التفقّد لهذه الدّقائق وإلاّ التحق بإتباع الهوى وهو لا يشعر» .
إذًا قد يحصل تفاوت بين اعتقاد الشّخص والاعتقاد الشّرعي، عدم تطابق بين النّموذج والنّظير. والله يأمرنا «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا...» [12] والله ينذرنا : «وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ» [13].
وهذا ما يتوجّب التّفطن إليه والحرص على فهمه وتفهيمه. وتراثنا غنيّ بملامح التّحليل النفسي.. أورد البخاري في كتاب العلم وهو الباب الأول في صحيحه بابا بعنوان: «خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر» جاء فيه :قال إبراهيم التيميّ: «ما عرضت قولي على علمي إلاّ خشيت أن أكون مكذبا»، وقال ابن ابي مليكة «أدركت الثلاثين من أصحاب النّبي صلى الله عليه وسلم كلّهم يخاف الشّرك على نفسه» [14].
هذا التّفاوت ساهم «فرويد» من موقعه في دراسته في كتاب «مستقبل الوهم» هذا الكتاب الضجة يقول عنه فرويد: «وقد جاء تقييمي للدّين في «مستقبل وهم» سلبيّا في جوهره ولكنّي توصّلت في زمن لا حق إلى صيغة أعدل في هذا التقييم» في كتابي «مستقبل وهم» لم يكن موضوع البحث بالنّسبة لي الينابيع العميقة للشّعور الدّيني بقدر ما كان في المقام الأول ما يتصوّره الإنسان العادي حين يتكلّم عن دينه»
أدرك «فرويد» حقيقة مهمّة جدّا:الدّين في جوهره والدّين في تصوّر الإنسان وتأويله وبهذا التّمشّي تصبح دراسة «فرويد» متأكدة لتفهم عوامل عدم الإخلاص (تباعد الاعتقاد البشري عن النموذج الأصلي)!! فهل نأمل مراجعة صادقة خالصة تساهم في إعادة فاعليّة هذه الأمّة الوسط وريادتها للعالم؟ ، «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ»[15].
الهوامش
 
[1] سورة غافر - الآية 83.
[2] سورة القصص من الآية  75 إلى 78.
[3]  سورة غافر - الآية 56.
[4] إبن القيّم - زاد المعاد / ج 2 / ص 475
[5]  سورة الإسراء - الآية 82.
[6]  سورة يونس - الآية 57.
[7]  سورة البيّنة - الآية 5.
[8] سورة الزمر - الآية 3. [9] سورة الزمر - الآيتان 47-48.
[10]  سورة الكهف - الآيتان 103-104.
[11] سورة ص - الآية 83.
[12] سورة النساء - الآية 36.
[13]  سورة يوسف - الآية 106.
[14]  صحيح البخاري ص 27 - دار ابن كثير
سنة النشر: 1414هـ / 1993م 
[15]  سورة الأنبياء - الآية 107.