قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
أمناء على لغتنا
 لا تكون الثورة ثورة حقيقية حتى تحدث تغييرا جذريا في المجتمع ينتقل به من حالة الضياع إلى حالة جديدة تعيد له كل أسباب القوة وتمنحه فرصة استئناف البناء الحضاري من جديد. ولئن كان تقييم الثورات التى حدثت في الوطن العربي أمرا غير يسير إلاّ أنّه بالامكان التأكيد على أنّ الحالة الثوريّة مازالت مستمرة وأنّنا بالتالي أمام دورات أخرى من النّجاح والفشل وأنّ هذه الثورات لم تستنفذ الوقت بعد لنقول بأنّها قد انتهت وفشلت وأنّنا لم نجن من قيامها شيئا.
إنّ استمرار الحالة الثّورية هو فقط ما يفسّر هذه الحركيّة المستمرة داخل مجتمعات الثّورة وهذه الحالة من الارتباك والقيام والانحناء التي نراها الآن في مجتمعات كانت سِمَتها الجمود والرّكود. وهذه الحالة الثورية هي التي تمدّ رافعي لواء التّغيير بأسباب الصّبر والمثابرة والمقاومة والعمل الدّؤوب من أجل رفع كلّ المطبات التي تضعها قوى الثّورة المضادة وإن كان الأمر مدعاة للقلق بما أنّ بعض الثّورات انتهي وبعضها يعاني حالة الرّكود والانحسار.
لم تكن الثّورة ثورة من أجل التّغيير السّياسي فقط وإنّما كانت من أجل إحداث تغيير شامل في السّياسة والاجتماع والاقتصاد والثّقافة والتّعليم وغيرها، ولكنّنا للأسف غلبنا السّياسي على غيره من النّواحي فكان ذلك أحد أسباب الارتداد التي نعانيه الآن بما أنّ التّغيير السّياسي لم يكن مشفوعا بما يسنده من تغيير في بقيّة النّواحي ومن أهمّها إحداث تغيير في ثقافة المجتمع ونقله من أسر ثقافة الاستبداد إلى نور ثقافة الحرّية. ليس هذا فحسب بل إنّ معركة الثّقافة تكاد لا تنتهي وفى كلّ جولة من جولاتها تزداد الثّورة انحسارا في حين تزداد القوى المتربّصة سطوة ونفوذا. إنّنا نتساءل مثلا أين الثّورة  من كلّ الإذاعات وأين هي من كلّ المهرجانات فى السّينما وفي المسرح والفنون؟ وأين هي من الغناء والنّحت والموسيقي؟ وكيف السّبيل إلى إعادة الحياة لمجتمع نخره الابتذال دون إحياء نفوس مواطنيه بابداع راق يلامس همومه؟ وكيف يرضى مجتمع ما بعد الثّورة بسيادة وجوه ما قبل الثّورة على كلّ المشهد الثّقافي بل وتطويعه بالكامل من أجل خنق الثّورة واغتيالها.
لقد قلنا فى مقال سابق بأنّ معركة الثّقافة هي المعركة الأولى التى بدون كسبها لا يمكن للثّورة أن تكسب مقومات نجاحها وفي مقال آخر بيّنا أنّ معركة الثّقافة لا يمكن فصلها عن معركة الهويّة وأنّ كوننا عرب مسلمون فلا يمكننا البتّة إنشاء سياق حضاري جديد من خارج لغتنا العربيّة التي هي لغة القرآن عماد الدّين الإسلامي والحافظ لرسالته وتعاليمه. والاعتقاد السّائد لدى نخبتنا وجامعيينا وحتى أبنائنا بأنّ اللّغة العربيّة لغة قاصرة عن مواكبة التّطور العلمي إنّما هو محض افتراء على هذه اللّغة التي كان أسلافنا يعتمدونها في إبداعهم العلمي والأدبي والفكري، بل إنّنا أمام مفارقة تاريخيّة صادمة حين نطّلع على الإبداع القديم فنرى أسلافنا قد نقلوا  إلى اللّسان العربي ما أمكنهم الإطلاع عليه من تراث الشّعوب الأخرى إبّان ازدهار الحضارة العربيّة وأنّ ما لا يحصى عددا من الكتّاب والعلماء والباحثين القدامى كانوا من غير اللّسان العربي ولكنّهم اتّخذوا اللّغة العربية  لغة لابداعهم ولم يكتبوا بغيرها. أو لم يكن «سيبويه» و«الخوارزمي» و«إبن سينا» و«إبن المقفع» و«الرازي» وغيرهم كثير من أصول غير عربية ولكنهم كانوا أكثر إبداعا بلغة الضّاد من غيرهم من ذوي الأصول العربيّة القحّة.
يرى «إبن خلدون» أنّ لسان الغالب غالب ولسان المغلوب مغلوب ونحن اليوم للأسف أمّة مغلوبة تتخطفها الأمم الأخرى ولا حول لها ولا قوة ولذلك تراها أمّة مغلوبة اللّسان واللّغة كما هي مغلوبة في السّياسة والاقتصاد وهي إلى ذلك أشدّ غلبا في الثّقافة ولا قوة لها ولأهلها على مغالبة ثقاقات الآخرين. 
ليست اللّغة العربيّة وحدها التي تعاني مأزقا ولا الثّقافة العربيّة أيضا وإنّما نحن إزاء مشهد مؤلم نتحوّل فيه رويدا رويدا من حالة الازدراء التّام للغتنا وقيمنا وموروثنا الحضاري إلى حالة من التّكيّف والتّماهي مع لغة الغالب وثقافته وقيمه حتى تحوّلنا إلى أمّة مشوّهة لا هي هي نفسها بعنفوانها القديم ولا هي من هؤلاء  بعنفوانهم الحديث ، أمّة مريضة تستجدي لنفسها مكانا لا تجده ومكانة افتقدتها. 
أشار عالم الإجتماع الدّكتور «محمد الذوادي» في أكثر من بحث عن الشّخصية التّونسية في علاقتها باللّغة العربيّة إلى أنّ التّونسي لا يكتب صكوكه البنكيّة إلّا باللّغة الفرنسيّة ولا يسمي الألوان إلاّ باللّغة نفسها وقد أرجع الأمر إلى نوع من الاستلاب الذي يجعل الإنسان يخجل من استخدام لغته وإلى وجود نفس أمّارة لا تحبّذ استعمال اللّغة الأمّ لكأنّها تحتقرها وغياب النّفس اللّوامة التي تلوم صاحبها إذا أساء لنفسه وللغته ولم يوفّها قدرها. ويعتبر الدكتور الذّوادي أنّ كتابة اللاّفتات في المحلاّت التّجارية أو أسماء الغلال أو السّلع باللّغة الفرنسيّة أمرا من المفترض أن يثير استغراب الزّبائن واحتجاجهم في بلد عربي غير أنّ الأمر على العكس من ذلك لا يثير أيّ استغراب ممّا يدل على استلاب مقيت وضعف في الشّخصية التّونسية التي تستهين بأهمّ رمز من رموز الشّخصية عامّة وهو اللّغة وأن الاستعمار الثّقافي واللّغوي قد نجح أيّما نجاح في سلب التّونسي مقوما من أهم مقومات هويّته ألا وهو اللّغة العربيّة.
من البديهي أنّنا نفضل أن تتقن ناشئتنا كلّ اللّغات الأجنبيّة وأن تتعلّمها منذ الصّغر ولكنّنا سنظلّ نحمل لواء الدّفاع عن لغتنا العربيّة إلى حدّ رفعها مرتبة التّقديس وندعو إلى إبداع الفنون إبداعا لغويّا قبل الإبداع فى المجال، فيا حبّذا لو يعود المسرح مثلا إلى نصّ عربيّ اللّغة واللّسان فيّاض بالمعاني، قريب من وجدان المتلقي. وحبّذا لو يعود للشّعر مجده التّليد وللأغنية ما كانت عليه من جمال في الكلمة مع جمال في اللّحن، وحبّذا لو تعود ناشئتنا لتنهل من منهل اللّغة العذب فتبدع أدبا محلّيا يفيض بالبيان فإنّ من البيان لسحرا.
إن العودة باللغة العربية إلى عهدها القديم من الحظوة والتّبجيل لهو عود بالثّورة لمعناها الحقيقي من إبداع للقيم والمعاني القريبة من وجدان النّاس وهو بالتالي استئناف حضاري يأخذنا إلى الطّريق القويم الذي بذلنا من أجله كلّ التّضحيات وهو طريق الاستقلال الحقيقي والعيش في كنف الهويّة الخلاّقة للشّعب بدل العيش في سراب الاغتراب والاستلاب. إنّنا أمناء على لغتنا بقدر أمانتنا على الثّورة وضياع هذه إنّما هو بضياع تلك.