في الصميم

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
أزمة الأخلاق في الصراع الأيديولوجي
 تمهيد
يظنّ البعض أنّ الأخلاق مسألة شخصيّة تفرضها جملة المعتقدات بشكل إلزامي فردي، وتنعدم عند المرور من المجال الخاصّ للفرد إلي المجال العام للسّياسة المشبّع بجملة من الإكراهات يفرضها القانون ومن ثمّ لا يوجد إلاّ المصلحة والمصلحة فقط، لكن في الحقيقة تتبلور الأخلاق الفرديّة ومن محصلتها تنبع الأخلاق الجماعيّة أو القيم والتي يمكن تعريفها بأنّها «جملة المقاصد التي يسعى القوم إلى إحقاقها متى كان فيها صلاحهم، عاجلا أو آجلا، أو إلى إزهاقها متى كان فيها فسادهم، عاجلا أو آجلا» [1]. وبالتالي فلا يمكن النّظر إلى قانون السّياسة المصلحي بمعزل عن قانون الأخلاق القيمي، فكلاهما يغذّي ويتغذّى من الآخر لكن بعد تكييفه لذلك. فمثلا، لا يكون السّلوك الفردي الحرّ إلاّ بالاقتناع وهو جوهر الأخلاق الفرديّة والتي تختلف من فرد لآخر ومن ثمّ لا يمكن أن يكون الاقتناع ضمانة لسياسة فاعلة وفعّالة، لكن من الممكن تكييف الاقتناع بالتّوافق لمصلحة الوطن، وهذا هو الاختلاف الذي يراه «ماكس فيبر» بين أخلاق الاقتناع وأخلاق المسؤوليّة. إذ أنّ الحياة السّياسية من الممكن أن تفسد وتؤدّي إلى نتائج كارثيّة بالأخلاق المثاليّة مثل الصّدق والطّيبة والإخلاص المعلن، كما أنّ قرارا سيّئا من وجهة النّظر الأخلاقيّة قد يعطي نتائج جيّدة. لكن المشكلة تكمن في تضارب المصالح عند دخول حلبة الصّراع السّياسي وكلّ منا محمّل بهموم أيديولوجيّته «دولته الذّهنية» لا بهموم وطنه، وكما يقول أحد المفكّرين «نحن نخدم الدولة لأنّها ضروريّة، لكنّنا لا نحب الدّولة ولا يمكن لنا أن نحبها، لا يمكن أن نحبّ إلاّ الوطن الذي يعدّ رمز القيم الأخلاقيّة والدّينية التي تتجاوز الدّولة».
الدخول إلى الحلبة
كثيرا ما نردد أن العمل السّياسي يتّسم بالحيل والمكر والخداع وأنّه لا علاقة له بالفعل الأخلاقي، ومن يتبنّى هذا المنحى يصل في النّهاية إلى أسوأ ما في مبدأ ميكافيللي من انتهازية «الغاية تبرّر الوسيلة»، والغريب أنّ ميكافيللي نفسه كان يرى أنّ الهدف النّبيل السّامي يضفي صفة المشروعيّة لجميع السّبل والوسائل التي تؤهّل الوصول لهذا الهدف مهما كانت قاسية أو ظالمة، فهو لا ينظر لمدى أخلاقيّة الوسيلة المتّبعة لتحقيق الهدف، وإنّما إلى مدى ملاءمة هذه الوسيلة لتحقيق هذا الهدف [2]، ولم تكن السّياسة عند ميكافيللي تعني فنّ البقاء في السّلطة بأيّ وسيلة وإنما كانت الغاية تبرر الوسيلة في إقامة الدولة. لقد قابل ميكافيللي بين الأخلاق والسّياسة ولكنّه لم ينكر أبدا وجود الأخلاق. وربّما يكون ذلك المبدأ مبرّرا في التّعامل مع الخصوم في السّياسة الخارجيّة، لكن لا يشكّ أحد أنّ السّياسة الدّاخلية مؤسّسة على مبدأ أخلاقيّ هو تحقيق المصلحة العامّة، ويستلزم ذلك إعلاء كلّ القيم التي تضمن تقدّم المجتمع مع استقراره مثل الحرّية والعدل والمساواة. وطالما حافظت على مسافة معقولة بعيدة عن المشاركة في الشّأن العام فأنت بعيد عن حلبة الصّراع، لكن حتما سيصيبك بعض شرره، ولكن إذا قرّرت الاقتراب والدّخول إلى المشاركة النّشطة والفعّالة في الشّأن العام فعليك تحصيل أدبيّات هذا الصّراع قبل تحصيل أدواته.  ينبغي أن نتّبع مسلك النقد البنّاء من دون أن نفتّش في الضمائر والنّوايا وننسى المقولات الحدّية التي من شأنها أن تؤجّج الصّراع وأن يُحتفظ بها في الضّمائر مثل «حتميّة الحلّ الإسلاميّ» أو «الحلّ في العلمانيّة» أو«الإسلام هو الحلّ». ولابدّ من الاتّفاق على إخراج القوّة الخشنة «الجيش» من حلبة الصرّاع السّياسي المباشر والتنافس على الحكم مع التّسليم أن له أيدٍ فعّالة لكن غير مباشرة في صنع قرارات سياسيّة تتعلّق بقضايا كثيرة لا سيّما الأمن القومي، وينبغي عدم تكوين مليشيات عسكريّة داخل العمل السّياسي، وإخراج المال السّياسي أيضا من اللّعبة خصوصا ذلك المال المتعلّق بالتّهديد بالفصل من الوظائف في المنشآت الاقتصاديّة الخاصّة الكثيفة العمالة، وعدم تحويل الصّراع السّياسي إلى صراع ديني ينبني عليه أحكام مثل التّكفير/ التّفسيق / التّبديع، فمعظم موضوع الصّراع من قبيل المصالح والمفاسد التي تختلف فيها الأفهام، وعدم تحويله إلي صراع وجود هدفه إفناء كلّ طرف للآخر، فقبل أن يكون خصمك السّياسي فهو شريكك في هذا الوطن، والحقيقة أنّ مثل هذه الصّراعات تفني الوطن قبل إفناء الخصم. وينبغي أيضا عدم ممارسة دور الشّرطة فيما بيننا بالإصرار على التّصنيف خصوصا لغير المؤدلجين، فكما يقول محمود درويش «والإيديولوجيا مهنة البوليس في الدّول القويّة» أي التّصنيف الأيديولوجي مهنة البوليس لضرب النّاس بعضها ببعض.
الإيديولوجيا إيجابا وسلبا
تشكل الإيديولوجيا الرّافعة المجتمعيّة للأحزاب السّياسية ومن ثمّ فهي تمثّل النّسيج القيمي والأخلاقي والثقافي الضّام لمجموعة كبيرة عدديّا وفاعلة مجتمعيّا، وهو لا شكّ فعل إيجابيّ جدّا في تكوين فئات مجتمعيّة ضخمة تؤمن بطريقة تغيير واحدة وتستطيع أن تلتئم سويّا وتفعّلها في المجتمع. الأيديولوجيا أيضا تمدّ أصحابها بالقوّة الدّافعة النّفسية في تبنّي صيرورة للتّغيير السّلمي داخل المجتمع، وتحاول بناء جسور ثقة تخفّف من حدّة الصّراع بين الأيديولوجيات المختلفة داخل الوطن. هذه الصّيروة ينبغي أن تكون غير مؤسّسة على الشعاراتية -حتى ولو كانت هذه الشعارات موحية- بل بآلية عمليّة تتناسب وتعقيد المجتمع تأخذ في الاعتبار تراكمات الفشل لأكثر من خمسة قرون مضت. لكنّ الأيديولوجيات تنحي بأصحابها وبالوطن منحى سلبيّا حين تلعب دور من يصبّ الزّيت على النار بين المتصارعين، دور من يبرّر الصّراع بتأويل وتحريف نصوص الخصم ونزعها من السّياقات التي من الممكن تأويل ما فيها لصالح الوطن. وأحيانا يكون أكثر سلبية حين تضرب أدبيات الصّراع في مقتل مثل ما حدث في مصر عند هرولة بعض الإسلاميّين «الأخوان»  و«جزء معين من السلفيين» وغيرهم في مراحل متعاقبة لتفريغ الفعل الثّوري ثمّ التّحالف مع أطراف أخرى من الليبراليين واليسارلمساندة العسكر في مرحلة تالية قصد الإطاحة بحاكم منتخب، والسبب الرّئيس أنّ له إيديولوجية مخالفة لإيديولوجياتهم، فكانوا بذلك مناقضين لأصول منهجهم في العمل السّياسي مشاركين في أكبر خيانة للعمل الحزبي بل حتى خيانة المثقفين منهم في العصر الحديث كما يقول عزمي بشارة. ممّا حول أيديولوجيات هؤلاء وهؤلاء إلى صكّ تجاري لضمان البقاء والاسترزاق السياسي ومناكفة الخصوم[3]. ومن المشاكل الكبرى أيضا أن يظنّ أي فريق مؤدلج أن أيديولوجيته شاملة بحيث يستقر في ضمائر أعضائه أنها أوسع من هويته، وأنّ من لا يتّبعها قاصر بشكل ما عن التفكير الكلي.
  الاستقطاب الايديولوجي 
للاستقطاب الأيديولوجي أهمّية قصوى في تشكيل الأحزاب لكنّه ينبغي أن لا يزيد عن قدر محدود مثله مثل الملح الذي يصلح به الطعام وزيادته عن هذا القدر تفسده، بل تفسد الحياة السياسيّة بأكملها.  فإذا كان الاستقطاب الأيديولوجي حادّا فإنّ ذلك يستتبع اختزالا في الأبعاد المعرفيّة بل والأخلاقيّة ويطغى على العقل طغيانا عظيما تعظم فيه المصلحة الشخصيّة على حساب مصلحة الوطن، بل ويساعد على تطييف المجتمع وربّما يؤدّي في النّهاية إلى تكوين هويّات جديدة داخل الوطن الواحد، وخصوصا في غياب آليّة تضبط عمليّة الانقسام المعرفي. يقول محمد الأسعد «عندما تبدأ في محاورة أيّ ايديولوجي عربي، فعليك قبل كلّ شيء أن تثبت له وجود العالم لأنّه غير وارد ضمن معطياته»، ولا شكّ أن عبارته محمّلة بأطنان من السّخرية اللاّذعة يدفعها الاختلاف الأيديولوجي نفسه، لكنّها أيضا لا تخلو من ظلال في الواقع. فالجماعات اليمينيّة واليساريّة التي تضخّمت أيديولوجيّا لم تكتسب تضخّما معرفيّا يضمن تحرّكها بلطف داخل المجتمع، وغالبا ما كان يتبع ذلك تخفيف الحمولة الثّقافية لتتلاءم سياسيّا في الظّاهر فقط. وكان من الممكن فعل ذلك بشئ من التّفكير والجهد دون طرح تنازلات في الحقل المعرفي. وكمثال على ذلك نكسة 1967 م حيث استباحت إسرائيل الجيش المصري في ستّ ساعات ممّا أسكن الهزيمة داخل الشّعب المصري خصوصا والأمّة العربية عموما، لكنّ المهمّ أنّ الإسلاميين نظروا للهزيمة على أنّها دليل على فشل الحمولة الايديولوجيّة الحداثيّة للنّظام الحاكم وقتها، بينما كان الرّاديكاليون العرب يستخلصون من الحرب النّتيجة المعاكسة. حكم العديد من المثقفين اليساريين يومها بأنّ هزيمة عبد الناصر كان سببها أنّه لم يكن راديكالياً واشتراكياً وثورياً بشكل كاف، وأنّ عدم القطع الكامل مع التّراث والتّقليد هو الذي أنتج النّظام الهجين وكانوا يعلنون أنّ النّظام صاحب واجهة حداثيّة وعقلية تقليديّة والذي لا يمكن أن يباري دولة غربيّة كاسرائيل في الفعالية والحرب والاقتصاد[4]
تطبيق عملي: ثورة مصر نموذجا
بدأت الثّورات العربيّة وخصوصا في مصر بأصوات الحناجر التي تنشد التّغيير ولا يستطيع أحد إنكار البعد الأخلاقي حينها مثل التّكتل لحماية الميادين والشّوارع بتشكيل لجان شعبيّة لحظة غياب الأمن من الشّارع، بل حفاظ الثّائرين أنفسهم لبعضهم البعض، بغض النّظر عن أيديولوجيتهم بل أكثر من ذلك بغض النّظر عن ديانتهم، حتّى رأينا مشهدا غاب من واقعنا العملي طويلا وهو مسيحي يصبّ الوضوء للمسلم ومسلمون يحافظون على الكنائس. لكنّ الذي حدث بعد ذلك يؤكّد حقيقة مفادها أنّ هذه الأشياء كلّها كانت عفويّة أكثر منها مركوزة في الضّمير الجمعي المستعدّ للتّضحية لأجلها مثلما قال بن تيميّة «أهل ذمتّنا قبل أهل ملّتنا» أو كما قال فولتير «قد أختلف معك في الرّأي ولكنّي مستعد أن أدفع حياتي ثمنا لحقكّ في التّعبير عن رأيك»، ما يؤكّد أنّ هذه الأخلاق ليست راسخة بالمجتمع، ذلك لأنّ هناك ثمّة ظواهر مرصودة بالفعل مثل وصول أزمة الأخلاق في المجتمع إلى أن يتقدّم الجار متبرّعا بالبلاغ «ليس بالظنّ الخطأ، لكن بتعمّد الكذب» عن جاره لدى جهات الأمن وهو يدري تماما أنّ وصول المواطن إلى أماكن الحجز هو بمثاية القضاء على الإنسانيّة قبل القضاء على الحياة داخل الإنسان، ممّا أسّس بالفعل لشروخ مجتمعيّة عميقة حتّى داخل الأسرة الواحدة تتطلّب عقودا لكي تلتئم.
أدوات الاحتمال تخفّف حدّة الصّراع
لا يوجد فكر بشريّ خالص بعيد عن النّقد واستكشاف المناطق المظلمة فيه والتي تمثّل عجزه عن الإحاطة بالكليات حتى ولو كان هذا الفكر نفسه يستمدّ مادّته الفكريّة من الوحي، لكن وعلى الجانب الآخر لا يوجد فكر بشري خالص إلاّ وفيه مناطق مضيئة تمثّل عمق عمل المنطق حتى ولو كان هذا الفكر نفسه يستمدّ مادّته الفكرية من جحد الماورائيّات والإيمان بالطّبيعة والطّبيعة فقط. وأظنّ أنّنا في وطننا العربي نعرف ذلك نظريّا بشكل جيّد في حين نسقط سقوطا أخلاقيّا مزريا حين تطبيقه عمليّا، فمثلا أجادت الماركسيّة جدّا في نقد الدّولة الحديثة المبنيّة على تسلّط رأس المال، حتى أنّنا نرى تبادل المواقع في جزئيّات فرعيّة بين الفكر اللّيبرالي والفكر اليساري، فكثيرا ما كان يتبنّى أحد الفريقين حلاّ من صندوق الآخر، في حين يرفض الإسلاميّون مثلا الفكر الماركسي جملة وتفصيلا فلا يطالعوا نجاحاته الجزئيّة كآداة تفكيكيّة في مجالات عدّة والعجيب أنّه من أدبياتهم وثقافتهم «أنّ الحكمة ضالّة المؤمن أنّى وجدها فهو أحقّ النّاس بها»، وأيضا «قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصّواب»، وعلى الجانب الأخلاقي القيمي «أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما». 
الهوامش
[1] طه عبد الرحمن، «الحق العربي في الاختلاف الفلسفي» ط. 2 ص: 68 - المركز الثقافي العربي  الدار البيضاء المغرب 2006.
[2]  انظر فيما تقدّم: ميكافيلي ، لوبس غوتبيه-فينيال، ترجمة: صلاح الدين برمدا ، ص9-99 . 
[3]  إبراهيم أمهال، مقال بعنوان « في نقد الثقافة السياسية، الثقافة والإيديولوجيا والأخلاق»، جريدة هيسبرس الإلكترونية، على الرابط:
  www.hespress.com/writers/323321.html
[4] صادق جلال العظم «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، دمشق - سوريا، (2007 ).