بهدوء

بقلم
عبدالمجيد بن ابراهيم
من نقد القياس الى «علم المقاصد»
 اخترنا في هذا المقال تناول قضيّة هامّة وشائكة تتعلّق بالأصول وهي كيفية التخلّص من قيود المعقوليّة القياسيّة والاتجاه الى «علم المقاصد» وكان العنوان بهذا الشّكل «من نقد القيــاس الى علم المقاصد»                                                                   فأين هي الإخلالات في القياس؟ وماهي ملامح «علم المقاصد»
(1) نقد القياس
المنظومة الأصوليّة الفقهيّة التي قنّنها الإمام محمد ابن إدريس الشّافعي(توفي 204هـ/819م) هي منظومة تعليليّة قائمة على التّعليل. إنّ هذا الأخير يعني أساسا القياس.  فالشّافعي وضع أربع فئات أصوليّة: الثلاث الأوائل تعود الى النّص أي يسمّيها الفقهاء نصوصا وهي الكتاب والسّنة النّبوية والإجماع والدّليل الرّابع هو القياس الذي يسمّونه أيضا الاجتهاد(1). إنّ القياس هو جسر العلاقة بين النّص أي «المتناهي» وبين الواقع أي «اللاّمتناهي» كما يقـــول حجّة الاســـلام أبو حامـــد الغزالــي (توفي 505هـ / 1111م).
إنّ هذا القياس يقوم بدوره على أربعة أركان وهي الأصل والفرع والحكم والعلّة، وهذا الأخير هو الرّكن الرّكين فيه لذلك سمّي القياس بالتّعليلي(2).
سوف نحاول أن ننظر في مواطن الهشاشة في هذا التّعليل وذلك بالمرور عليها كالتالي:
* المعروف أنّ العلّة في أغلب الحالات «مستنبطة»، فالعلل في النّص قليلة ومادام الأمر كذلك فهي خاضعة للبحث والنّظر فهي إذا مسألة تقديريّة لا يمكن الجزم بها. إنّ هذا التّمشي يجعلها خاضعة للتّحكم أي متأثــرة بذاتية الأصولي ولا تمثل العلّة الحقيقيّة للحكم. إنّ الأصولي ســـار على هذا النحو لتأكيد وجوده إزاء قضايـــا جديــــدة وإضفاء المشروعيّة على الأحكام التي يصدرها كما يجعله قــادرا على مصـــادرة مجمل منطقـــة الإباحـــة أو البراءة .
* إنّ الأصولي  يجعل نفسه حبيس عمل تقني وهو ينشد العمل بالقياس، فيدخل في مقارنات حثيثة جرّاء محاولة البحث عن العلل ومطابقة الفرع والأصل،  فتتكاثر عليه العلل ويدخل في متاهات « المناسبة» و«السّبر والتّقسيم»، فيضيع في متاهات هذا العمل المعقّد  فيكون انصرافه عن الواقع  الذي جاء من أجله النّص.
* تعرف العلّة بأنّها «الوصف الظّاهر المنضبط» وهو تعريف يجعل القياس على غرار بقية أجزاء المنظومة الأصوليّة التقليديّة رهين الألفاظ، فلو اخترنا مثلا السّفر الذي هو علّة «قصر الصّلاة» أو «الإفطار في رمضان» فإنّ التّركيز على اللّفظ وضرورة انضباط العلّة جعل الفقهاء يغفلون على تغيّر الزّمن والعصر، فعن أيّ انضباط يتحدّثون؟ فالسّفر مثلا في ذلك العصر ليس هو نفسه السّفر في عصرنا هذا (3)
* يعكس القياس حالة من التّنميط.  لنأخذ المثال التالي قصد التوضيح: «يأكل الإنسان البرتقالة لأنّها حامضة»، فالحموضة هنا هي العلّة الموثّرة، فكلّ برتقالة حامضة تُؤكل وهي حالة من التّنميط ينتج عنها إنتاج مناطات خاطئة  خاصّة إذا لم تتضمّن عناصر أخرى، ففي هذه الحالة يمكن أن نضيف أنّ حالة الأكل للبرتقالة ليست مرتبطة بالحموضة بل كذلك بنفسيّة  الشّخص الذي يأكل...  إنّ هذا المثال  يعكس انغلاق القياس.
إنّ القياس ظلّ متمركزا حول «الخطاب» في حين ظلّ الواقع عنصرا مهمّشا. لقد أدّى الاعتماد على القياس الى الحيلولة دون استيعاب الشّريعة  لمشاكل العصر.
حاول عدد من الأصوليين والفقهاء قديما وحديثا(4)تجاوز مشاكل هذا القياس، لكنّ محاولاتهم بقيت باهتة غير أنّ طرح «علم المقاصد»شكّل بالفعل بديلا مهمّا  ومخرجا لاستيعاب الشريعة لمشاكل العصر.
(2)علم المقاصد الملامح
الانتقال من أصول الفقه الى«علم المقاصد» ومن القياس التّعليلي الى «الاجتهاد المقاصدي» كما يسمّيه المفكّر المقاصدي «جاسر عودة» هو حتما ليس مجرّد انتقال أصولي وكفى بل هو انتقال إصلاحي يمرّ من الشّكل الى المضمون ويلامس المنهج والمعرفة والدّلالة.
* لقد أكّد الإمام محمد الطاهر بن عاشور الإمام المقاصدي (توفي 1393 هـ /1973 م) أنّ من سلبيّات أصول الفقه قيامه على منهج استثمار الأحكام من الألفاظ وهو يقصد كلّ البنية بما في ذلك القياس وهو ما نجده معكوسا في علم المقاصد، إذ يقول موسّس هذا العلم أبو إسحاق الشاطبي (توفي709هـ/1309م) أنّ العبرة ليست بالأشكال والمباني وإنّما بالمعاني. إنّ هذا يعني تغير الأسس المنهجيّة. إنّ النّصوص إذا بـ «غاياتها(5) وأرواحها»(6)
لم يعد الدّليل اللّفظي هو العنصر الوحيد المتحكّم في نظام الاستدلال  ومعبّرا كافيا عن الدّلالة الشّرعية  بل صارت أدلّة أخرى تلعب دورا مركزيّا أهمّها طبعا المقصد والمصلحة، اذا هو خروج من تمركز الخطاب وصعود لدور الواقع والكون(7)
* المقاصد تتيح لنا أيضا الخروج من ذلك التّفريع المملّ الذي وضعنا فيه القياس والتّركيز على الجزئي. إنّ علم المقاصد يقطع مع هذا المنهج ليتحوّل الاستقراء سيّد الموقف وتتحوّل الكلّيات مهيمنة على الأجزاء. هذه الكلّيات لم تعد «ظنّية» بل قطعيّة وعامّة ومطلقة.
إنّ هذا المنهج سيتيح فتح مساحة شاسعة للاجتهاد  فلم يعد الأمر رهين ترحيل ذلك الماضي للحاضر أو رفض العصر كما فعل بعض الفقهاء حين رفضوا «الانتخابـــــات» أو «البورصــة»..بل صار الأمر أكثر سلاسة حيث وضع كثير من فقهاء المقاصد  «الانتخاب المعاصر» ضمن الإباحات.
إنّ الكلّيات المقاصديّة(8) تجعل النّص قادرا على التّلاؤم مع التّاريخ وتحوّلاته وهو ما أسماه الأستاذ طه جابرالعلواني (توفي 1437 هـ / 2016م) التّعامل مع «السّقف المعرفي المتحرّك» بل صار النّص في السّياق المقاصدي مفتوحا على ماهو إنساني (التّعامل مع حقوق الإنسان).
هكذا نلاحظ التّغيرات المنهجيّة والمعرفيّة التي أضفاها علم المقاصد على علم الأصول وعلى الفكر الإسلامي عموما.
يشكل القياس عقبة واضحة أمام الاجتهاد بينما يمثّل علم المقاصد ضرورة يحتاجها الفقه الإسلامي والفكر عموما لكي يخرج من حالة العطالة والجمود
بقـــي أن نؤكّــد أن علم المقاصــد مازال فتيّــا ولايجب كذلك البقاء رهين الملاحظات المقاصديّة الكلاسيكيـــة،  فعصرنــا يحتاج الى علــم مقاصـــــــد يناسبه حتى تبقى العلاقة بين النّص والكون وفاقية وانسجامية.
الهوامش
(1) سُئل الشافعي عن الاجتهاد فقال: «القياس هو الاجتهاد» (من كتاب الرسالة)
(2) يعتبر محمد عابد الجابري كامل المنظومة الأصولية الشّافعية تعليلية
(3) السفر في الماضي كان يُحدث مشقّة أمّا الآن فنتيجة تطور وسائل النقل صار السّفر لا يحدث أيّة مشقّة.
(4) أبو الحسين البصري صاحب كتاب «المعتمد في اصول الفقه» في القرن الخامس هجري وقد عاش في العصر البويهي عمل على إدخال المنطق في القياس وجعله قياسا عقليا.
(5) هوتعريف الامام بن عاشور للمقاصد في كتابه «مقاصد الشريعة الاسلامية
(6) هو مصطلح الامام ابن القيم الجوزية
(7) هناك وعي واضح بهــذه المسألـــة لدى عــدد من المفكرين  مثل طه جابر العلواني من خــلال أحد أهم مقولاتــه «الجمـع بين القـرائتين» قراءة القرآن وقراءة الكون وكذلك الأستاذ الحاج حمد والأستاذ يحي محمد وذلك بالجمع بين الكتاب المسطور والكون المنشور.
(8) الكلّيات هي جملة من المعاني العامّة في النصوص وقسمها فقهاءنا القدامى تقسيمات عدّة مثل الصّروريات والحاجيّات والتّحسينات وهو تقسيم أبي المعالي الجويني (توفي 478هـ / 1085م) وكرّره أبو حامد الغزالي (توفي 505هـ / 1111م) وهناك تقسيمــات أخرى كالمقاصــد العامّة والمقاصد الخاصّة ..