القرآن والسماء

بقلم
نبيل غربال
التنجيم :الأوهام والحقائق (3/3)
 نواصل في هذا الجزء الثالث والأخير توضيح موقفنا من التّنجيم وقراءة «الحظّ». وسنبيّن ما هي القوى الفيزيائيّة التي تؤثّر فينا وكيف يحدث ذلك بعدما نواصل توضيح الظّواهر الفلكيّة التي يعتمدها المنجّمون لبناء تنبؤاتهم. 
ثلاثة عشر برجا وليس اثنتا عشر
رأينا في المقالين السّابقين أنّ البرج هو كوكبة من النّجوم أي مجموعة من النّجوم تبدو مسقطاتها على صفحة السّماء وكأنّها منظومة متماسكة وهو وهم ناتج عن عدم قدرتنا على إدراك البعد الثالث في الفضاء المترامي الأطراف. كما أكّدنا على أنّ الأبراج التي تمثّل المادّة الفلكيّة للمنجّمين هي الكوكبات التي توجد في المسار الظّاهري للشّمس والقمر. وأوضحنا أنّ الأرض عند دورانها حول الشّمس فإنّ هذه الأخيرة تبدو لنا أنّها تنتقل من برج إلى برج. لم يعدّد الأقدمون إلا 12 برجا أي أنّهم لم يروا سوى 12 كوكبة تتحرّك خلالها الشّمس على مدار السّنة. لكن لو دقّقنا رصدنا للمسار الظّاهري للشّمس لتبيّن لنا أنّ في الفترة الممتدّة من 29 نوفمبر إلى 17 ديسمبر لا توجد كوكبة وراء الشّمس أي أنّ النّجوم التي توجد باتجاه الشّمس في تلك المدّة الزّمنية خافتة لدرجة أنّ واضعي الخرائط الفلكيّة (الكوكبات النّجومية) الأولى لم يحدّدوا كوكبة بين برج العقرب وبرج القوس. ولو سلمنا بالتّعريف الذي يعتمده المنجّمون لتحديد برج أو شارة المولود فإنّ مواليد تلك الفترة الممتدة من 29 نوفمبر إلى 17 ديسمبر غير معترف بهم باعتبار أنّ لا برج لهم. إنّهم حقا «محظوظون»!!!. 
وقبل أن نختم موضوع الأبراج يجب أن نلاحظ أنّ التواريخ المعتمدة في قراءة «الطالع» تقول بأنّ الشّمس تبقى «داخل» كلّ برج شهرا تقريبا وهو أمر مناف للحقيقة. فلكي تتحرّك الشّمس (ظاهريّا طبعا لأنّ الأرض هي التي تدور والشّمس تبدو لنا أنّها تتحرّك بالنّسبة للنّجوم التي وراءها) خلال كوكبة العذراء مثلا فإنّ الأمر يتطلّب 44 يوما في حين أنّ «المرور» خلال برج العقرب لا يتطلّب إلاّ 7 أيام وليس شهرا. والأمر كذلك بالنّسبة للأبراج الأخرى، فالشّمس تتحرّك خلال البرج في فترات متفاوتة تتحدّد بالمساحة التي تحتلّها المجموعة في صفحة السّماء.
لكلّ تلك الاعتبارات، فإنّ ما يمكن قوله علميّا  في موضوع حقيقة الأبراج هو أنّ النّجوم كتل من النّار بعيدة جدّا عن الشّمس لذلك تبدو لنا ثابتة بالنّسبة لبعضها البعض. ونظرا لثباتها الظّاهري قسّمها الإنسان إلى مجموعات وأعطى لكلّ واحدة منها إسما وهذا أمر طبيعي إذ لا يكون الإنسان إنسانا إلاّ إذا أعطى للأشياء أسماء. لتلك الكوكبات منفعة عمليّة أكيدة. فكلّ حدث فلكي مستجدّ في السّماء يقع تحديد موقعه بالكوكبة التي يكون فيها كظهور مذنب مثلا فنقول أنّ مذنبا رُصد في كوكبة الثور أي أنّ موقعه في قبّة السّماء هو كوكبة الثّور ممّا يسهّل التّعامل معه من طرف مراكز الأبحاث المختصّة في كلّ أنحاء العالم. فالكوكبة تلعب دور العنوان الذي يحدّد وقوع ظاهرة فلكيّة. 
ورغم الثبات الظّاهري للنّجوم بالنّسبة لبعضها البعض فإنّها تبدو لنا متحرّكة من الشّرق إلى الغرب. تفسّر تلك الحركة  بدوران الأرض حول محورها. وبما أنّ الأرض تدور حول الشّمس دورة كاملة كل 365 يوم وربع اليوم، فإنّ الشّمس وهي قريبة جدّا إلينا بالنّسبة للنّجوم تبدو وكأنّها تتحرّك فيها وهو خداع بصري ناتج عم عدم قدرتنا إدراك المسافة الهائلة بين الشّمس والنّجوم. ولو قمنا برصد تغيّر موقع الشّمس بالنّسبة للكوكبات التي وراءها نتيجة لتغيّر زاوية نظرنا إليها بحكم تغيّر موقع الأرض في فلكها، فإنّنا سنحصل على النّتائج التالية :
ما هي التأثيرات الفيزيائية للأجرام السماوية على الإنسان؟
قبل تناول موضوع طبيعة التأثيرات الفيزيائية التي يمكن إدراكها بما يتوفّر لدينا الآن من معطيات علمية مؤكدة، سنبدأ كمدخل أو كمقدمة، بحقيقة فلكيّة لا يعيرها «المنجّم» أيّ أهمّية بل ربّما يجهلها، وحتى إن كان يعلمها فإنّ الآباء المؤسّسين لـ «ثقافة التّنجيم» لم يكونوا يعرفونها أصلا وهي خدعة فلكيّة مثل خدعة حركة الشّمس في الأبراج وخدعة الأبراج ذاتها.
الموضوع يتعلق بموقع كوكب «الزهرة» بالنّسبة لكوكبات الأبراج وهو موقع يعتمده المنجّمون مثل مواقع الكواكب الأخرى أي «عطارد» و«المريخ» و«المشتري» و«زحل» وذلك في ما يسمونه «قراءة الطالع». 
كوكب «الزهرة» هو أحد الكواكب الأرضيّة الأربعة في المجموعة الشّمسية أي الكواكب الصّخرية باعتبار أنّ الكواكب الأربعة الأخرى غازيّة. وهو الكوكب الثّاني في ترتيب البعد عن الشّمس والسّادس باعتبار الكتلة. يبعد كوكب «الزّهرة» عن الشّمس 108 مليون كم. فهو أقرب للشّمس من الأرض إذ تمثّل المسافة أرض-شمس مرّة ونصف ضعف تلك المسافة أي 150 مليون كم. إنّ اختلاف المسافتين، والشّكل الدّائري لفلكيّ الأرض و«الزهرة»، يؤدّيان إلى وجود الأرض و«الزهرة» وكوكبة ما في استقامة واحدة وذلك لموقعين مختلفين للزّهرة. ففي الحالة الأولى تكون «الزهرة» أقرب إلى الأرض من الشّمس وفي الحالة الثّانية تكون أبعد عن الأرض من الشّمس ولكن في كلتا الحالتين ستبدو لنا «الزّهرة» في نفس الموقع بالنّسبة للكوكبة. ورغم أنّ المسافة أرض-زهرة تكون في الحالة الأولى حوالي 43 مليون كم وفي الحالة الثانية 256 مليون كم أي أكبر بستّ مرات فإنّ ذلك لا يعني شيئا في التّنجيم في حين أنّ ذلك يعني كثيرا بالنّسبة لتأثير الزّهرة فينا. فما طبيعة هذا التأثير وما علاقة ذلك بالحظّ والطّالع؟
عدّد العلماء أربع قوى أساسيّة تتفاعل من خلالها الأجسام في الكون المرئي. قوّتان تعملان فقط في المجال المادون ذرّي وهي النّووية الشّديدة والنّووية الضّعيفة. وقوّتان مدى كل واحدة منهما لانهائيا وهما الجاذبيّة الثّقالية والكهرمغنطيسيّة. إنّ مجال ومدى القوّتان الذّريتان محدود إذ لا تحسّ أثرهما إلاّ مكوّنات الذّرة. فنواة الذّرة تتشكّل من تماسك البروتونات والنّيوترونات بفعل القوّة النّووية الشّديدة، أمّا القوة النّووية الضّعيفة فهي التي تطلق عمليّة الاندماج النّووي في قلب النّجوم. أمّا بالنّسبة لقوة الثقالة والقوة الكهرمغنطيسيّة، فإنّ افتراض وجود تأثير لهما علينا مقبول علميّا نظرا لاتساع مجال تأثيرهما. فما طبيعة هذا التأثير الذي تمارسه تلك القوى علينا؟ تعمل الثّقالة على جذب الأجسام إلى بعضها البعض بقوّة تتناسب شدّتها طردا مع الكتل وعكسا مع مربّع المسافة الفاصلة بينها. كما تعمل القوّة الكهرمغنطيسيّة بنفس القانون إلاّ أنّها تكون جاذبة بين الأجسام الحاملة لنفس الشّحنة أو طاردة بين الأجسام ذات الشّحن المختلفة.
إنّ الأشعة الكهرمغنطيسيّة التي تصلنا من النّجوم أغلبها ضوء مرئيّ. لكن نسبة ما يصلنا من ضوئها قياسا بما يصلنا من الشّمس ضعيف جدّا ويكاد يكون عديم التّأثير فينا من ناحية التّدفئة مثلا. فنجم «الدبران» مثلا وهو أسطع نجوم برج الثّور يبعد عنّا 64 سنة ضوئيّة ونسبة ما يصلنا منه من الضّوء لا يزيد عن جزء من ألف مليون جزء ممّا يصلنا من الشّمس. أمّا تأثير الحقل المغنطيسي للأرض علينا فهو أكبر بكثير من تأثير الحقول الأخرى للنّجوم. فأين تأثير الأرض فينا في منظومة العناصر المؤثّرة «تنجيميّا» ؟
أمّا بالنسبة لقوة الجاذبيّة الثّقالية فيمكن أن نذكر بعض الحقائق التي تتعلّق خاصّة بالكواكب لأنّ تأثير النّجوم ألثقالي علينا يكاد يكون صفرا. إنّ جاذبية كوكب «المشتري» وهو كوكب عملاق أضعف بكثير من جاذبيّة جبل من جبال الأرض، كما أنّ جاذبية كوكب «الزهرة» تساوي جاذبيّة إنسان بجانبنا وأضعف بعشرين مرّة من جاذبية بناية ضخمة من البنايات المتكاثرة في مدننا.  فكيف نأخذ بعين الاعتبار جاذبيّة الأجرام السّماوية (هذا إن أخذ المنجّمون فعلا بهذا التّأثير) ونستبعد جاذبيّة الأجسام المحيطة بنا؟ ونفس التّساؤل يُطرح بالنّسبة للإشعاعات. وما هي علاقة التّجاذب ألثقالي بسلوك الأفراد وحياتهم؟ ونبقى مع كوكب «الزهرة» لنقول أنّه يمكن أن يبدو بالنسبة لراصدٍ على الأرض في نفس الموقع في السّماء وهو في مكانين مختلفين. لمّا يكون بين الأرض والشّمس أو في الجهة الأخرى من الشّمس لأن شعاع مداره حول الشّمس أصغر من شعاع مدار الأرض. ورغم احتلاله ظاهريّا نفس الموقع بالنّسبة للأبراج، فإنّ تأثيره ألثقالي يختلف اختلافا كبيرا من موقع لآخر ويمكن تقدير النّسبة التي يضعف بها التأثير ألثقالي بـ 36 ضعف أي أنّ قوة الجذب الثّقالي للزّهرة علينا تضعف بـ 36 مرّة عندما تغيّر موقعها من أقرب إلى أبعد ما تكون من الأرض. ورغم الأهميته الفيزيائيّة لمثل ذلك الاختلاف في التّأثير ألثقالي لكوكب يبدو لنا وكأنّه في نفس الموقع في السّماء فإنّه لا يعني شيئا بالنّسبة للمنجّمين الذين يدّعون معرفة تأثير الكواكب على الإنسان حسب موقعه في السّماء لأنّهم وببساطة شديدة لا يعرفون طبيعة هذا التأثير. فعن أي تأثير يتحدّثون إن لم يكن تأثيرا فيزيائيا معروفا كالثّقالة والإشعاعات؟  
يصرّح العلم بأنّه يمكن أن نقوم بحساب شدّة التّأثير ألثقالي على أجسامنا كما يمكن حساب كمّية الأشعّة التي تتفاعل مع أجسامنا، لكن أن يدّعي معرفة مدى تأثير تلك القوى على مزاجنا وسلوكنا وعواطفنا ومستقبلنا فهو ما لا يسمح به لنفسه. فالمنهج العلمي يقوم على الملاحظة والفرضيّة التّفسيرية والتّجربة التي يمكن أن يقوم بها أي إنسان والتي بها يقبل التفسير أو يرفض. فماذا سنجرّب عندما نقول لإنسان ما كلاما عامّا يتعلق بعواطفه ومشاعره وعلاقاته وسلوكه. إنّ الظنّ الذي يتّخذه المنجّمون منهجا لتأويل ظواهر فلكيّة أغلبها من إنتاج الخداع البصري لا يغني عن الحقّ الذي يوفره المنهج العلمي شيئا. إنّ البرهان هو الفيصل بين البحث العلمي والخرافات والأساطير التي في إطارها تؤول الظّواهر الفلكيّة التي بدورها تتطلّب جهدا علميّا (عقليّا وتقنيّا) لاستكشاف حقيقتها. 
لموضوع التّنجيم كما رأينا بعدان واحد عقائدي وآخر علمي والمزاوجة بينهما غير ممكنة على الأقل مع ما يتوفّر لدينا الآن من معارف علميّة ومناهج وأدوات بحث. وإنّنا لنعتقد في استحالة التنبؤ بالمستقبل بعلاقة بخصائص الإنسان النّفسية وملكاته العقليّة وما توفّره له من إمكانات متعدّدة لبناء شبكة علاقات معقّدة مع نفسه بداية ومع البيئة الثقافية والطّبيعية التي يتحرّك فيها. 
لا يفوتنا في الأخير أن نشير إلى أنّ لإبراهيم عليه السّلام تجربة مع قومه بعلاقة بالاعتقاد في تأثير الأجرام السّماوية وعبادتها ونحيل السّادة القرّاء إلى المقالين اللّذين صدرا في العددين 81 و82 من المجلة.