الرأي للخبراء

بقلم
حسن الجمني
شلـــل «البراديقمات» أو خطر التفكير داخل صندوق!
 الأفكار الجديدة تزعجنا. نجد الرفاه في الاستمرار على ما نحن عليه أو كما تعوّدنا.  نعم، إنّنا نجد في ذلك رفاها كبيرا ونغفل عن كونه يحمل خطرا كبيرا أيضا. إنّنا نعتقد أنّ المستقبل ما هو إلاّ امتداد للماضي. لذلك ترانا نعترض على التجديد، بل نقاومه. هذا ما نراه في تاريخ البشرية منذ أحقاب عديدة. لكنّنا نرى قلّة من البشر يخرجون عن تلك القاعدة. ولولا ذلك لما شهدنا السلالم المتحرّكة في الفضاءات التجارية الكبرى والحواسيب وآلات الطباعة على مكاتبنا والهواتف المحمولة التي تحتلّ جيوبنا والمدارس الافتراضية في كل الاختصاصات. صرخ  بما يشبه هذا «جوال باركر» (Joel Arthur Barker) ضمن محاضرة مصوّرة، وكان الرجل مختصا في دراسة المستقبل يردّد بعض ما نشره سنة 1993 ضمن كتابه «اكتشاف المستقبل: قضية البراديقمات».
مقاومة اكتشاف المستقبل 
طالت البحث العلمي والتنظير الفكري:
فعندما ننظر في ظاهرة مقاومة التجديد تلك ورغبة النّاس في استمرار سير الأمور وفق ما ألفوه، نجد أنّ تأثيرها ممتدّ إلى البحث العلمي نفسه رغم أنّه رحم التجديد الذي قد يلد الجديد أو يجهضه في أحيان كثيرة. كما يطال البحث في استراتيجيات أي مشروع جديد أو منظومة جديدة، وتطال من يسعون لوضع خطة تصرّف جديدة في شأن من شؤون الحياة.  
وعندما نتأمّل في أسباب العطالة أو آلية إجهاض التجديد  نجد أنّ لها علاقة بالمداخل النظرية الإرشادية،أو (النموذج الفكري) أو (النموذج الإدراكي) أو (الإطار النظري)، وهو ما يسمّى أيضا النماذج الإرشادية أو النماذج القياسية، والترجمات العربية عديدة لمفهوم ظهر في الغرب منذ أواخر الستينيات من القرن العشرين ويسمّى «البراديقم». وسنستبقي تسمية المصطلح الأجنبي كما هي، ومردّ ذلك يعود إلى عدم وجود كلمة واحدة دالة في العربية على ما يعنيه في اللغة الأنجليزية. فما هو هذا المفهوم؟ وما علاقته بالتجديد في العلوم وفي الصناعة وفي الثقافة  والنظر إلى المستقبل؟
تعود التسمية الغربية إلى اللغة اليونانية القديمة (παράδειγμα  paradeigma) وهي تحمل دلالة «نموذج» أو «مثال». فلفظ «براديقم» يعود إلى الأصل اليوناني paradeigma أي مثال ونموذج، وهو مشتق من لفظ paradeiknunai الذي يدل على فعل أظهر montrer وقارن أو شبه comparer. فيكون «البراديقم» لغة هو النموذج القياسي أو المثال الكامل الذي ينبغي اتباعه.
وعندما ننظر في القاموس نجد أنّ البراديقم هو كما عرّفه «طوماس كوهن Thomas Kuhn»أ(1)،  «النظريات المعتمدة كنموذج لدى مجتمع من الباحثين العلميين في عصر بذاته، علاوة على طرق البحث المميّزة لتحديد وحلّ المشكلات العلمية وأساليب فهم الوقائع التجريبية»(2) فهو يقوم على جملة من القيم والمبادئ والمعايير والأمثلة أو الحلول الملموسة للمشكلات يتوافق حولها مجموعة من العلماء ويستخدمونها لقراءة الواقع وللحكم عليها في مرحلة علمية. 
وليتضح المفهوم أكثر للقارئ نقول، مثلا، بأنّ قوانين الحركة عند نيوتن تمثل جزء من البراديقم النيوتوني. والبراديقم النيوتوني، في هذا المثال، يلزم الباحث بأن تكون نتائج بحثه مطابقة للطبيعة. فتصاغ المناهج العلمية بخطواتها وأسسها، على هذا الأساس، ويتم عرضها في التقارير المخصصة للدراسة والتكوين العلمي وفقه.
وقد استعمل المصطلح في العلوم الاجتماعية بمعنى: مجموع الخبرات والاعتقادات والقيم التي تؤثر على طريقة الفرد في إدراك الواقع والتصرف تبعا لهذا الإدراك. أو بمعنى شبكة القراءة التي تسمح بتفسير المعطيات بواسطة أدواتها النظرية الخاصة. لذلك نتحدث عن براديقم «صراع الطبقات» عند كارل ماركس( K. Marx )، وبراديقم «رأس المال الاجتماعي» عند بيير بورديو( Pierre Bourdieu) وما إلى ذلك...ويرى العالم الأمريكي «فريتجوف كابرا Fritjof Capra»أ(4) أن البراديقم الاجتماعي هو مجموعة من المفاهيم وقيم ومعقولات تشترك فيها جماعةٌ تشكِّل رؤية معيَّنة للواقع وتكون الأساس للطريقة التي تنظِّم بها الجماعةُ نفسها. 
وكمثال على ذلك عرف علم النفس الحديث ثورة علمية حقيقية، تمثلت أساسا في تحول فعلي في «براديقمها العلمي» الذي انتقل من «البراديقم السلوكي» إلى «البراديقم المعرفي». فنجد دراسات علم نفس الطفل والاكتساب التي عاشت خلال العقود الستة الأولى من القرن العشرين تحت سيطرة نظريات سلوكية «واطسون» و«سكينر» وغيرهما يتراجع صيتها ويقلّ بريقها، وبالمقابل كان لظهور علم نفس المعرفي «cognitivisme» انطلاق تحولات هائلة، كانت السبب في بروز اكتشافات علمية وخاصة على مستوى كفاءات الطفل المبكرة ودور الآخر في نموه وفي تعلّمه. البراديغم السلوكي اهتم بدراسة السلوك الملاحظ  وبتوضيح العلاقات المحتملة بين تغيرات الوضعيات وتغيرات الاستجابات التي تظهرها الكائنات الإنسانية والحيوانية. فالظواهر الذهنية كانت متروكة بشكل واضح نظرا لاعتبارات منهجية هدفها الأساسي تفادي الأخطاء السابقة التي وقع فيها علم النفس القائم على الاستبطان. فانطلاق البراديقم الدراسي النفسي ذي الطابع المعرفي كاتجاه جديد في علم النفس في أوائل الستينات من القرن الماضي قد غير بصورة جذرية طريقة تصورنا للنفس الإنسانية وأسلوب دراستها. فبراديقمها المعرفي الذي يعتبر الذهن كنوع من البرمجة المعلوماتية المستعملة للرموز المجردة يشير بوضوح إلى أن ثورة معرفية فعلا حدثت في مجال علم النفس. وأصبح بالاعتماد على نتائج تلك الدّراسات إيجاد حلول فعلية لمشاكل «العجز والتأخر والفشل والإعاقة» التي تواجه الطفل في شتى مجالات التعلّم، والتكيّف والتواصل والاندماج، وذلك عن طريق اعتماد برامج وطرق تعليمية مسندة سيكولوجيا لتشخيص كفاءات الطفل المعرفية وأنشطته الذهنية المتنوعة، والعمل على تقويمها وتربيتها.
البراديقم ظاهرة محدودة 
في الزمن لكن البعض يرفض تحوّلها
رغم أنّ المختص الابستمولوجي «كون» (Thomas Kuhn) يشير في تعريفه إلى حدود المفهوم زمنيا إذ يؤكّد عل أنّ البراديقم تتبناه مجموعة علمية معينة وتتواضع بشأنه أو تتفق عليه لقراءة الواقع أو للحكم على الأحداث في فترة زمنية معينة، فإنّنا نجد بعض «العلماء» المحافظين يطلبون التقيّد الدائم ببراديقمات قديمة ويتصدّون لأي محاولة بناء لنسق فكري أو براديقم ثوري جديد، فيطلبون من المشتغلين بالبحث والمشتغلين بالفكر في مجالات عديدة، منها الاقتصاد والتربية، أن يظلّوا مكبّلين بالعوائق الإبستمولوجية التي تفرضها عليهم بعض البراديقمات العقيمة. فـ«طوماس كون» يرى بأنّ هذا المفهوم يعتبر أساسيا في فهم خاصية دقيقة في تاريخ العلوم، ألا وهي استبدال إطار مفهومي بآخر عند حدوث ثورة علمية، فمفهوم البراديقم لا ينفصل عن مفاهيم التغيّر والثورة أو ما يعرف بتحوّل البراديقم، أي أنّ البراديقمات ليست خالدة.
فالنسق العلمي لجاليليو، على سبيل المثال، شكل ثورة على البراديقم العلمي اليوناني الذي هيمنت عليه الفلسفة اليونانية التي تزعَّمها المعلم الأول (أرسطو). وشملت هذه الثورة كلا من الأسس المعرفية، والطرائق المنهجية.
البراديقم سلاح ذو حدّين
ولو عمّقنا النظر في مفهوم البراديقم نجده يحدّد قواعد العمل في البحث العلمي وتراتيب إنجازه، أي أنّه يضبط المفاتيح المثلى للنجاح من وجهة نظر مجموعة من العلماء السّابقين. فالبراديقمات تغربل الأفكار التي تتوارد على ذهن الباحث العلمي مهما كان مجال بحثه ( علوم طبيعية أو علوم إنسانية). لذلك نراه يرفض المعطيات الغريبة التي لم يكن ينتظرها ضمن فرضياته. فيحدّ البراديقم بذلك من اكتشاف الباحث الذي لو تخلّى عن التزامه بالبراديقم سيلاحظ أنّ النتائج التي اعتبرها غريبة ضمن براديقم ليست مستغربة ضمن إطار براديقم آخر. ونجد إشارة إلى هذا الأثر للبراديقم ضمن كتابات «طوماس كون» نفسه حيث كتب «البحث الذي رسخ بنيانه على إنجاز أو أكثر من إنجازات الماضي العلمية هي إنجازات يعترف مجتمع علمي محدد، ولفترة زمنية، بأنها تشكل الأساس لممارساته العلمية مستقبلا»(2). 
تحوّل البراديقم أو السقوط نتيجة الدّحض
يحيل مفهوم تحوّل البراديقم (changement de paradigme) إلى تجديد عام في المعارف الأساسية وثورة شاملة في المفاهيم. فنلاحظ أنّ هذا التحوّل يميل إلى أن يتّخذ طابعا ثوريا في العلوم التي تبدو في البداية راسخة وناضجة، كما هو الحال في الفيزياء عند نهاية القرن التاسع عشر، حيث كانت تبدو في ذلك الوقت اختصاصا علميا يقوم بملء آخر التفاصيل في منظومة هائلة، وفي عام 1900 قال اللورد كلفن عبارته المشهورة: «لم يعد هناك المزيد لاكتشافه في الفيزياء الآن، ليس هناك إلا المزيد والمزيد من الدّقة في القياسات»، وبعد ذلك بخمسة أعوام فقط، أصدر ألبرت أينشتين بحثه حول نظرية النسبية الخاصة، والتي قامت بدحض أبسط القواعد التي خطتها ميكانيكا نيوتن، والتي جرى استخدامها لوصف القوى والحركة على مدى أكثر من ثلاثمائة عام، وفي هذه الحالة، قام البراديقم الجديد بتقليص البراديقم القديم ليناسب حالة خاصة فبقيت ميكانيكا نيوتن مناسبة فقط للوصف التقريبي عند سرعات بطيئة مقارنة بسرعة الضوء ودُحِضتْ في ما عدى ذلك.
ولقد بيّن «طوماس كون» أنه خلال مجرى الأنشطة البحثية العلمية العادية يشتغل مجموعة من الباحثين ضمن براديقم موحّد. أو قل ضمن نفس تقاليد العلم المألوف، فتسير أنماط التواصل ويحصل الاشتغال العلمي دون أي عائق، إلى أن تبرز بعض الأمور الشاذة أو تصدر بعض النتائج الغريبة المميّزة، أو تقترح نظرية جديدة أو منهج فكري جديد فتحدث أزمة في أسس ذلك العلم لعجزه عن تفسير تلك الأمور الشاذة. فيتحوّل البراديقم المقترح الجديد إلى علم مألوف جديد. فهذه الجِدّة تُلزم الباحثين بإعادة بناء المفاهيم التقليدية بطريقة مختلفة، وإحلال فرضيات جديدة محل القديمة. لذلك نكرّر القول بأنّ البراديقمات ليست خالدة ولا ثابتة بل هي متحوّلة.
لا تفكّر دائما وفق براديقم واحد
من طريف ما يقوله بعض المفكرين حول مفهوم البراديقم هو تشبيهه بالصندوق، وذلك في العبارة الشائعة «التفكير خارج الصندوق»، حيث يماثل التفكير داخل الصندوق العلم المعتاد، وبالتالي فإن البراديقم هو الصندوق وينصحون بعدم التفكير دائما وفق براديقم واحد. فالباحث في الطبيعة، مثلا، يجعل من البراديقم هنا صندوقا لإدخال الطبيعة، وهو صندوق مشكل سلفا، وجامد نسبيا، ولكنه كفيل بإنتاج المعنى، فليس في هدف الباحث تقديم أنواع جديدة من الظواهر، بل ما يحصل هو أنه ثمّة بعض الظواهر التي لا يمكن إدخالها في الصندوق فلا ترى إطلاقا.
ولبيان ضرر التفكير الدّائم داخل براديقم واحد نسوق ثلاث قصص:(الأولى) كان أحد السائقين يقود سيارته بهدوء في طريق مزدوجة ومنحنية كتلك التي بين مدينتي طبرقة وجندوبة، وفجأة ظهرت أمامه سيارة في مساره واستطاع أن يتفادها بصعوبة لكن عندما اقترب منه صاحب السيارة الذي دخل في مساره فتح زجاج السيارة وصرخ بأعلى صوته خنزير! غضب الرجل من هذه الكلمة ونعت ذلك الرجل بأقبح الصفات وبعد أن تجاوز المنحنى تفاجأ بخنزير ميت في الطريق واصطدم به. براديقم هذا الشخص فسر كلمة خنزير أنه شتيمة، بينما كان الشخص الآخر يقصد بذلك تنبيه الرجل ولكنه، لم يستوعب هذه الصورة فكانت النتيجة أنه شتم ذلك الرجل واصطدم بذلك الخنزير.
ويروى أنّه كان هناك شخص اسمه هاري متخصص في فتح الأقفال والخزانات وجاءه موظف من أحد البنوك الإنجليزية وتحدّاه أن يفتح خزانته خلال ساعتين، ضحك هاري وقال سأفتحها خلال خمس دقائق. وبدأ هاري في محاولة فتح الخزانة واستغرق ساعتين ولم يفتحها فيئس من فتح الخزانة واستند على باب الخزانة فانفتح الباب . فالباب كان مفتوحاً أصلا ، ولم يكن في براديقم هاري احتمال أن الخزانة مفتوحة وهذه نقطة تسمى في علم البراديقم «العودة إلى الصفر» حيث أن مهارة هاري تساوت مع مهارة أي طفل في فتح الخزانات المفتوحة . لهذا يجب أن لا نتمحور حول براديقم ضيّق لأنّ الانبهار بالبراديقمات الموجودة يمنع تجديد القواعد والمبادئ التي تسمح بالابتكار بفعل تأثيرها على إدراكنا.
القصة الثالثة هي قصة الدكتور الطبيب الذي دعي لإلقاء محاضرة في مركز علاج للمدمنين عن أضرار الخمر فأحضر معه كوبين من الزجاج الأول فيه ماء والثاني فيه خمر ووضع دودة في الماء فسبحت ثم وضعها في الخمر فتحلّلت وذابت، حينها نظر الشيخ الدكتور إلى المدمنين سائلا هل وصلت الرسالة؟ فكان الجواب «نعم الذي في بطنه دود يشرب خمرا كي يتعافى ويشفى!». فهذا الشيخ نظر إلى التجربة من خلال براديقمه ولم يحاول الخروج إلى البراديقم الخاص بالمدمنين.
وللدّلالة على ضرورة التفكير وفق براديقمات متعدّدة، ولما لا بمعزل عن البراديقمات بعد الاطلاع عليها لغرض الاستئناس فقط، نذكر ما عاشته الدّراسات النفسية من تحوّلات فقد عرفت السيكولوجيا تطورات أحدثت تغيرات على مستوى العناصر الأساسية لبناء هذا العلم. فلو التزم الباحثون بالبراديقمات القديمة لما شهدنا تلك التحوّلات:
-في مستوى الموضوع: من الروح إلى الشعور إلى السلوك إلى هندسة الذهن.
-في مستوى المنهجية: من التأمل إلى الاستبطان إلى الملاحظة والقياس إلى الحساب والقيس.
-في مستوى الاتجاه: من الفلسفة إلى الشعور إلى السلوك إلى المعرفة.
وفي ميدان التربية نجد مختصين كـ «دوكاتال» وغيره يطرحون خلال التسعينات من القرن العشرين مقاربة بيداغوجية بالكفايات بديلة عن المقاربة بالأهداف. فلو التزم أولئك بمبادئ المقاربة بالأهداف التي تستند إلى نتائج دراسات علم النفس السلوكي وحده لما نجحوا في طرحهم الجديد الذي يستند إلى كل براديقمات البحث في علم النفس دون استثناء إلى جانب نتائج البحث في علوم اجتماعية عديدة وعلوم اللغة.
تأثير الدراسات الأنثروبولوجية 
على تحوّل البراديقمات:
بالنسبة للأنثروبولوجي الأمريكي « ستيفن تيلر»( Stephen Tyler ) فإن «الأنثروبولوجيا المعرفية تروم فهم مبادئ التنظيم التي تحكم الأشياء والتصرفات والانفعالات كظواهر ذهنية، بحيث إن الدراسة في هذا الحقل الجديد من البحث، الذي تطوّر منذ التسعينات من القرن العشرين، لا تنصب على هذه الظواهر في حد ذاتها، بل على كيفية إدراكها وتنظيمها في أذهان الناس»(5).
والأنثروبولوجيا في جانبها المعرفي تدرس الكفاءات المعرفية التي تنتج بواسطتها المجتمعات الثقافة، وتحاول فهم الكيفية التي تصل بها هذه المجتمعات إلى تصنيف الكائنات والأشياء في فئات محددة. وكمثال على ذلك «نذكر أنّ بول كاي (Paul Kay) وبرنت برلين(Bernt Berlin ) قاما في دراستهما حول إدراك الألوان بمقارنة أسماء الألوان المتداولة في مختلف الثقافات الأوروبية والأمريكية والأفريقية والآسيوية، فاستنتجا وجود مجموعة من أسماء الألوان تبعا لطبيعة اللغات وحياة القبائل والشعوب. حيث إنّ كل شعب يضبط لائحة غنية من ألوان بعينها، ولائحة فقيرة من باقي الألوان. فشعب الاسكيمو الذي يعيش باستمرار في بيئة جليدية، يختزن في معجمه اللغوي مجموعة كبيرة من أسماء اللون الأبيض، في حين أن هنود الأمازون يحتفظون في قاموسهم اللغوي بمجموعة من أسماء اللونين الأخضر والبني»أ(6) هذا يدل على أنه ليس هنالك تصنيفا كونيا واحدا للألوان، بل هماك تصنيفات تختلف بحسب اختلاف الثقافات. 
وقد ساهمت مثل هذه الدراسات الأنثروبولوجية بشكل كبير في دعم السيكولوجيا المعرفية المعتمدة على البراديقم التعددي المنتقد للتصورات التي تقول بوجود بنيات ذهنية كونية يخضع لها كل الناس. فاختلاف التمثلات الثقافية دليل على أن الإنسان يتوفر على أنواع متعددة من الآليات المعرفية متصلة بنمط حياة الشعب الذي ينتمي إليه. غير أنّ الشعوب التي تلقى طفرة اقتصادية أكبر تحاول أن تنشر ثقافتها وآلياتها المعرفية. أفلا يجدر، بناء على ذلك، بالباحثين التونسيين مراجعة كلّ معلوماتهم حول الإنسان التونسي انطلاقا من براديقمات جديدة مبتكرة تؤسّس بها للكوني انطلاقا من المحلّي مثلما تفعل كلّ الشعوب المتقدّمة اقتصاديا كاليابان والصين والولايات المتحدة؟ فمن يعِ حركة التاريخ تصبح البراديقمات متجدّدة في يده يفهم بها حركة الفكر بكلّ مشاربه وأهدافه، أمّا من لا يعِ حركة التاريخ عموما والفكر بصفة خاصة فإنّ البراديقمات تصبح في يده سلاحا يعطّل التجديد.
لقد كانت فكرة « طوماس كون» ثورية في زمانه ونقلة في تاريخ وسوسيولوجية العلم. فقد تسببت في تغير كبير في الطريقة التي يتحدث بها الأكاديميون عن العلم، ذلك أنّ «كون» يركّز، عبر دراسته الطويلة لتاريخ العلوم، على الطابع الثوري للنظرية العلمية أوّلا، أي تعويض نظرية علمية بأخرى أفضل منها. ويركّز، ثانيا، على الدّور السوسيولوجي الذي تلعبه الجماعة العلمية في بناء النظرية العلمية، وكباعث لتقدم النظرية العلمية. 
وعلى عكس ذلك نرى بعض «شيوخ العلم» بدلا من أن يفهموا مقاصد «طوماس كون» فيدعون الناس إلى الاطلاع على مختلف البراديقمات قصد الاستئناس بها في اختيار معايير ومبادئ وقيم ونماذج لصياغة منظومة نظرية جديدة لشأن من شؤون الحياة، كالتربية أو الصحة أو غيرها ، يدعون إلى التحجّر والالتزام ببراديقمات محدّدة دون غيرها، فهي، في نظرهم، بعدد كذا لا تزيد ولا تنقص، وهي الوحيدة الضامنة لنجاح العمل الفكري. وبلغت جرأة بعضهم إلى الاستدلال باختلاف المذاهب في الدين ودعوة الأئمة إلى التقيّد بمذهب واحد كدليل على صحّة ما يدعون إليه في مجالات فكرية في قياس لا منطقي سخيف. ونجدهم يرفضون كلّ مظاهر الفكر الحداثي التي تتوافق مع مبادئ دين الإسلام «بما في ذلك توافقه مع حقوق الإنسان»(7) وهم بذلك يُغفِلون حقيقة كون الوظيفة الإجرائية الأساسية للبراديقم تكمن في إتاحته انتقاء المعطيات والعناصر والوقائع استبقاء، واستبعادًا، فيجب أن يُتِيح ولا يَفرِض فيصبح مصدر زيادة لفاعلية العمل الفكري وليس صندوقا يغلق على الفكر. 
يظهر هؤلاء «الشيوخ» دوغمائية واضحة فما أن تصبح لنظرية تحليلية معينة أو لبراديقم معيَّن السيطرةُ عند تلك الجماعة حتَّى يرفضون السماحَ للأعمال الجديدة المختلفة بأن تدحضها أو تظهر دون إذنها ويؤسّسون لذلك الغرض ائتلافات وتحالفات. فالبراديقمات السائدة والمتخندقة التي تسيطر على فكر الجماعة تتمتَّع بنوع من الحماية الخاصة.
  لذلك أدعو هؤلاء وغيرهم إلى الكفّ عن ترديد كلام المتأخرين ممن أغلق منافذ تفكيرهم الحي جنُوحُهم إلى سجن المنظومات والخرافة والشطح الصوفي القديم، أو ترديد كلام المتغربين ممن أغلق منافذ تفكيرهم ميل إلى سجن الإيديولوجيات والإعجاب إلى حد التماهي مع كل ما هو غربي. ودون أن أقف عند ما طرحه «بوبر» (Popper K.) من أن العلم ليس استقرائيا، وأن المعرفة وثب(8)، ودون أن أتّفق تماما مع ما طرحه «بول فايرآباند» (Paul Feyerabend) عام 1975 في كتابه الموسوم بكونه ضد المنهج«مخطط تمهيدي لنظرية فوضوية في المعرفة»، وفيه تحدّى كل محاولات وصف المناهج العلمية، منتهيا إلى القول بعدم وجود منهج متميز بصفاته، أي رفض وجود نسق علمي ثابت ونهائي مما يبرز الصفات الثورية لـ «بول فاير آباند»(9). لكنّني أصرّ على القول مثل الأنثروبولوجي مايكل كاريذرس(Carrithers ) حول الفكر القياسي القائم على البراديقمات:«إنّ واقع الفكر البشري من حيث القوّة والإبداع، هو أقوى وأقدر ممّا يستطيع أن يستوعب  الفكر القائم على المخططات أو النماذج القياسية. إنّنا نستطيع أن نبتكر أو نكتشف أشكالا جديدة من الفكر القياسي ومخططات جديدة» (10).
   فلا تضيّقوا علينا سماء العقل بما رحُبت وافتحوا لنا نوافذ الفكر لعلّنا نشتم أنسام الحرية.
الهوامش
(1)- هو عالم فيزيائي أمريكي، ولد عام 1922م، اشتغل بفلسفة العلوم «الإبستيمولوجيا»، له نظرية خاصة عن تاريخ العلم وحركته ترتكز على مفهوم البراديقم، قدّمه في كتابه «بنية الثورات العلمية»الذي نشره عام 1962م، وألحق به حاشية تنقيحية عام 1969م 
(2) طوماس كون (Thomas Kuhn) (1962)،  بنية الثورات العلمية، ترجمة شوقي جلال ضمن سلسلة «عالم المعرفة»، عدد 162، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1992م. 
(3) Legrand L.( 1991) Enseigner la morale aujourd’hui, Paris, PUF. 
(4) Capra Fritjof (1985). Le Tao. De La Physique. Paris, Editions Sand
(5 ) الغالي أحرشاو(2005). العلم والثقافة والتربية: رهانات استراتيجية للتنمية العربية ،الدار البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة. ص51
(6 ) الغالي أحرشاو، المصدر السابق ص52.
(7) محمود منقذ الهاشمي ( 1995). الإسلام وعالمية حقوق الإنسان، الفصل الثالث ، مركز الإنماء الحضاري، حلب.
 (8) -Popper K.(1973).La logique de la découverte scientifique, trad.franç.Paris, Payot.
(9) -Feyerabend P. (1988). Contre la méthode: Esquisse d’une théorie anarchiste de la connaissance. Paris , Seuil.
(10) - مايكل كاريذرس (1992). لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟ الثقافات البشرية: نشأتها وتنوّعها. ترجمة شوقي جلال ضمن سلسلة «عالم المعرفة»، عدد229 ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1998م.