تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
هل أتاكم حديث الكرامة (2) ألوان باهتة
 في سباق شديد التنافس على التبكير، يتوافد الأهالي على السوق الأسبوعية التي بدأ الاستعداد لها منذ عشية الأمس في سباق لا يقل تنافسا عن الأول على حجز أماكن وفضاءات الانتصاب. باعة متجولون بين سوق وسوق كادحون يبيتون لياليهم خارج أفرشتهم وبعيدا عن دفء عائلاتهم.
بعد المجادلة والبيع والشراء حول التموقع، يتم الوفاق والحسم وإن طال العناد والتلاسن على رسم حدود منصات العرض. وكل منصة هي عبارة على مصطبة من لوح عريض ورقيق خفيف اصطفت بانتظام تكاد تلامس الواحدة الأخرى وكدست الأمتعة فوق كل منها وتترك مغطاة إلى صباح يوم غد وقد رصفت تحتها أكياس ملابس مازالت لم تفتح بعد ولن تفتح إلا باكرا أو في ذروة المهرجان التنافسي المتواصل من الصباح إلى المساء لجلب أكثر ما أمكن من الحرفاء حولهم.
الساعة تراوح بين المغرب والعشاء، يجتمع التجار «لا عفوا» الباعة حول عربة اختلفت عن عرباتهم الناقلة للأمتعة والمنصات المفككة – فهي خصصت واختص صاحبها بتقديم خدمة الإطعام لجميع الباعة المنتصبين بالسوق وقد خضعوا إلى نظامها الداخلي. يجتمع هؤلاء الباعة وصبيانهم المساعدون فكهين لتناول نصيب مما أعد للعشاء حول موقد متنقل لعله يعوضهم بعض الدفء المفقود. كل شيء معهم متنقل حتى البرد الذي يتبعهم أينما كانوا في كل سوق أي في كل بلدة وكذلك الشوق الذي ملأ صدورهم فتصدع تنهيدات في أول الليل فزفرات وحشرجة على تماسه بالنهار الجديد. ويقبل الأهالي مع انتشار أول شعاع للشمس المترددة خلف ستائر قاتمة من سحب متراكمة جهة البحر شرقا. 
لم أنس ولا أظنني يوما أنسى صورة رسخت في ذاكرتي منذ مشاهدتي الأولى والمتكررة لفيلم صبرا وشاتيلا عرض لأول مرة يوما ما في حينا على جدار معصرة زيتون بالجرف أين تقام السوق الأسبوعية.
لم أنس ولن أنسى معانات شعب وقضية عصر لأنني أعيشها مستمرة بشجاعة شبابها وكهولها نساء ورجالا وصبر شيوخها أكبرُ لا على ما أصابهم من ظلم الاحتلال وبطش الأعداء بل على قاسم الظهر غدر المتآمرين وخذلان أشباه الرجال. على قدر ما شُحنْت نخوة وعزة النفس ترك فيّ الفيلم خدشا لم يبرأ. وكيف له أن يبرأ وعورة الشيخ تسترها قطعة قماش قدّت من كيس طحين المنظمة الدولية للإغاثة. «ليس للبيع ولا للمبادلة. هدية الشعب الأمريكي»
نعم، هذا الخدش يلازمني ويؤلمني ويدفعني لتعرية كل هؤلاء الوافدين والوافدات على السوق الأسبوعية للتّثبّت مما يستر عوراتهم. قليل من الرجال وكثير من النساء يتسارعون أولا لانتقاء الملابس حاملة العلامات وماركات مسجلة ومشهورة وإن بدت هذه الملابس قديمة فقيمتها ثابتة ومضمونة لزبائن مميزين لا يجرؤون على الاختلاط بعامة الناس لفرز أكداس الفريب فيلتجئون إلى أصحاب المحلات الذين يعرضون ما تم انتقاءه في مكان ضيق لفئة أصبحت عريضة مازالت تتخفى للتستر من كبرياء خذلهم .
لم أنس ولن أنسى والدي لما كان يتردد على «سوق الأحد» السوق الأسبوعية بسوسة جوهرة الساحل التونسي التي تنتشر على مدى شاسع ويأتيه الزوار من كل أطراف المدينة ومن ضواحيها. كان من وقت لآخر يفد علينا بملابس جيدة وباهتة وكنا نفرح بها لأنها لا تشبه ثياب أترابنا. كانت السوق تزدحم بالمتسوقين الذين استعدوا لهذه المناسبة منذ أشهر لأن المقصد لا يكون لفرز الفريب ولكن لاقتناء كل ما يلزم لتجهيز منزل أو عروس أو كسوة طفل استعداد لعودة مدرسية، فما أشبهه بعريس في حلته الزاهية. لم يكن الفريب منتشرا في ذلك الزمان بهذه الصفة التي أصبح عليها اليوم ولم يكن الإقبال عليه إلا محتشما ولكن لا أحد ينكر في تلك السنين أن كل التضحيات جائزة لتعليم الأطفال وكل شيء يهون من أجل توفير الكراس وكانت الملابس المستعملة ولازالت وسيلة لكساء الأطفال بأقل كلفة لتوفير المال لما يعتقد أهم. 
لم أنس ولا أظنني يوما أنسى، في الصف على طاولة الدراسة شرح أستاذ اللغة الفرنسية في دراسة لنص أدبي مدى فرحة أمّ بمناسبة خروجها مع زوجها وأطفالها لقضاء يوم عطلة خارج المنزل للفسحة والترويح على صغارها من تعب الدراسة. وقد بلغ الأستاذ بلغته الفرنسية السهلة ما أراد حيث أيقظ فينا حسا لم يكن لدينا قبل بيانه سبب فرحة هذه الأم وخصوصا حول ما صرّحت به تلقائيا من إعجاب بلذة الفطور الذي تناولته.
عرضنا على الأستاذ بالتناوب وبعد رفع الإصبع كل الأسباب التي خطرت بعقولنا الصغيرة واجتهدنا في البحث واختلفت الإجابات ولم تخطئ، إلا أن الهدف الذي حدده الأستاذ لم يصبه أي سهم، وبقي الأستاذ على تعطشه كصياد لم تعلق بشصه إلا سميكات صغيرات لا يسمنّ ولا يبعدن جوعا. أتت إجابة الأستاذ أخيرا واضحة شفافة دغدغت دواخلنا فانكشف على وجوهنا ما يقرأ إعجابا ممزوجا بالإشفاق والحسرة حتى لكأن الأستاذ توصل إلى التعرف على كل الصور التي تشكلت في ذهن كل منا، فلمس شقاوتها وألمها. قال وكأنه بحضرتهن، « تعودت أمي الكريمة وأمهاتكم الكريمات كل يوم إعداد الطعام وتقديمه إلى كل أفراد العائلة الموسعة وكل يوم تعيد أمي كأمهاتكم غسل الأواني وترتيب المطبخ. أما في هذا اليوم السعيد يا أطفالي لما خرجت هذه الأم مع أطفالها، أناس آخرون كانوا في خدمتها أعدوا لها الإفطار وقدموه لها.» 
لم أنس ولن أنسى ما أضافه الأستاذ «ما أجمل أن أجعل الناس في خدمتي وأن أدفع لهم مقابل التعب والخدمة»
يتواصل السوق إلى ما فبل المغيب دون انقطاع تدفق الزوار ينتقلون من بائع إلى آخر يقلبون الأمتعة، معاطف هنا وسراويل وقمصان هناك وملابس داخلية وأحذية مختلفة الأشكال والألوان أكثرها لا تناسب المناخات المعتدلة والحارة ولكن أسوامها الزهيدة تغري فيُقبل عليها. وهناك يتراءى ازدحام حول مائدة تبدو دسمة. لا شك أن هذا الرجل الواقف بعيدا يراقب من علٍ حركات الحرفاء حول منصته ويستطلع انتشار زائري السوق حتى أطرافه. ها هو يقتنص الفرصة للانقضاض على فوج من زوار جدد لمح قدومهم من بعيد فأشار إلى فتاه المعِين ليعلن فتح كيس جديد فكانت أشارة لبدء سباق الحظ لعله يرمي لأحدهم بقطعة ثمينة يفرح بها.
ذلك الرجل الذي لمحته طويل القامة سوي البنيان لا أدري لماذا لم أعرّه ولم أستطع تعريته من بلوزته الطويلة ولا من سرواله الأبيض ذي الألية الفضفاضة. لا تخاط هذه الملابس إلا بدكاكين داخل الأحياء وقد يدفع الرجل لجاره الخياط نقدا ثمنا غاليا.
قد يقي البردَ والجوعَ كلُّ ما «لا للبيع ولا للمبادلة، هدية الشعب الأمريكي» ولكنه لا يستر عورة.