قصص القرآن

بقلم
الهادي بريك
قصة يونس عليه السلام
 يونس في القرآن الكريم
ذكر يونس عليه السلام في القرآن الكريم في المواضع التالية:
* في سورة يونس:«فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين»
* وفي سورة الأنبياء:«وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات ألا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين». سماه هنا ذا النون والأرجح أنه إسم الحوت مطلقا تناسبا مع تسميته بصاحب الحوت في الموضع القادم وهناك من رجح غيره ولا يؤثر هذا في القصة من حيث مقصدها
*وفي سورة الصافات:«وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إل مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين»
*وفي سورة القلم:«فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم فاجتباه ربه فجعله من الصالحين» . سماه هنا صاحب الحوت نسبة إلى الحوت الذي إلتقمه وصاحبه في رحلة إبتلاء قاسية شديدة وربما فيها تشريف له حتى وهو يمتحن إذ نسب الحوت إليه ولم ينسبه هو إلى الحوت. كما ذكر في سورة الأنعام سوقا مع أوسع موضع يذكر فيه الأنبياء في القرآن الكريم إذ ذكر في هذا الموضع زهاء ثمانية عشر منهم.
خلاصة القصة
أرسل إلى أهل نينوى (المحافظة العراقية الشمالية المعروفة اليوم) فلم يؤمن منهم أحد فثار غضبه وذهب بعيدا عنهم دون إذن من ربه ولما كان على شاطئ البحر ركب مع الراكبين وفي الأثناء ثارت ثائرات البحر فكان لا بد من التضحية براكب تخفيفا من الشحن الذي لا يساعد الفلك على لزوم تماسكه في وجه العاصفات وجرت القرعة بين الراكبين وظلت تختار يونس ثلاث مرات متتاليات وما إن ألقى بنفسه في البحر أو ألقي حتى كان بطن الحوت مسخرا ليكون قراره الآمن الدافئ وهناك ذكر ربه سبحانه مستغفرا تائبا آئبا بكلمات سجلها الوحي العظيم وحرض عليها محمد عليه الصلاة والسلام: «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين». أمر الله عبده الحوت بالتوجه إلى الشاطئ ـ ولا يعلم أحد كم لبث في بطنه ـ وبمثل ما إلتقمه بلا سوء قذفه بلا سوء ويمنّ عليه سبحانه أنه لم ينبذه في العراء ليكون كفرخ طير بلا جلد ولا ريش يحميه فيهلك بل أخلصه إلى شجرة اليقطين ـ وهي المسماة القرع ـ ذات الأوراق الممتدة والمرتفعة عن الأرض فلا تغطه لقلة في ذلك ولا تعرضه طعما للحشرات والدواب لبون فيه وبعد ما إكتمل وإستوى كما كان قبل المغاضبة أعاد الله سبحانه إرساله إلى مائة ألف أو يزيدون من الناس فآمنوا هذه المرة أجمعين. 
أبرز العبر والعظات
القصة والتاريخ مواد تثبيت في معركة الحياة
درج القرآن الكريم بما لا يكاد يحصى على سوق القصص الخالية في كتابه إبتغاء تثبيت قلب نبيه محمد عليه السلام إذ هو يلاقي العنت والضنك من إعراض وتكذيب القوم وكذا قلوب الناس الذين آمنوا معه ومن بعدهم حتى يوم الدين كل من يسير في هذا الإتجاه الإيماني الدعوي ممتلئا شوكا ومن ذا يدرك المرء حتى تلقينا بله إستنباطا أن التاريخ الغابر بقصصه وعبرها مادة تثبيت وتصبير وتسديد لمن يخوض الحياة أنها معركة قاسية وساحة إبتلاء ومن ذلك قوله سبحانه :«وكلاّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك» وهذا موجه إلينا نحن اليوم كذلك عسانا نتزود من القصّة والتاريخ مما دوّن ومما لم يدوّن هنا ما به نراكم التجربة ونعالج التحديات بما يناسبها.
بشرية الإنسان والإعتراف بضعفه 
إلى جانب قوته فقرة فكرية
هناك إتجاه فكري في الناس قوامه أن يوسف عليه السلام ما همّ بربة القصر همّا جنسيا كما همّت به هي وأن يونس عليه السلام لم يكن نبيا عندما غاضب وأبق. منزع هذا الإتجاه لئن كان محققا لشرط الصحة النفسية فإنه أدنى من الصحة العقلية إذ هو يلوي الحرف العربي ليّا ظنا منه أن النبي ـ أي نبي ـ هو فوق البشرية فيما لا بد منه للبشرية. أما في حالة يوسف عليه السلام فسيأتي هذا مفصلا عندما نعالج قصة يوسف عليه السلام. أما في حالة يونس عليه السلام فلا معنى لوصفه بالآبق والمغاضب لو لم يكن نبيا ولو كان غير ذلك لكان له حق الإنتقال من أرض إلى أرض دون حرج ولا تثريب وهل يستأذن واحد منا اليوم ربه لينتقل من قوم إلى قوم أو من أرض إلى أرض؟ مازال وعينا في الجملة حيال النبوة دون الرضى بقيمة البشرية التي أبى الوحي الكريم إلا أن يلصقها بمحمد عليه السلام مرات ومرات ونحن نظن أن الوصف البشري للنبوة منقصة ومثلبة وهو في الحقل العقدي ضرورة ملحة حتى لا يتخذ الناس أنبياءهم في حياتهم أو من بعد موتهم آلهة أو عشر آلهة كما يفعل اليوم بعيسى عليه السلام من لدن أكثر سكان المعمورة. أي ضير في أن يتعرض يونس النبي الإنسان إلى تكذيب وإعراض فلا ينجح في الصمود والثبات ليس على الإيمان ولكن صبرا حادبا راسخا لا يعرف الهزيمة على قومه؟ قوام العقيدة هو أن نتواضع فكريا لنقر للأنبياء كلهم عليهم السلام جميعا بالبشرية إذ لو رحلنا بهم إلى مرتبة أعلى حتى وهم يحصنون بالعصمة الدينية لأصبحنا مشركين. هذا مهم جدا لنا اليوم ومفيد عندما نعالج الأشخاص المشتغلين في الحقل العام فلا نقدسهم أو نعبدهم ولا نبخسهم حقهم بل نزنهم بميزان الموضوعية والإنصاف فلا طغيان ولا إخسار.
رحمانية الرحمان سبحانه 
لا تعرف حدودا وهي فوق مناطنا العقلي
هما أمران لا بد منهما لإيمان صحيح : رحمانية الرحمان التي لا تعرف حدودا بما يجعلها فوق مناطنا العقلي ونفاذنا الذهني وبشرية الإنسان حتى لو كان نبيا رسولا ملهما مؤيدا وبينهما يلفى الإنسان ساحة رحبة لتفعيل مؤهلاته والإعتراف بقصوراته وعلى ذلك الأساس نفسه يعالج الناس من حوله وتجاربهم. حتى النبي المرسل الذي لا يتحمل تكذيبهم أو أذاهم فيأبق إباق العبد من سيده أو يغاضب بدون إذن ممن أرسله .. حتى ذلك النبي يغفر له الغفور ويتوب عليه التواب ويرحمه الرحمان. ذلك درس من أعظم دروس القصة. درس قمين بالإلتقاط لأن الإيمان العفو من الأمل سحابة صيف سريعة الإنقشاع والمشتغل في الحقل الدعوي بأي صورة كانت إذا لم يتجهز بجرعات يقين وأمل ورجاء في ربه وفي الناس معا سحاب مثله. إختلفت التآويل في روايته عن عبده ونبيه يونس عليه السلام أنه ظن ألن يقدر عليه. ربما يكون أرجحها تكافلا بين اللسان العربي ومرتبة النبوة أن يونس عليه السلام ظن ـ ظنا لا يقينا جازما كما يرد ذلك في القرآن الكريم كثيرا ـ أن الله سبحانه لن يضيق عليه أو لن يعاقبه وهو يغرب عن قومه الذين كلف بدعوتهم بدون إذن من ربه سبحانه. وهو ظن شاغب وخاطر لا يعفى منه الإنسان سيما إذا تعرض لمثل ما تعرض له النبي الكريم يونس عليه السلام من إعراض وتكذيب. وظني أن الله سبحانه عندما أخبرنا بذلك إنما يريد تثبيت ذلك الدرس العجيب الذي إمتلأ به القرآن الكريم وقوامه أن الإنسان خطاء فمن لم يخطئ بجارحته كما هو الأنبياء المعصومين فهو يخطئ بخاطرة قلبه التي لا يعلمها إلا هو سبحانه وأنه سبحانه لا يعجزه شيء فهو على ذلك رقيب عليم خبير وأنه يغفر كل ذلك وخاصة عملا بعوامل التخفيف كما يقال اليوم في علم القضاء أي في مثل حالة نبي يواجه بالتكذيب والإعراض والصد. هذه المعاني الثلاثية تكررت كثيرا جدا في القرآن الكريم لأننا بحاجة ماسة إليها. رحمانية الرحمان التي لا حدود لها ألهمته كلمات في التوبة والإستغفار كانت كفيلة بالأوبة وهي نفسها التي رتبت له رسالة جديدة وحياة جديدة وقبولا جديدا من عدد كبير من الناس أي مائة ألف أو يزيدون. العبرة هنا هي أنه إذا كان الله سبحانه يغفر للنبي الآبق المغاضب الظان أن الله لا يقدر عليه فهو لعبده الأضعف أشد مغفرة وتوبة ورحمة فلا بد من التسلح بسلاح الأمل فيه سبحانه ولكن في الإنسان كذلك ولا بد من الخطاب الإسلامي المعاصر أن يكون عنوانه الأمل واليقين والرجاء في الله وفي الإنسان معا وإلا فإن رسالة الإسلام ستتعرض لمزيد من زوابع الإسلاموفوبيا
عقوبة الدنيا رحمة للمؤمن وليست مدّا
يتعرض المؤمن والكافر سواء بسواء في الدنيا للعقوبة ولكن العقوبة تكون للمؤمن توبة وتأهيلا وتجربة للمراكمة وتكون للكافر إما ضوء أحمر عليه التحسب له أو مدّا وإستدراجا كما ورد في الذكر الحكيم. شاعت فينا قالة جاهلية قوامها أن من يكثر إبتلاؤه في هذه الدنيا من المؤمنين لا يكون الله إلا غاضبا عليه. لو لم يعاقب يونس عليه السلام بما لاقى من ألم الإلقاء في البحر وحياته في بطن الحوت وتحت شجرة اليقطين لأجل له ذلك إلى يوم القيامة ولكن رحمة الرحمان سبحانه تقضي دوما أن تعجل العقوبة في الدنيا للمؤمن قدر الإمكان حتى لا يلقى ربه يوم موته أو يوم بعثه إلا وهو عفو أو شبه عفو. نتبرم نحن اليوم من الإبتلاءات ونريد أن تكون الدنيا لنا قرارا آمنا دافئا لا يعكر صفوها معكر وهذه غفلة وشغبة شيطان. علينا التحوط وإتقاء أسباب البلاء ولكنها آتية ماضية فينا فإن قابلناها بالصبر والتحمل كفرت عنا سيئات لا نحصيها والله يحصيها.
أحداث التاريخ والحاضر 
معرض للتفكر والتدبر
ذلك هو معنى السياحة التي تردد في تأويلها الناس إذ هم سجينو سياحة معاصرة ظاهرها خبيث وباطنها أخبث ولو أولوها أنها سياحة الإنسان في كون الله المبسوط المنداح ببدنه وبفكره معا أو بفكره فحسب لأجل التدبر والتفكر والتأمل لكان خيرا ولما أُلجؤوا إلى مشكلة عدم إنسجام بين سياحة معاصرة كثيرها خبيث وبين أنها خلق إسلامي عظيم يكون فيه السائح والسائحة كالتائب والعابد والراكع والساجد. أليس قمينا بنا أن نتفكر مليّا في أقداره سبحانه وهي تقود خطى عبده يونس عليه السلام إلى فلك مشحون وليس إلى فلك قلّ راكبه؟ أو وهي توقع عليه المساهمة ـ القرعة ـ ثلاث مرات متواليات ليكون هو المختار دون سواه من عشرات أو مئات الراكبين؟ أو وهي تجلب حوتا في البحر الواسع ليفغر فاه في اللحظة نفسها التي يلقى فيها يونس فيه؟ أو وهي تأمر ذلك الحوت العابد لربه أن يتوجه في مكان ما في زمان ما إلى الشاطئ فيفغر فاه ثانية ويخرج يونس من جوفه سليما معافى؟ أو وهي تحفظ ليونس حياته نفسا وشعورا وعقلا ـ حتى أنه يسبح ويستغفر ـ ووعيا وهو في ظلمات ثلاث؟ أليس ذلك يذكرنا بالظلمات الثلاث التي يظل فيها الجنين في بطن أمه أمدا ثم يخرج إنسانا سويا؟ كل تلك الحركات في التاريخ ومثلها في الحاضر بما لا يحصى كفيلة بأن تجعل الكون الفسيح معرضا متجدد العروض مع تجدد كل فجر جديد. ذلك هو مصنع الإيمان ولا يصنع الإيمان شيء سوى ذلك. ذلك هو مخبر العقيدة ولا تصنع العقيدة في مخبر سواه. ذلك هو مناط العقل الذي هو مناط التكليف. ما سيق لنا ذلك اليوم سوى لننبذ حياة الإلف والعادة ثائرين على البلادة متفكرين متدبرين متأملين. فمن تفكر آمن ومن تبلد كفر
التوبة مقبولة مهما كان الذنب 
فلا يقنطن من الرحمان قانط
الله هو الذي يتوب على عبده فيتوب عبده كما ذكر ذلك سبحانه في سورة التوبة وهي من آخر ما نزل يعدل ويضبط ويرسخ. توبة الله على العبد لا تعني إكراهه عليها بل تعني أنه لا يتوب تائب إلا بإذنه ولو تاب تائب بغير إذنه فلا كرامة لإله ينصب نفسه علينا إلها والناس تحته يفعلون ما يشاؤون رغما عنه. توبة التائب تعني إستعادة للذات وعودة إلى الرشد وتصحيحا لمسار خاطئ وهي فعل التاجر نفسه في نهاية كل عام ليعدل حركته التجارية. تلك التوبة تكون مبادرة من العبد وإذنا من المالك وعملا مقبولا. أجل قبلت توبة يونس عليه السلام وهو الذي ذهب مغاضبا آبقا لا يلوي على شيء. توبة قبلت لأنه عبد ضعيف يستغفر ملكا قهارا جبارا عظيما. كيف نأمل العطاء من ملك الدنيا وقد تتخطفه الموت قبل تحقق عطائه وتتخطفنا الريوب ونحن نتوجه إليه سبحانه بأكف الضراعة؟ أليس الله بكاف عبده؟كلمات التوبة التي صاغ بها يونس عليه السلام دعاءه وهو في الظلمات الثلاث كافية شافية ضافية تعلمنا فلسفة التوبة فهي تجديد الإعتراف بإلاهية الله سبحانه ومن ذا تنطلق الأشياء وإليها تفيئ ثم تعترف له سبحانه بالقدسية والتقديس والتنزيه إذ تسبيحه يعني الإيمان بأنه ليس كمثله شيء وأنه صاحب الكمال والجلال والجمال ثم الإعتراف بخطإ المرحلة السالفة وأنها كانت ظالمة مظلمة. تلك هي خطوات التوبة المقبولة. أي إعتراف بقدسية الرحمان وإعتراف بظلم الإنسان وإلا كانت المسافة بين الملك المعطي وبين العبد المحتاج مسافة ضيقة لا تسمح بالتوبة. التوبة كالفرس الجموح كلما بعدت الشقة ركض وزاد ركضه وأوصل صاحبه حيث يريد وكلما ضاقت المساحة كان الركض عليه عذابا. لم يتب عليه سبحانه فحسب بل أعاده إلى مجده السابق أي نبيا رسولا بل فكّ عنه الإعراض وسخر له أفئدة الناس ليؤمنوا كلهم أجمعون. كذلك تعالج معركة الحياة فإما أمل يغامر ويتحدى وينتصر ولو بعد ألف هزيمة وإما قعود وتواكل وقنوط ويأس وموت. حتى الكافر الذي حيزت له الدنيا اليوم بحذافيرها ما حيز له ذلك سوى لأمله في نفسه وثقته في قدرته وإذا كان الأمل يحقق للكافر ألقا فكيف يركس عنه المؤمن وهو يحمل أملين: أمل في الدنيا وأمل في الآخر وأمل في الله وأمل في خلق الله سواء كان مرفقا أو إنسانا؟
تدار معركة الحياة 
بفقه الموازنات وبالعقل المركب
يتجلى ذلك كذلك هنا في هذه القصة إذ نفيد منها أن تحمل الضرر الأدنى وهو إلقاء إنسان في البحر أولى من تحمل ضرر يلحق بالجماعة كلها. لم يكن ذلك بعيدا عن هذه السورة والناس في مكة يواجهون العنت. كل كلمة في هذا الكتاب محسوبة حسابا دقيقا ومضبوطة ضبطا عجيبا. فما سيق لنا ذلك سوى لإستنباط عبرة نحن اليوم في أشد الحاجة إليها وهي أن الحياة لا تسير كما نريد نحن بسبب إزدواجياتها وتركبها المختلف المتنوع المتعدد ومن هنا كان لا بد من اللجوء إلى معرفة أشر الشر من الشرين ومعرفة خير الخير من الخيرين. أي نتحمل في حياتنا الفردية والجماعية الأضرار الصغرى ليس حبا فيها ولا هزيمة ولكن لتوقي أضرارا أكبر منها ومن ذا كذلك يضحى بالمصلحة الفردية مهما كان صاحبها لأجل المصلحة العامة وحياة إثنين أغلى من حياة واحد وكل ذلك ضرورة ضارة قاهرة لا خيارا لأن الإنسان في جنسه مقدس دون ريب. أسأل نفسي أحيانا قائلا لِمَ يكون مثل هذا مبحثا من مباحث علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة؟ أليس هذا أصلا منطقيا عقليا هدى الله إليه الكفار فطرة وجبلة فلمّا عملوا به نجوا؟ ربما تقدر اليوم على نقل جبل من شرق إلى غرب ولا تقدر على إقناع شاب متدين حديث عهد بتدين أن فقه الموازنات لا بد منه لحل مشاكلنا السياسية والمالية وعلاقاتنا الخارجية. ربما لم يصب العقل المسلم المعاصر بداء مثل داء الأحادية ونبذ الموضوعية والمقاصدية والتوازنية والإعتدالية فلا يآل إلى فهم الإسلام أنه دين المصالحات والموافقات والتوازنات والمتراجحات إلا عند عدد قليل جدا من أبنائه اليوم.
وسيلة الإقتراع آلة شرعية
سميت الإسهام والمساهمة وسميت القرعة والإقتراع والغرض هو توخي آلية عادلة للإختيار عند عدم وجود مقاييس معلومة أو معايير مظنونة الصواب. صحيح أن القرعة من آخر الوسائل لجوء إليها ولكن قيمة الشيء في اللجوء إليه والحاجة وليس في ترتيبه كالكي إستطبابا. لم يكن هناك بد لإختيار رجل من ركاب السفينة يلقى به في البحر ليكون طعما شهيا للحيتان والقروش إلا على أساس القرعة التي نظنها نحن صدفة طائشة وما هي بذلك بل هي قدر إلهي غلاب. ولم يكن إختيار يونس عليه السلام من لدن الركاب من بعد سقوط القرعة عليه ثلاثا متواليات محل غبطة ولكن لا مناص مما ليس منه مناص ولا بد مما ليس منه بد. وسيلة القرعة تشي بأن الإنسان يتساوى مع أخيه الإنسان في القيمة والقدسية وعندها لا بد من اللجوء إلى الإختيار الإلهي أي الترتيب القدري الرحماني الذي يدبر الأمر ونحن لا نبصر سوى الثمرة والنتيجة. الإقتراع وسيلة عدل وإنصاف وحق عندما يكون في محله ومن أهله ومنه الإقتراع الإنتخابي الديمقراطي اليوم إذ يشترك مع القرعة أن كلاهما يحوز على رضى الناس لتجفف منابع التهارش بينهم وتقر الحياة على نمط من التوافق.
قصة يونس قصة بعث صغرى
إذا كان مقصد الكتاب الأعظم هو إستحياء عقيدة البعث في الناس تحسبا لمحكمة عظمى أخيرة تقرر مصيرهم الأبدي، فإنه لا يفرط في حشر ذلك المقصد في كل قصة تقريبا وفي كل مثل تقريبا وفي كل سورة أو سياق. تراءى لي أن قصة يونس عليه السلام هي صورة مصغرة لقصة البعث الكبرى التي نؤمن بها جميعا ومعنا كثير من أهل الكتاب أنفسهم حتى لو تباينت صور البعث أو الجزاء هنا أو هناك. يونس عليه السلام كان في حكم الميت بعدما إبتلعه الحوت ومكث في بطنه حتى إنخلع عنه ثوبه الجلدي بل آل إلى ما يشبه الفرخ الطائر الذي تفقس عنه بيضته لحما عاريا ربما تؤذيه ذبابة أو نسمة باردة. كان في حكم الميت وهو في ظلمات ثلاث : ظلمة البطن وظلمة البحر وظلمة الليل. أنى لهذا أن يبعث للحياة من جديد؟ تراءى لي أن في هذا المشهد الحي من القصّة إشارة لطيفة إلى أن الله الذي يعدنا بالبعث من بعد الموت يدلي إلينا بمثل ذلك في الدنيا مرات ومرات ومنها ولادة يونس من موقع لا ينجو منه في العادة من يقع فيه. الرسالة هي أن الله سبحانه قادر على فعل الإحياء والإماتة بقدرة عجيبة فلا يعجزه شيء من ذلك. كما أن في القصة كما صدر في أعلاها تمثيل للجنين في بطن أمه فهو يخرج متوبا عليه لا يحمل شيئا من السيئات إذ لا تزر وازرة وزر أخرى وهو إيماء إلى أن يونس كذلك متوب عليه وعليه أن ينسى ما إقترفه من مغاضبة وإباق دون إذن وأنه الآن مهيئ لحياة جديدة. هي عبر لا تكاد تنقضي لكثرتها سوى أن بعضها أغزر من بعض وأجل
عندما تكون التوبة شرفا 
ويصبح الخطأ شهادة
ليس ذلك سوى في هذا الدين الذي مبناه التوبة ولا شيء غير التوبة إذ التوبة هي الأمل السافح للقنوط. نهى عليه الصلاة والسلام أن يقول أحد أنه خير من النبي يونس عليه السلام بل قال تواضعا أنه هو نفسه ليس خير منه. ما معنى ذلك وما لزومه؟ معنى ذلك هو أن الإنسان عندما يقرأ قصة يونس عليه السلام في هذا الكتاب الذي يظل متلوا آناء الليل وأطراف النهار ربما يجتمع في خاطره أن فلانا ـ أو هو نفسه ـ أفضل من هذا النبي الذي لم يصبر على قومه فذهب مغاضبا آبقا بل ظن أن الله لن يقدر عليه ـ تضييقا أو عقوبة ـ . ولذلك نبه عليه السلام أن يسكننا هذا الشعور الشاغب لأن النبي يونس عليه السلام أتى فعلا بشريا يمكن أن يلم بكل إنسان ولا أحد يعلم مدى الضنك الذي لقيه من قومه المكذبين المعرضين الصادين وأن الله سبحانه وتعالى غفر له وتاب عليه وألهمه خير صيغة إستغفار في الحياة وأن قصته كاملة كانت محطة تزود بالدروس العظيمة متاحة لكل إنسان. معنى ذلك أن التوبة شرف في هامة الإنسان وأن الخطأ قد يكون سببا في عبادة لا تدانيها عبادة وقديما قال الصالحون العارفون : «رب ذنب ورّث أملا وتوبة خير من طاعة ورّثت غرورا وعجبا»