قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
هوية أو لا تكون
 يكتسب موضوع الهوية مشروعيته من سؤال من نحن؟ وهذا السؤال ظلّ مهيمنا على وجدان النّخبة منذ عقود وإن اقترن في الغالب بمقاربة إشكاليات أخرى ذات صلة ومن أهمّها إشكالية التّخلف أو التّساؤل الحارق لماذا تخلّفنا وتقدّم الآخرون ؟ وما السّبيل لانبعاث الأمّة من جديد؟. 
مع سؤال الهوية وما يحيل عليه من أسئلة مهمّة، نلاحظ أنّ القضيّة الرّئيسيّة لا تعدو أن تكون واحدة لا تتبدّل ، كيف نعيد إنتاج منظومة القيم التي تسمح لنا باللّحاق بالمجتمعات المتقدّمة حضاريّا من دون أن نفقد هويّتنا الحقيقية أو نذوب كلّيا في هويّات الآخرين؟ وما مقومات الهويّة ؟ هل هي اللّغة أم هي الدّين أم هي التّراث الحضاري أم هي التّاريخ الغابر أم هي كلّ ذلك ؟ 
لن نتصدّى في هذا المقال لسؤال الهويّة و إن كان التّصدي له يزداد أهمّية مع كلّ أزمة أو منعطف تمرّ به الأمّة أو أي قطر من أقطارها. كما أنّنا لن نقارب أسباب التّخلف الحضاري الذي نعانيه ولا سبل استنهاض الأمّة للعودة من جديد، لأنّ هذا الأمر يحتاج منّا إلى ما لا يسعه مقال صغير، ولكنّنا فى المقابل نريد أن نلقي حجرا في المياه الرّاكدة علّنا نستنهض همّة الباحثين للبحث في سؤال الهويّة ضمن نطاق جديد هو نطاق الثّقافة بما هي تعبير إبداعي عن تجلّيات السّؤال في النّفوس وبما هي مدار للصّراع القادم حيث نخشي أن ننتقل من تلاقح الثّقافات إلى صراعها وحيث يتّخذ الصّراع حول النّفوذ أشكالا ثقافيّة جديدة قد لا تستطيع شعوبنا الضّعيفة مقاومتها فنسقط بالتّالي في دائرة الاستلاب الحضاري من جديد ولكن بأدوات أكثر نجاعة لا نستطيع إزاءها إلاّ الخضوع.
يستطيع السّلاح أن يخضع شعبا ولكنه لا يستطيع ضمان ديمومة الخضوع إلاّ أنّ الثقافة حين تتحوّل إلى سلاح تستطيع ذلك. نحن عرب ومسلمون هكذا هو الأمر في معظم أقطار الوطن العربي وحتّى تلك التي تحوي أقليات غير مسلمة لا تختلف حول اللّغة العربيّة لتلك الأقليات ومصر ولبنان مثالان على ما نقول. إن هذا ا يبدو بديهيا ومسلّما به في الغالب غير أنّ الأمر تحوّل إلى سجال عميق وحاد حين تعلّق الشّأن بكتابة دستور جديد للجمهوريّة التونسية أو للجمهوريّة المصريّة، ففي حينه عاد التّساؤل من جديد حول التّكييف القانوني لمسألة الهويّة في الفصل الأول من الدّستور ليتّضح لنا أنّ الصّراع حول هذا الفصل لم يكن سياسيّا فحسب وإنما كان صراعا ثقافيّا بالأساس خاضه كلّ طرف انطلاقا من هويته الثّقافية وعلى أساس منها رغم أنّ الذين خاضوا هذا الصّراع كانوا في الواقع من السّياسيين .
تزداد المسألة أهمّية وتعقيدا حين نعتقد أنّنا تجاوزنا اشكاليّة الفصل الأول من الدّستور في بلد مثل تونس وأنّنا قد توصّلنا إلى صيغة تؤكّد أن تونس بلد لغته العربيّة ودينه الإسلام ولا مجال للاختلاف حول ذلك، لكأنّنا بهذا الحسم قد قطعنا دابر كلّ صراع ولكن هيهات، فمع انتصار الثّورة عاد الحلم إلى النّفوس من جديد بأن تكون اللّغة العربيّة لا  لغة رسميّة للدّولة فقط ولا لغة جامعة لكلّ النّاس باعتبارهم جميعا من العرب  وإنما يعاد الإعتبار للعربيّة كوعاء فيه يصهر كلّ شئ بدءا من العلوم وصولا إلى كلّ المادّة الثّقافية أي أن تتخذ اللّغة أهميتها الحقيقيّة في كونها أداة التّعبير الوحيدة لكلّ الأشكال المعرفيّة والثقافية والإبداعية .
لا أثر لهذا الحلم الآن سوى أنّ العربية بقيت اللّغة الرّسمية للدّولة أو أنّها تُدرّس في المدارس والمعاهد والكليات دون أن يكون لها شرف السّبق والتبجيل، بل إننا نستطيع أن نؤكد أن هجمة شرسة تستهدف هذه اللّغة من كلّ الجهات تتجلّى خاصّة في إلغاء فكرة التّعريب نهائيّا وفي المحاولات المتكرّرة للتّحقير من شأنها وإظهارها لغة عاجزة عن استيعاب العلوم الحديثة أو منافسة بقية اللّغات في هذا الإطار. ولم تبذل  الدّولة بشخوصها ورمزيتها أيّ جهد يذكر في النّهوض بلغة البلد حيث لا أثر للإهتمام باللّغة العربيّة في المستقبل المنظور أو البعيد ولا شيء يدلّ على أنّ الدّولة بصدد ترجمة الفصل الأول من الدستور إلى مشروع يعلي من شأن اللّغة العربيّة أو يعطيها الاهتمام الذي تستحقّه من دوائر القرار، بل إنّ الحديث لا يجري إلاّ عن ضرورة دعم اللّغة الفرنسيّة باعتبارها لغة العلم والحضارة وإعطائها مزيدا من الأهمّية هي واللغة الأنقليزية كونها لغة المستقبل في العالم، كلّ ذلك بذريعة أنّ التّفاعل مع العالم الخارجي يقتضي إعطاء الأهمّية القصوى للّغات التي يتحدث بها هذا العالم ويدير بها شأنه وأننا مضطرّون لذلك طالما أنّنا نقع ضمن دائرة الهيمنة الحضاريّة لمنظومات دوليّة نحن ضعفاء إزاءها ولا مجال حينئذ من الدّخول في بوتقتها كلّيا.
لقد بذل الاستعمار قديما وحديثا جهدا رهيبا من أجل تكريس لغته كلغة متداولة على أوسع نطاق وفي شتي المجالات، ولئن فشل هذا الاستعمار في جعلنا فرنسيّين إلاّ أنّه نجح في جعل اللّغة الفرنسيّة قريبة إلى وجداننا لصيقة بنا نتشرف بها منذ نعومة الأظافر، وهو نجح كذلك أيّما نجاح في إنتاج نخبة تسير في ركابه تسلّمت من بعده مقاليد البلاد فكانت وبالا على هويّتها جميعا وعلى لغتها العربيّة خاصّة. لقد فقدنا لغتنا بفعل هذا الاستهداف فقدانا غير يسير بما أنّها صارت قاصرة على بعض المواد الدراسيبة في التّعليم وعلى معاملات الإدارة وأصبحت نخبتنا أميل إلى لغات الغرب منها إلى لغة الأجداد ولولا موجات من المقاومة الصّامدة لما بقي لنا من لغتنا شيء.
فشلت الثّورة في إعادة الاعتبار للّغة العربيّة وتجليات هذا الفشل أكثر من أن تحصى ويكفي في هذا السّياق أن نشير إلى أنّ جميع الأحزاب الحاكمة لم تتحدث في برامجها عن أيّ خطط تتعلّق باللّغة العربيّة. ليس هذا فحسب بل إنّ شيئا ما يدبّر لهذه اللّغة ويكفي في هذا السّياق الإشارة إلى أنّ معظم  وسائل الإعلام وخاصّة الإذاعيّة منها تعمل على تكريس اللّغة الفرنسيّة لغة للخطاب بشكل مقرف مع عامّية مبتذلة لا تخلو من سوقيّة وكأنّ الهدف من ذلك تنفير النّاس من لغتهم الغرّاء وإجبارهم على تحقيرها وتركها نهائيّا والقطع مع أحلامهم في إعادة الاعتبارلها. 
إذا كان سؤال الهويّة يستدعي وجوبا التّساؤل عن اللّغة بما هي عنصر من عناصر هذه الهويّة وبما هي وعاء للفعل الحضاري فإنّنا سنجد من الواجب التّمادي أكثر في التّساؤل عن مستقبلنا نحن كأفراد وكشعوب في ظلّ هذا الإستهداف الممنهج لمقوم من أهم مقومات هويتنا الحضارية وهو لغتنا العربيّة.هل نستطيع أن ننشئ سياقا حضاريّا إستئنافيّا من خارج لغتنا العربيّة؟ هل نستطيع الحفاظ علي عنوان الهويّة الثّاني أي الإسلام وأن نحميه من الضّياع ونحن ننفصل لغويّا وحضاريّا عن لغة القرآن؟ وهل تظلّ بلاد العرب أوطاني من «بيروت» إلى «تطوان» إذا زهدت هذه البلاد في لغتها وأحالتها إلي الضّياع والاندثار؟  اللغة هويّة أو لا تكون.