في الصميم

بقلم
سعيد السلماني
الفلسفة الاسلامية بين التقليد والتجديد
 تمهيد
يزخر تاريخ الفلسفة بكمّ هائل من أنماط التّعبير الفلسفي. وقد تعدّدت هذه الأنماط بتعدّد الحضارات الإنسانيّة، ويمكن القول؛ بهذا التعدّد من داخل نفس الحضارة، فنمط التّعبير الأرسطي ليس هو الأفلاطوني وهذا الأخير ليس نسخة طبق الأصل لأستاذه سقراط، وهكذا في كلّ الحضارات الإنسانية؛ بحيث لا يمكن الحديث عن النّسخ المنهجي المتطابق نظراً لخصوصيّة كل حضارة ومستجدّاتها، وعليه فإنّ الحديث عن الفلسفة الإسلامية هو حديث عن خصوصيّة هذه الحضارة. وممّا يعلمه الجميع أنّ هذه الأخيرة لها امتداد في التّاريخ البشري، لكن خصوصيّتها تتجلّى في بعثة الرسول محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، بدين جديد يحمل لواء العلم والتعلم «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ » [1] وقد توسعت هذه الحضارة وعلا شأنها في عديد من المجالات بعد تحقّق «فعل القراءة». وبما أنّ التعقّل والبحث العلمي الدّؤوب كان من سمات هذه الحضارة، فقد تُرجمت في عزّها أعمال علميّة عديدة؛ هنديّة وفارسيّة ويونانيّة..الخ. وبالتالي فقد كان لزاماً أن يتأثّر المسلمون بفلسفات مختلفة أبرزها؛ الفلسفة اليونانيّة، إذ ترجموا لأفلاطون وأرسطو وأفلوطين وغيرهم، ولم يكتف فلاسفة الحضارة الإسلاميّة بالتّرجمة فقط بل شرحوا وعلّقوا وأضافوا وفق ما يناسب منهجهم في التّفلسف. 
إن من مثل هذه الخلاصة السّريعة تدفعنا إلى طرح سؤال منهجي قد يبدو بسيطاً لأوّل وهلة، لكنّه عميق في جوهره يلخّص الجدل الفكري الذي ما زال قائماً حتّى يومنا هذا، وهو: «هل هناك فلسفة إسلامية»؟ أو بتعبير آخر؛ هل هناك نمط تعبير فلسفي جديد عند المسلمين؟ رغم أنّنا ندرك تمام الإدراك أنّ هذه الأسطر لا تظمئ العطشان ولا توفي المطلوب حقّه، غير أنّنا نعتبرها أرضيّة للنّقاش المستفيض حول الموضوع قد تنير الطّريق لمن أراد الاستزادة والتّعمق.
 الفلسفة الإسلاميّة بين الوجود وعدمه
إنّ كل باحث في تاريخ الفلسفة عندما يصل الى مرحلة التفلسف عند المسلمين، سيجد نفسه أمام مسألة غاية في التّعقيد متمثّلة في إشكالية فعل التّفلسف عند المسلمين. وفي هذا الصدد، زعم الكثير من المستشرقين بأنّ الفلسفة الإسلاميّة ماهي إلاّ تكرار لما قاله فلاسفة اليونان، والشيء الوحيد الذي فعله فلاسفة الإسلام هو نقلهم التراثَ اليوناني الى الثّقافة العربيّة الإسلاميّة بفعل الضّرورة والحاجة التي فرضتها الظّروف الثقافيّة والسّياسية. ومن أبرز من نازع في وجود فلسفة إسلامية نذكر «آرنست رنان» Ernest Renanا (1823 - 1892) عميد حركة الاستشراق في فرنسا وأوروبا كلّها في القرن التاسع عشر. ففي كتابه: «تاريخ اللّغات السّامية» يؤكّد على أنّ التفلسف لا يمكن أن يكون بتاتاً من نصيب الشّعوب السّامية [2]، فهذه الأخيرة «لا تصلح للنّظر العقلي الفلسفي، ولا لإنجاب الفلاسفة». وقد ادّعى أنّ الفلسفة العربيّة ليست سوى فلسفة يونانيّة نافياً أصالتها، وأنكر على قاعدة الفهم الاستشراقي/العرقي أهليّة المسلمين والعرب للتّفلسف، وفي كتابه المذكور أعلاه جزم أنّه «من العسف أن نطلق اسم فلسفة عربيّة على فلسفة لا تعدو أن تكون استدانة من اليونان، وما كان لها أيّ جذر في شبه الجزيرة العربيّة، فهذه الفلسفة مكتوبة بالعربيّة ليس إلاّ» [3] 
وهناك مستشرق آخر من ألمانيا إسمه «تنمان» Tennemann (توفي 1819) ألّف كتاباً سمّاه «المختصر في تاريخ الفلسفة»، أثبت في كتابه «المختصر في تاريخ الفلسفة»، أنّ المسلمين لم يكونوا أصحاب إبداع فلسفي وخاصّة في الجانب النّظري منه[4].
  ورغم هذا التّشويش على وجود الفلسفة الإسلامية وما قدّمه هذا الفريق من حجج يزعم أنّها عائق أمام تفلسف المسلمين، إلاّ أنّها لم تصمد أمام النقد العلمي الرّصين، فقد ردّ «غوستاف دوغا» G. Dugat على المنكرين للفلسفة الإسلاميّة بالقول: «إنّما هي أحكام تذهب في الإطلاق إلى حدّ الشّطط (...) وما مصدرها سوى سوء التحديد للفلسفة الإسلاميّة، يضاف إليه جهلنا بما للعرب من مصنّفات فلسفيّة غير شروحهم على مؤلّفات أرسطو. وما أسوق إلاّ شاهداً واحداً، فهل يظنّ ظانّ أنّ عقلاً كعقل «ابن سينا» لم ينتج في الفلسفة شيئاً طريفاً؟. وإنّه لم يكن سوى مقلّدا لليونان..»[5]. وسيراً على هذا النّهج يقف «فول مونك» مدافعاً عن وجود الفلسفة الإسلاميّة معتبراً أنّها مرّت بأطوار متعدّدة مثلها مثل الفلسفة في العالم المسيحي إذ يقول: «وعلى العموم يمكننا أن نقول أنّ الفلسفة لدى المسلمين لم تتقيد بمذهب المشّائين صرفــاً وإنّما هي توشك أن تكون قد تقلبت في جميع الأطوار التي مرّت بها الفلسفة في العالم المسيحي، فنحن نجد فيها مذهبَ أهل السّنة الواقفين على النّصوص، ومذهب الشّك ومذهب الفيض بل ونجد فيها مذاهب شبيهة بمذهب «اسبينوزا» ومذهب وحدة الوجود الحديث»[6].
إن أحكاماً كثيرة تغيرت بفضل البحوث الجادة التي اعرفت للفلسفة الاسلامية بجدتها وطابعها الخاصّ في البحث والتّحليل وعلاج القضايا. ومن بين الفلاسفة الذين انتهجوا لأنفسهم طريقة خاصّة في البحث «الإمام أبو حامد الغزالي»، فقد قال عنه «رينان» «إنّه الوحيد بين الفلاسفة المسلمين الذي انتهج لنفسه طريقا خاصّا في التّفكير الفلسفي»[7].
 وتعزيزا لهذا الطرح، فقد ذكـــر الباحث المصري «مصطفى النشـــار» في كتابه «مدخل الى الفلسفة» قولـــه: «..والجدير بالاعتبار أن نعرف أن الامام الغزالـــي (450 هـ 505) كان من أعظم الشخصيــات الاسلاميّــة وأكثرها عمقاً وأصالـــة رغم أنّه قاد تلك الحملة المزعومة على الفلاسفة. فالواقع أنّه قبل أن يكتــب «تهافــت الفلاسفة» الذي شن فيه الحملــة كتب «مقاصـد الفلاسفـــــة»، فلم يكن من أولئك الذين يهاجمون الفلاسفة عن جهل ودون أن يعرفــــوا ما هي الفلسفـــة وماذا قال هؤلاء الفلاسفة»[8].
منهج (الغزالي) في البحث عن الحقيقة
 في التراث الاسلامي إذا ذكر «الغزالي» فأنت أمام علم من أعلام الحضارة الاسلامية بدون منازع، هذه حقيقة لا ينكرها إلا معاند، مع العلم أنّ كلّ باحث يجد ضالّته في «الغزالي» لسبب بسيط وهو أنّه كان عالماً موسوعيّاً رافعاً شارة البحث عن الحقيقة والنّقاش العلمي الرّصين، فقد ناقش المتكلّمين والباطنيّة والفلاسفة والمتصوّفة وكتب في الأصول والفروع.. 
ومن ثم فمن أراد قراءة «الغزالي» عليه أن يطّلع على حياته، لأنّها تخبر بكثير من الأسرار العلميّة والمنهجيّة على الخصوص، وهذا يظهر جليّا عندما تطالع بعضاً من كتبه «مقاصد الفلاسفة»، أو «تهافت الفلاسفة»، أو «المنقذ من الضلال»...الخ، لهذا «فقبل أن يكتب «تهافت الفلاسفة» الذي شنّ فيه الحملة المزعومة كتب «مقاصد الفلاسفة»، فلم يكن من أولئك الذين يهاجمون الفلاسفة عن جهل ودون أن يعرفوا ما هي الفلسفة وماذا قال هؤلاء الفلاسفة» [9] ، ففي كتابه «مقاصد الفلاسفة» أكد على هذا النمط الفكري في البحث والتّمحيص، إذ يقول: «..فإنّ الوقوف على فساد المذاهب قبل الإحاطة بمداركها، محال، بل هو رمي في العماية والضّلال»، مدشّناً بهذا السّبق المنهجي المُتغنّى به حديثاً. فإذا كان «ديكارت» تصدّر منهجه الشّكّي دون الإشارة الى «الغزالي» فإنّ مصداقيّة الباحث الحريص على الدّقة ونسبة المعلومة الى أهلها، تجدها واضحة عند «الغزالي» في كلّ كتبه، فهو لا يفتأ ينوّه بالمناطقة والمتكلّمين والفلاسفة والمتصوّفة...وكتاب «مقاصد الفلاسفة» أوضح دليل على هذا النهج. يقول في «المنقذ من الضّلال»؛ «ثم إنّي ابتدأت بعلم الكلام، فحصَّلته وعقلته، وطالعت كتب المحقّقين منهم، وصنّفت فيه ما أردت أن أصنّف، فصادفته علماً وافياً بمقصوده، غير وافٍ بمقصودي (...) وابتدأت، بعد الفراغ من علم الكلام، بعلم الفلسفة وعلمت يقيناً، أنّه لا يقف على فساد نوع من العلوم، من لا يقف على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمهم في أصل [ ذلك ] العلم، ثم يزيد عليه ويجاوز درجته، فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غور وغائلة، وإذ ذاك يمكن أن يكون ما يدّعيه من فساده حقّاً»[10]. 
خلاصة
نختم بالقول: إنّ منهج الاستيعاب والتّمحيص والبحث الدّقيق هذا، هو الذي بوّأ «الغزالي» عالياً في سماء البحث العلمي،  إنّه بمنهجه - الذي يقوم على الشّك كمدخل للحقيقة -استطاع أن يهدّم البناء الذي أنشأه فلاسفة الإسلام على أنقاض الفلسفة اليونانيّة، ويعدّ بناء عليه، الفيلسوف الوحيد الذي لم يكتف مثل علماء الكلام باقتباس بعض مسائل الفلاسفة، بل قام بشرح وتمحيص جميع نظرياتهم وحاول من ثم إظهار ضعف براهينها وفساد نتائجها، مستنداً في كل ذلك إلى نظرية خاصّة في المعرفة، تدلّ على دقّة المشاهدة، وعمق النّظر، وقوة التفكير[11]. وعليه، فإنّ قوة منهجه تظهر بشكل واضح في قوّة نقده للنّظريات الفلسفيّة، وفي الشّك الذي انتهجه طريقاً للوصول إلى الحقيقة، فقد «بحث في نظريّة المعرفة، ومعيار اليقين، وتوصّل بعد الشّك الى بيان حقيقة العلم، بطريقة الحدس الباطني وبأسلوب يذكّرنا بأساطين الفلسفة الحديثة»[12]. لهذا نقول؛ إنّ نمط التّعبير الفلسفي عند فلاسفة الإسلام يختلف جذرياً عن نمط فلاسفة اليونان، وفيه من الغنى والسّعة والاختلاف ما نجده عند أساطين الفكر في كلّ الحضارات الانسانيّة، فابن «رشد» ليس هو «الغزالي» في ما يخصّ المنهج رغم التّقاطعات التي يمكن ملاحظتها، فلو كان الأمر يتعلّق بالتّطابق المنهجي والفكري لما شاهدنا هذا التّنوع الحضاري البديع الذي يؤكّد مسألة أساسيّة، وهي أنّ الإنسان ما إن يحقّق فعل التعلّم والعلم حتّى يصبح تلك القوّة الهائلة التي سخّرت من أجل تحقيق غاية أكبر منه يجد نفسه ضمنها، فإن قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها...هذا دأب الإنسان؛ «خدمة الإنسانية». 
الهوامش
[1] سورة العلق - الآيات من 1-4 
[2] الساميّون هم من أولئك الشعوب التي تنحدر من «سام» الإبن الأكبر لنوح عليه السّلام. وتشمل الشّعوب التي عاشت في بلاد الشّام والرّافدين وشبه الجزيرة العربيّة، وأسّست حضارات وأمم ازدهرت وبَنَت هذه البلاد وتركت لنا كمّاً هائلاً من التّاريخ والآثار. وهذه الشّعوب هي: الآشوريّون، والبابليّون أو الأكاديّون، والآراميّون، والكنعانيّون، وكذلك الفينيقيّون والعموريّون، إضافةً إلى المؤابيّين، والأدوميّين، والعمونيّين، والعبرانيين. ويرى الباحثون أنّ الخصائص اللغويّة لهذه الشعوب مُتشابهة إلى حدٍ ما، ومن لغات هذه الشّعوب: الأمهريّة، والعربيّة، والآرميّة، والعبريّة، والأكاديّة.
[3] ريتا فــرج، السّاميــون والإســـلام فـــي الاستشراق العنصــري عند «أرنســت رينان»، موقع صحيفة الحياة  «http://www.alhayat.com»
[4] محمد الحاج حسن الكمالي، محاضرات في الفلسفة الإسلاميّة: نظريّة المعرفة في ثوب جديد،  المؤسّسة الجامعيّة للنّشر والتّوزيع، ط، 1، 1993، ص، 12.
[5] نفسه، ص، 14.
[6] نفسه. ص، 14.
[7] الغزالي أبو حامد، المنقذ من الضّلال، تحقيق وتقديم، د.جيل صليبا، ود.كامل عياد، دار الأندلس بيروت، ط 7، ص، 7.
[8] النشار مصطفى، مدخل الى الفلسفة النظريّة والتّطبيقيّة، دار قباء الحديثة، القاهرة، 2010، ص، 93.
[9] النشار مصطفى، المرجع السابق، ص، 93. 
[10] الغزالي أبو حامد، المنقذ من الضّلال، تحقيق وتقديم، د.جيل صليبا، ود.كامل عياد، دار الأندلس بيروت،  ط 7، ص،  13، 14.
[11]  نفس المرجع، ص، 12.
[12] نفس المرجع، ص، 13.