وجهة نظر

بقلم
البشير ذياب
التربية والثقافة والإعلام... وتنقية الحوض الآسن
 أولى مسالك تغيير النّفس هي مداخلها، ولا يمكن أن نؤثّر في النّفس البشريّة ما لم نحسن الولوج إليها من أبوابها، وهي السّمع والبصر والفؤاد، وهي وسائل الشّعور والإدراك، وهي المستهدفة الأولى بوسائل القصف الرّقمي الموجّه في ثقافة العولمة، عبر وسائل الإعلام والاتّصال بأنواعها المختلفة مقروءة ومسموعة ومرئيّة، والغريب ليس أن تستهدفنا ثقافة العولمة،  بل الغريب هو  أنّنا نخرّب كياناتنا ذاتيّا، وذلك من خلال برامجنا التّربوية بمستوياتها المختلفة، ثمّ بوسائلنا السّمعية البصريّة بأنواعها المختلفة، ظنّا ممّن أشرفوا على سياسة هذه القطاعات وصياغة برامجها أنّ هويّة الشّعب التونسي هي الكابح الوحيد لإنطلاقته الفعليّة في بناء ثورة علميّة وإقتصاديّة، ستبهر العالم، كما كان يروّج وقتها، ولا يزال بعض رعاة هذه التّجربة المدمّرة يروّجون لها إلى اليوم ويريدون إحياءها من جديد وبكلّ صفاقة رغم أنّ الأرقام تتحدّث عن نفسها، فنحن لسنا في تقهقر مستمر من النّاحية العلميّة والإقتصاديّة فقط، بل أصبحنا نتصدّر قائمات العالم العربي والإسلامي في التّدهور القيمي والأخلاقي وما أقوله موثّق بالأرقام، إلاّ إذا أصبح الإنجاب خارج إطار الزّواج، والطّلاق، والزّواج المثلي وتعاطي المخدّرات داخل المؤسّسات التّربوية وغيرها من المسقطات الأخلاقيّة لا يعدّ من مقومات  التّدهور في مجتمع الحداثة، وقد يكون كذلك عند رعاة الفكر والثّقافة اليوم، ما دام رموز هذه الفئات الشاذّة أصبحوا يقدّمون في الفضائيات ودور السّينما على أنّهم نماذج للنّجاح والتفرّد والتميّز في المجتمع، بل وأصبحت تخصّص لزيارتهم لمؤسساتنا التّربوية تغطية إعلاميّة تليق بمقامهم، وتكرّس نموذجهم التّدميري لدى النّاشئة.
لا أشكّ في أنّ مسار تغيير النّفس يمرّ حتما عبر مجالين رئيسيّين بالتّوازي، وهما التّربية والتّعليم في الكفّة الأولى، والثّقافة بمجالاتها المختلفة في الكفّة الثّانية، ولا يمكن لأيّ إصلاح في أيّ مجال من المجالات أن يكتب له النّجاح ما لم يتمّ معالجة هذين القطاعين بطريقة علميّة تجيب عن الأسئلة الثلاثة التقليديّة لأيّ عمل ذي بال وهي ماذا؟ لماذا؟ وكيف؟، تشارك في صياغتها كلّ الأطراف وتقودها خلفيّة وطنيّة صادقة تريد التأصّل في عمق تاريخ وطننا وأصالته وثقافته، وتسعى في الآن نفسه لفتح آفاق واسعة أمام طاقاته المختلفة تمكّنها من الإقلاع بسلام والتّخلص من قوى الشّدّ إلى الأسفل وإلى الخلف.
لتحقيق هذه الغايات النّبيلة، لا بدّ من الوقوف أوّلا عند حصاد المنوال التّربوي والثّقافي الذي ساس البلاد منذ الإستقلال إلى اليوم، وإبراز مكامن الخلل فيه، والكفّ عن عزف لحن الحداثة النّشاز الذي أصبح مقزّزا، والإعتراف بأنّ الفكر السّياسي الذي قاد البلاد منذ الإستقلال ولا يزال وإن تنوّعت رموزه، فوّت على بلادنا فرصا ثمينة للنّهوض، ولسنا بحاجة لمراجعة محتوى قطاعي التّربية والثّقافة كي نجد العلل الكامنة فيه، فنتائج هذين القطاعين على الأرض كفيلة وحدها بالإجابة عن كلّ الأسئلة.
حين نتحدّث عن إصلاح التّعليم، فإنّنا لا نتحدث عن برامج سرّية تدار بطريقة عشوائيّة مخلّة داخل الغرف المغلقة، ونتاجها من الأخطاء الفادحة في الكتب المدرسيّة تثبت عدم جدّيتها وقصور مناهجها إن وجدت منهجيّة أصلا، بل نتحدث عن برنامج متكامل ترسم فيه الأهداف المستقبليّة البعيدة المدى من العمليّة التربويّة، بعيدا عن النّعرات الإيديولوجية الهدّامة، فلا يمكن أن نتحدّث عن تربية وتعليم لا علاقة له بالتّربية النّفسية للطّفل، ولا علاقة له بالتّربية الدينيّة والتّربية الوطنيّة والتّربية الترفيهيّة والتّربية البيئيّة وفنون التّواصل مع الآخر، والعلاقة مع التّاريخ والثقافة الوطنيّة الأصيلة التي قدّمت بلادنا من أجلها آلاف الشّهداء، ومن ناحية أخرى لا يمكن أن نتحدث عن عملية إصلاح تربوي دون توفير بنية تحتيّة تليق بعمليّة تربوية ناجحة، فالمدرسة، كما هي مكان للتّربية العلميّة يجب أن تكون أيضا فضاءا للتّربية النفسيّة تراعى فيها القاعدة العلمية « طفل لا يلعب، رجل لا يفكر» .
إصلاح قطاع التّعليم دون إصلاح قطاع الثّقافة ودون إصلاح قطاع الإعلام هو حرث في الماء لا طائل من ورائه، مهما بلغت درجة الإصلاح التربوي ومهما إستوفت من شروط النّجاح، لأنّ التّوازن النّفسي للنّاشئة لا يمكن أن يتحقّق إلا من خلال هذه القطاعات الثلاثة  مجتمعة ( التربية، الثقافة، الإعلام)، وأيّ خلل في واحد منها يسبّب خللا في الآخر، فلا معنى لتربية الطّفل على الأخلاق الحميدة، ثم يعود للبيت فيمارس عليه كلّ أنواع الرّداءة الأخلاقيّة من برامج الأطفال إلى برامج نشر الفضلات الإجتماعيّة، ثمّ تمارس عليه كل أنواع الدّعارة السّمعية والحسّية والبصريّة في الشّارع وفي وسيلة النّقل وفي السّوق، وحتّى داخل المساجد، هذا الحوض الإجتماعي الآسن لن ينفع معه مجرّد غسل السّمكة في المدرسة ثم إعادتها للحوض لتختنق من جديد بمياهه المتعفّنه الرّاكدة منذ ما يزيد عن ستّين عاما.
أنا أعلم يقينا أنّ عملية التّغيير النّفسي تستوجب وقتا طويلا، ونخبة سياسيّة وفكريّة وثقافيّة متناغمة وأعني بمتناغمة مجتمعة على أهداف وطنيّة لا ولاء فيها لغير الوطن بمفهومه القطري، ولا مرجعيّة فكريّة لها غير الوطن في عمقه التاريخي والحضاري والإنساني المنقّى من كلّ الشوائب والتشوّهات، وقد لا أكون متشائما إذا قلت أنّ الجيل الذي سيحقّق هذه الطّفرة الأخلاقيّة قد لا يكون خلق بعد، فحين تكون أولويّة بلد فلاحي تطوير السّياحة وتهميش العمود الفقري للإقتصاد، ودخله من تصدير زيت الزّيتون وحده يفوق دخله من السّياحة، وحين تصرف المليارات من أجل دورة سينمائيّة لا نعلم أهدافها لتنمية ثقافة مترهّلة أصلا، ودور الثّقافة والشّباب تفتقر لأدنى مقومات مسمّياتها حتّى في المدن الكبرى،  أدرك أنّنا نقرأ كتاب الأولويّات من اليسار إلى اليمين.