الأولى

بقلم
فيصل العش
الفنّ رسالة
 بدأنا الحديث منذ مدّة غير قصيرة (1) عن المسألة الثّقافية وأهمّيتها في معالجة واقع التّخلف والتّبعيّة الذي تعيشه الأمّة، وأبرزنا ضرورة القيام بإصلاح ثقافيّ هدفه تغيير عميق وبنّاء في اتّجاه تحريرها من ثقافة التّواكل واللّهو والانحطاط وتوجيهها إلى ثقافة العمل والجدّ والارتقاء. ولقد قادنا البحث في الإصلاح الثّقافي المنشود إلى استخراج أهمّ الخصائص التي نريدها في الثّقافة المرجوّة وطبيعة العنصر البشري الذي سيقوم بتنفيذ عمليّة الإصلاح بعد أن كشفنا واقع المثقّفين العرب وأمراضهم التي لا تحصى ولا تعدّ. ثمّ تحدّثنا عن الجماهير بصفتها العنصر الذي يقع عليه فعل التّغيير/الإصلاح من ناحية وبصفتها مشاركا أساسيّا في صنع هذا التّغيير من ناحية أخرى. وتطرقنا في حديثنا عن المجال والوسائل المعتمدة إلى أهميّة الصّورة والتّلفاز وكيفيّة الاستفادة من مخرجات الثّورة الرّقمية الحديثة حتّى يكون الإصلاح إبن عصره كما تطرقنا إلى مسألة مأسسة المجال باعتبارها أحد ركائز الإصلاح النّاجح. وسنحاول أن نغلق هذا الملف بالحديث في هذا المقال عن التّعبيرات والمجالات الثّقافيّة التّقليديّة والمتمثّلة في الفنون، سواء كانت تشكيليّة مثل الرّسم والخطّ والتّصميم والنّحت أو صوتيّة كالموسيقى والغناء والشّعر والحكايات أو حركيّة كالرّقص أو صوتيّة وحركيّة معا كالمسرح وهي تعبيرات ثقافيّة لها تاريخ موغل في القدم ولها دور كبير في التّعبير عن ثقافة الشّعوب والتّأثير فيها سلبا أو إيجابا والارتقاء بالحسّ الإنساني أو الهبوط به حسب توظيفها.
الفنّ رسالة
إنّ دور الفنون لايقلّ أهمّية عن بقية العوامل المؤثرة في ثقافة المجتمعات بل ربّما كان أهمّها لما لها من ارتباط بوجدان الإنسان وسلوكه.
فالفنون بمختلف أنواعها أنشطة إبداعيّة تهدف إلى تحقيق غايات كليّة كالجمال والخير والمنفعة، وتفتح آفاقا رحبة للتّعامل الإيجابي مع المحيط بصفة خاصّة والكون بصفة عامّة. فهي حالات ملهمة تؤثّر بعمق في النّفس الإنسانيّة وتساعد على خلق توازنها النّفسي والوجداني والاجتماعي، فمن خلال الفنون يعبّر الإنسان عن ذاته، وعن رأيه وإحساسه ويتطهّر من المشاعر والأحاسيس المكبوتة المترسّبة في نفسه، ويسهم في تحقيق شخصيّته المتكاملة في أبعادها المختلفة: العقل والتّفكير، الرّوح والقلب والإحساس، الإرادة والإبداع! 
إنّ الأعمال الفنيّة ليست مجرّد منتوجات مادّية جميلة فحسب بل هي أيضا حاملة لرسالة إنسانيّة نبيلة تهدف إلى السّمو بالإنسان والرّقي بأحاسيسه تجاه الحبّ والخير والجمال، وهي كذلك في إحدى وجوهها رسالة حرّية تفضح ما في الواقع من قهر وتعدٍّ على الإنسان. فالمشهد التّمثيلي أو معزوفة الموسيقى أو قطعة النّحت التي لا تساهم في تربية المشاعر والتّسامي بالحسّ لدى المتلقّى والفنّان في آن وإيقاظ العواطف الأخلاقيّة فيهما لا خير يرجى منها ولا إصلاح. يجب أن يكون العمل الفنّي كما يقول سقراط «خدمة الأخلاق والجمال»، ويجب أن يؤدّي إلى «الخير لا إلى اللذّة الحسّيّة فحسب».
وللفنّ تأثيرٌ حضاريّ على سلوك الأفراد والمجتمع سواء كانوا ممارسين له أو متذوّقين، من خلال دوره الكبير في التّربية السّلوكيّة والجماليّة لمختلف الفئات الاجتماعيّة حتّى تكتسب القدرة على تقدير الجمال واستحسانه ورفض القبح والفوضى. 
إنّ الفنّ في جوهره عون على ترقية الذّوق الإنساني وتهذيبه وهو أداة للارتقاء بملكات وطاقات وغرائز الإنسان وأخلاقه. يقول الأديب الرّوسي بلنسكي(2)«إنّ الجمال شقيق الأخلاق، فإذا كان عمل فنّي ما فنيّا حقيقة فهو أخلاقيّ بنفس المعنى.. فإنّ الصور الفنيّة الإيجابيّة التي تعكس حياة النّاس ونبلها وجمالها تفرض الاحترام والحبّ والإعجاب المخلص، وتعطي أنماطَ الأبطال الحقيقيّين في الحياة للقارئ والمتفرّج متعة وبهجة جماليتين.أمّا الصّور السّلبيّة فإنّها تثير مشاعر الاستنكار الأخلاقي والاحتقار التي ترتبط ارتباطا وثيقا في طابعها بمشاعر الازدراء والاحتقار التي نحسّها عندما ندرك ما هو قبيح ودنيء. ومن ثمّ فإنّ وحدة الجمالي والأخلاقي هي أساس الدّور التّربوي ودور التّحويل الايديولوجي اللّذين تقوم بهما الفنون في الحياة الاجتماعيّة»(3). 
والفنّان هو كائن مبدع يمتلــك الحسّ الجمالي والإبداعي تجاه الأشياء، ولأنّه إبن المجتمع فهو يعكس الواقع في صور أكثر جمالا ممّا يراه الشّخص العادي، ينتجها وفق منظوره الخاصّ في أشكال متعدّدة حسب الموهبة التي يمتلكها. ونتيجة لقدرته الإبداعيّة ومواهبه يستطيع أن يستقطب النّاس ويصبح محطّ أنظارهم ويجلب حبّهم فيتحوّل إلى قدوة لهم ممّا يجعله قادرا على إحداث تأثير إيجابيّ فيهم، فينقلهم من واقع سلبي إلى واقع إيجابي. ولعلّ رساماً أو موسيقارا أو ممثّلا يؤثّر في النّاس أكثر ممّا يؤثّر غيره في أيّ مجال آخر. وهو ما يعطي للفنّ والفنّانين بمختلف اختصاصاتهم مكانة مرموقة في سلّم المؤثّرين سلبا أو إيجابا في ثقافة الشّعوب وإرتقاء الوعي الجماعي فيها.
أعطني مسرحا أعطيك شعبا عظيما 
فالمسرح مثلا وهو أبو الفنون كما يقال، له قدرة كبيرة على الارتقاء بوعي الإنسان والسّمو بروحه وإخراجه من بوتقة «الحيوانيّة» إلى رحاب «الأنسنة» ومن الجهل إلى العلم ومن الاستكانة إلى الإيمان بالقدرة والإبداع. لهذا كانت عبارة «أعطني مسرحا أعطيك شعبا عظيما» من أشهر ما قيل في فنّ المسرح تقريبا، عبارة تدلّ دلالة واضحة على أهمّيته للمجتمعات منذ القدم وأثره التّنموي فيها. وفي المسرح وحده «تجتمع الأمّة؛ ويتكوّن فكر الشّباب وذوقه، لا مكان فيه لحكمة ضارّة ولا تعبير عن أية أحاسيس جديرة بالتقدير إلاّ وكان مصحوبا بالتّصفيق، إنّه مدرسة دائمة لتعلّم الفضيلة» على رأي «فولتير». ولهذا يحتلّ المسرح عند الدول المتقدّمة مرتبة مهمّة في الحياة اليوميّة بحكم مساهمته الفعّالة في تنفيذ الخطط التّربوية والأخلاقية وحتّى الأمنية والسّياسية وهو أحد أهمّ الوسائل التي ترقى بالمتلقّي (الجمهور) وتساعد على ترسيخ هويته. ويسعى المسرح إلى توفير حلول لمشكلات المجتمع وبثّ روح المقاومة فيه، ونلمس ذلك مثلا في المسرح الملحمي لـ«بريشت»(4). فالمتأمل في فكر بريشت يلمس ذلك النّزوع الملفت إلى خلق التّوتر العالي، لدى المتلقّي والتّأثير فيه إيجابا، من أجل إقناعه بجدوى الفعل والسّعي إلى تكريسه في أفق خلق شروط التّغيير، الذي يحفظ للإنسان كرامته ووجوده. يقول بريشت: «المسرح، مدرسة لتنوير المجتمع، وصقل الوعي الإنساني، وتربيته»(5)
الموسيقى تمرّ قبل السياسة 
وللموسيقى تأثير عجيب على البشر ورسالتها ترقية السّلوك الإنساني والارتقاء بعواطف السّامعين والسّامعات وإعانتهم على تذوّق نعم الله في كونه والكشف عن آيات الجمال في إبداعه، بالإضافة إلى التّرويح عن النّفس وترويضها فتزيح عنها الغلظة والخشونة حتّى تميل إلى الحبّ بعيدا عن الكره والحقد الأعمى وتتّجه إلى السّلام بدل الصّراع والتّناحر وهو ما تفطّن إليه الإمام الغزالي إذ قال «..ومن لم يحرّكه الرّبيع وأزهاره والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج...ومن لم يحرّكه السّماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال بعيد عن الرّوحانيّة، زائد في غلظ الطّبع»(6)
 ولأهمّية الموسيقى وقوّة تأثيرها قال نابليون لجنوده عندما تخطّى بيتهوفن الطّريق أمام موكبه العسكري بعد أن أتلف بالحرق سنفونيته : « دعوه يمرّ. الموسيقا تمرّ قبل السّياسة». ولنا في موسيقى الفارابي حجّة، فقد عزف وهو في مجلس سيف الدّولة مرّة فضحك كلّ من فيه ثمّ عزف كرّة أخرى فبكى الجميع ثمّ عزف كرّة ثالثة فناموا..» (7)
الشّعب الذي لا يعرف الرّقص 
والغناء لا يستطيع أن يقاوم 
أمّا الرّقص فهو فنّ له مجالات تأثيره وموقعه المتميّز في ثقافة الشّعوب في كلّ أصقاع الدّنيا وهو تعبير جسدّي ونمط من أنماط السّلوك الشّعبي الذي يرتبط عادة بالعادات الإنسانيّة الجماعيّة التي تميّز الشّعوب. ويعبّر هذا الفنّ بأسلوب إبداعي راق عن هويّة الشّعب وينمّي فيه مشاعر الانتماء والعزّة والحرّية. ولهذا سمح الرّسول محمد صلّى الله عليه وسلّم برقص الأحباش في المسجد ونهى عمر عن منعهم بل دعا عائشة أمّ المؤمنين لتشاهد ذلك (8) وكان «هو شى منه» زعيم الثّورة الفيتناميّة يقول: الشّعب الذي لا يستطيع الغناء والرّقص لا يستطيع أن يقاوم».
الفنّ في الواقع العربي
 أمّا في الدّول العربيّة الإسلاميّة وخاصّة في الفترة الرّاهنة فقد تمّ - وللأسف- توظيف هذه الفنون بطريقة أفقدتها معانيها الجميلة السّامية وأبعدتها عن رسالتها في تهذيب الأنفس وتنوير العقول بالرّغم من كثرة المسرحيّين والموسيقيّين والرّسّامين الماهرين، فلماذا لم تتحقق رسالة الفنّ فينا؟
الجواب على هذا السّؤال لا يتطلّب تفكيرا عميقا بل نظرة سريعة لما يقدّمه الفنّانون السّالف ذكرهم:
- هناك من يؤمن بأنّ الفنّ والإبداع هو لغة الفنّان وهو رسالة خاصّة وتعبير ذاتي، الهدف منه خلق توازن في شخص الفنّان لا غير.
- هناك من يذهب إلى اعتبار الفنّ وسيلة لتوصيف الواقع كما هو ولكن بطريقة تستقطب المتلقّي وتجذبه، وبالتّالي فليس من مهمّة الفنّان البحث عن حلول لمشاكل المجتمع بقدر فضح ما فيه. ومنهم من يرى أنّ الإبداع الفنّي لا يتحقّق إلاّ عبر الخروج والتّمرّد عن السّائد والمألوف مع الجرأة في تناول بعض المواضيع الاجتماعيّة السّائدة والمسكوت عنها بطريقة استفزازيّة تخالف أخلاقيّات المجتمع، وعادة ما يتناول هؤلاء مواضيع الجنس والعلاقات الاجتماعيّة بطريقة هابطة ولغة سوقيّة، معتبرين ذلك من صميم العمل الإبداعي والفنّي.
- هناك من يهدف من وراء إبداعه خدمة الايديولوجيّة التي يتبنّاها أو محاربة أخرى يراها خطرا على فنّه وعلى المجتمع. ومن هؤلاء المبهورون بالثّقافة الغربيّة الذين يعتقدون أنّ مهمّتهم الفنيّة تكمن في لستنساخ ما يرونه جوانب مضيئة في تلك الثّقافة فيلجؤون إلى الاستهزاء بتراثهم ويسقطون عن سوء نيّة أو عن حسنها في استفزاز المشاعر العامّة وبالتّالي يخلقون نوعا من الحواجز بينهم وبين المجتمع، فلا يستطيعون التّأثير فيه.
- هناك نوع آخر وهو الأخطر على الإطلاق ويتكون من موسيقيّين ومسرحيّين وسينيمائيّن ورسّامين هم أقرب إلى السّمسرة من الفنّ والإبداع. يهيمن هؤلاء بطرق مختلفة على الميدان الفنّي ولا ينتجون إلّا ما يدرّ المال الوفير والرّبح السّريع حتّى وإن كان على حساب الذّوق العام والأخلاق والتّقاليد. أحسن هؤلاء استغلال واقع الانحطاط والتخلّف المهيمن على المجتمع وسوّقوا أشكالا من الفنّ الهابط محوّلين الفنّ إلى وسيلة لمخاطبة الشّهوات والغرائز بصورة مقزّزة في بعض الأحيان، رافعين شعار «ما يريده الجمهور» و«حقّ النّاس في اللّهو والمتعة والتّرويح عن النّفس». 
البديل 
إذا كان الفشل هو ما وصل إليه هؤلاء المثقّفون فكيف السّبيل إلى الاستفادة من هذه الفنون وهذه التعبيرات لتحقيق الإصلاح الثّقافي المنشود؟ وأين المثقّف المصلح من كلّ هذا؟ هل تتمثّل مهمّته في مقاومة هذا النّوع من الفنّانين ومحاربة هذا النّمط الفنّي؟ أم هو مطالب بابتداع أشكال فنّية بديلة لا علاقة لها بالأشكال المهمينة على السّاحة حاليّا؟ 
 منذ مدّة غير بعيدة حاول بعض المناضلين في السّاحة الثّقافيّة التّصدّي لهذا الموضوع، فابتدعوا ما أطلقوا عليه «الفنّ البديل» أو «الفنّ الملتزم» أو «الفنّ المقاوم» وقد نجح بعضهم في تحقيق اختراق  مهمّ في ساحة يهمين عليها الابتذال والزّبونية (9) لكنّه اختراق غير كاف بالمرّة سواء من حيث الكمّ أومن حيث الكيف. ويعود سبب ذلك إلى عدّة عوامل أهمّها:
- الأول الانطلاق من مسلّمة فساد السّاحة الفنّية واعتبار ما فيها فنّا هابطا وأنّ الالتزام لا يعني إلآّ ممارسة الفنّ من أجل مواضيع معيّنة كالقضيّة الفلسطينيّة والحرّية ومقارعة الأنظمة السياسيّة، ولهذا لم يشمل الاستقطاب إلاّ من كان له اهتمام بهذه القضايا وهم قلّة في هذا الزّمن.
 - الثاني اعتماد الفنّ كوسيلة للتّغيير الفوري وأداة لإبلاغ موقف، لهذا كان التّركيز في أغلب الحالات على المضمون (النّصّ بالنّسبة للمسرح والكلمات بالنّسبة للأغنيّة) وإهمال المكوّنات الأخرى للعمل الفنّي. 
- الثالث غياب الدّعم المعنوي والمادّي لحاملي لواء هذا النّوع من الفنون، سواء من طرف المستثمرين في المجال الثّقافي أو وسائل الإعلام بجميع أنواعها. فالمستثمرون يرفضون تقديم الدّعم لما يسمّى بالفنون البديلة او الملتزمة لضعف الثّمار المادّية التي يمكن جنيها بحكم أنّ السّوق تحكمها رغبات الجماهير وأصحاب النّفوذ، أمّا وسائل الإعلام فهي من جهة تبحث عن استقطاب المستمعين والمشاهدين ومن جهة أخرى تقوم بمهامها في خدمة الأطراف التي تموّلها والتي لا ترغب في تغيير المشهد الثّقافي والفنّي مادام الموجود يخدم مصالحها.
 إذن كيف السّبيل إلى اكتساح السّاحة الفنّية؟ والعراقيل تحيط بكلّ محاولة تغيير كما يحيط حبل المشنقة برقبة المحكوم بالإعدام؟
 الحلّ في تقديرنا في تغيير الفنّان المصلح لسلاحه وخطط معاركه الفنّية، وسأحاول في ما تبقّى من مجال أن أقدّم بعض المقترحات للاستفادة منها ونقدها وتطويرها:
أ) على المثقف المصلح (الفنّان) وهو يبدع عملا فنّيا ما أن لا يهدف به تغييرا فوريّا وراهنا للواقع، بل عليه أن يجعل من إبداعه وسيلة معرفيّة توسّع أفق المتلقّي وتزيد في معارفه، ووسيلة جماليّة توقد في ذهنه قابليّة للذّوق والتذوّق مختلفة ومناقضة للقيم التي يسوّق لها الفنّ والإعلام السّائدين.
ب) عليه أن ينطلق من قناعة مفادها أن لا وجود لمتعة مجانيّة في الفنّ، متعة بلا موضوع وبلا قصد وبلا أفق وبلا سياق تُحترم فيه الكرامة والذوق الرّفيع، وكذلك لا وجود لفنّ حقيقي بدون وجود متعة فنّية أقلّها المتعة المادّية الحسّية، وأعظمها المتعة الوجدانيّة والعقليّة. وهو مطالب بعدم إهمال أيّ منها. 
ت) عليه أن يميّز بين القيود والقواعد، فيرفض القيود ويتمسّك بالقواعد. فالحرّية هي الشّرط الأساسي الذي يجب أن يتوفّر في الفنّان المصلح، حريّة من كلّ القيود التي لا دور لها سوى إعاقة العطاء الفنّي وتكبيل الإبداع. أمّا القواعد فهي الأسس التي يقوم عليها الفنّ. فكلّ عمل فنّي له قواعده وأصوله، وله قانونه وهندسته وحدوده، وبغير الانضباط للقواعد والاجتهاد من داخلها، فإنّ العمل الفنّي مهما كان نوعه يتحوّل إلى مجرّد فوضى وتيه وهلوسة.
ث) عليه أن لا يكون في إبداعه معاديا للأخلاق لأنّها جوهر الفنّ وروحه باعتبارها جماليّات رمزيّة ومعنوية. أمّا اللاأخلاق فهي القبح في أعظم تجلياته، والأصل أنّ الفنّ معادٍ لكلّ أنواع القبح.
عليه أن لا يستسلم في عمله الفنّي إلى الجانب الحسّي من مشاعره بصفة مطلقة إلى درجة الميوعة والانحلال فلا ذوق حينئذ ولا فنّ. ولا يكون صاحب نزعة عقلانيّة مطلقة فيستسلم للجانب المجرد من مشاعره، قسوة، وجفاءًا في العدالة حتّى لا عدالة ولا أخلاق.
ج) عليه وهو يحاول إعادة الاعتبار للوظائف الرّسالية للفنّ مقابل وظيفة التّرفيه ويوازن بينهما (10)، أن يهتمّ بالبناء عبر إنتاج إبداعات جديدة تستهوي الجماهير وتشبع حاجاتها النّفسية والوجدانيّة ولا يجعل همّه نقد الآخرين ومحاولة هدم ما ينتجون حتّى وإن كان إنتاجهم مبتذلا وبلا معنى، فذلك أمر تتكفل به الأيام طال الزّمن أم قصر. 
 ح) إنّه مطالب بتوسيع دائرة مجاله فلا يقتصر على مواضيع بعينها منطلقا من الإيمان بأنّ كلّ المواضيع المتعلّقة بالحياة هي إلتزام بشرط توفّر الجودة المطلوبة في العمل.
خ) عليه أن لا يكون منبتّا عن واقعه وتراث أمّته، ولهذا فهو مطالب بالبحث عن مفاهيمه وألوانه الفنّية الجديدة من داخل الثّقافة العربيّة الإسلاميّة وليس من خارجها، وماعليه إلاّ البحث والتّنقيب في تراثها بعيون معاصرة لاستجلاء جوانبها المضيئة وإبرازها فسيكتشف أنّ أهمّ ميزات هذه الثّقافة، خاصّة في فترة إزدهار الأمّة تحرّرها سياسيا واجتماعيا ودينيا، وتسامحها مع المبدعين الذين يعتمدون في إبداعهم على إيحاءات ورموز وإشارات واستعارات بليغة في غاية الجمال، مادام الجمال هو المعيار الرّئيسي للفن، وما وجود أبي نواس بشعره الماجن، ووجود أبي العلاء المعري بجرأته الفكرية، ووجود ابن حزم بكتابته عن الحب والمحبّين إلاّ دليل واضح على ذلك. 
د) عليه أن يؤمن بأن الإبداع هو نتيجة لتراكم تجاربه وتجارب الآخرين، فلا أحد يستطيع أن يأتي بكل شيء من عنده، فالأعمال الفنيّة الناجحة هي التي تأخذ بعين الاعتبار التّجارب السّابقة، والفنّان النّاجح المؤثّر هو الذي يحترم من سبقه إلى الميدان حتّى وإن كان منتميا إلى مدرسة فنّية مختلفة، فهو لامحالة صاحب فضل عليه لأنّه أثّر فيه بطريقة ما.
ذ) عليه أن يكون متواضعا ومؤمنا بأن فعل الإبداع لا يبدأ من فراغ، وأن الواقع الذي يعيش فيه والطبيعة التي تحيط به هما شريكان له في عمله وإبداعه فالواقع الموجود هو الذي يعطيه الصور والمشاهد التي يستلهم منها إنتاجه، والطبيعة هي التي تعطيه الأوزان والأنغام وتعطيه الألوان والظلال، وتعطيه الصوت والصدى. 
الخاتمة 
إن الاهتمام بالفنون ودعمها شرط من الشروط الأساسيّة للنجاح في مهام إعداد مواطن متكامل الشّخصية، مهذّب النّفس، مستجيبا لغرائزه بطريقة متوازنة له ذوق رفيع وإحساس بالجمال يحقّق له إنسانيته ويفتح له آفاق العمل والإبداع والتّعايش والسّلام. وعليه فإنّ انتشار الفنّ ووجود عدد كبير من الفنّانين أمر حيويّ لتحقيق الإصلاح الثّقافي المنشود لأنّه سيساهم في ارتفاع المحصول الفنّي والإبداعي للمجتمع ويخلق نوعا من الاستقرار النّفسي والوجداني للجماهير، فيفتح بذلك الطّريق أمام بقيّة «المصلحين» في الميادين الحيويّة الأخرى لتنفيذ مهامهم في أحسن الظّروف.
الهوامش
(1) من العدد 104من مجلّة الإصلاح إلى العدد 115
(2) فيساريون جريجوريفيتش بلنسكي (1811 - 1848) (belinsky) ناقد أدبي وعالم جمال روسي.
(3) الموسوعة الفلسفية السوفيتيّة، مادة الجمالي والاخلاقي، ترجمة سمير كرم ط، بيروت 1974م
(4) برتولت بريشت Bertolt Brecht أ(1898– 1956) شاعر وكاتب ومخرج مسرحي ألماني. 
(5) عدنان رشيد، مسرح برشت، دار النهضة العربية، بيروت، بدون طبعة، 1988، ص85
(6) أبو حامد الغزالي، احياء علوم الدين، ض1131، 1132
(7) ذكرها الدكتور سالم العيادي في كتابه «سياسة الحقيقة في فلسفة الفارابي، الميتافيزيقيا والموسيقا»، مكتبة علاء الدّين صفاقس 2016 - ص 237
(8) أنظر إلى صحيح البخاري ص 123 كتاب الصلاة باب أصحاب الحراب في المسجد ،  و الجزء  4 ص 225 كتاب المناقب باب قصة الحبش. 
(9) نذكر على سبيل المثال نجاح الموسيقار مرسيل خليفة والثنائي المرحوم الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وفرقة البحث الموسيقي وأولاد المناجم وفرقة العاشقين في مجال الموسيقى والغناء كما نذكر الأعمال المسرحيّة لفرقة قفصة (تونس).
(10) من رسائل الفنّ الترفيه بإزالة الهمّ والغمّ عن الإنسان ومنحه لحظة من المتعة والبهجة والسّرور.