قصص القرآن

بقلم
الهادي بريك
قصة سليمان مع بلقيس
 وردت القصة في سورة النمل المكية. سليمان هو النبي الملك إبن النبي الملك داوود عليهما السلام وهما من متأخري المرسلين زمانا وكلاهما ملك مكّن له لا عبدا عليه أن يتدبر أمره كما هو حال أكثر الأنبياء والمرسلين الذين يربو عددهم على مائة ألف. 
سخر الله لسليمان عليه السلام بناء على دعوته «هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي» قوى كثيرة منها الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، غدوها شهر ورواحها شهر وأسال الله له عين القطر ـ نحاس مذاب ـ صناعة لا معجزة على الأرجح، كما سخر له الجن والإنس والطير يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالفجان وقدور راسيات. موطن النبي سليمان عليه السلام هو فلسطين. أما بلقيس فهي ملكة سبأ باليمن ومازالت آثار ملكها العظيم شاهدة على حضارة كبيرة متقدمة في العمران المدني. كلاهما إذن ملك حيزت له الدنيا بحذافيرها. هي قصة ملكين
العبرة الأولى : 
هدهد يعلم ما لا يعلم كثير من الناس
أخبرت القصة أن الهدهد رسول سليمان المتأخر عن حضور الإجتماع العام عثر على ملكة تسجد وشعبها للشمس وأنه إستنكر ذلك. ذلك هو مصداق قوله خبره إلينا « وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم». كذلك يمتلأ الإنسان غرورا وكبرا لينكر ما لا تقع عليه حواسه المادية. الوجود كله بما فيه مما علمنا وما لم نعلم سابح يجري في حركة مسطورة منتظمة متناسقة ويسبح في الآن ذاته عابدا بل يصلي إذ قال سبحانه « كل قد علم صلاته وتسبيحه». 
هي مادّية عجفاء كالحة سوداء قاتمة غلفت القلوب ورانت على الأفئدة فأحالتها كيرانا لا تكاد تعرف معروفا ولا تنكر منكرا سوى أن العلاج الذي يعرضه المسلمون اليوم للتخفيف من وطأة تلك المادّية الجارفة لا يصيب الدّاء لقصوره بل يصاب هو نفسه أحيانا بالدّاء ذاته إذ يتنكّب التوازن المعتدل المتوسط الكفيل بإدارة الحياة بالقيم الدينية وتغذية الحركة بالخلق العظيم وليس إلغاء التقدّم أو التّطور أو يكون الدّين لبوسا مثل لبوس المنافقين. 
عندما نخبر بذلك علينا أن نصدق عقلا نطق الحجر والشجر في يوم ما مناديا منتصرا لمعركة القدس كما أخبر بذلك الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام
 العبرة الثانية : 
النظر منزلة وسطى بين التسرع 
بالتصديق والتهافت بالتكذيب
لمّا أخبر الهدهد سليمان بسبب تأخره ما سارع إلى تصديقه ولا تهافت إلى تكذيبه، بل إتخذ له المساحة العاقلة أي مساحة النظر بما هو تحقيق وتحرّ إذ قد يكذب أصدق الصادقين مرّة في الحياة وقد يصدق أكذب الكذّابين مرّة في الحياة. هذا الذي أتاه سليمان مظهر من مظاهر التّوسط والإعتدال في الإسلام والنّظر من بعد ذلك كفيل بجلب الحقيقة. 
قال : « سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ». قدّم الصّدق لأنّه هو الأصل سيما فيمن لم يجرب عليه كذب، كما إحترز صونا لعرضه أن يصفه بالكذب فلم يقل : «أم كذبت». بل قال : «أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ». موضوعيّة وإنصاف عجيبان ما أوردا هنا إلاّ لنتعلم التّوسط والعدل من هذه القصّة في معاملة النّاس. ولكن خلق الإنسان من عجل والعجلة من الشيطان كما تعلمنا في الصّغر.
العبرة الثالثة : 
الموثق المكتوب أولى دوما من المرتجل المفوّه
أبى سليمان وهو يصعق بخبر ملكة تسجد للشّمس مع شعبها إلاّ أن يوثق رسالته إليها مكتوبة ولم يشأ لها أن تكون مرتجلة يحملها الهدهد الوفيّ. رسالة قصيرة جدّا بل ربّما أقصر رسالة في الدّنيا: « بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ». هذه الكلمات لو حملها أدنى الرّجال ضبطا في الدّنيا لأدّاها كما هي لقصرها وبساطتها. ولكنّه أبى ذلك لأنّ الرّسالة متعلّقة بالإسلام أوّلا وثانيا وهذا هو الأهمّ لأنّه لا يركل الأعراف السّياسية والتّقاليد الدبلوماسية وهو ملك يخاطب ملكة مثله وحتّى لو تبيّن له صدق هدهده بعد ذلك ما كان ذلك ليضيره شيئا إذ الإنسان مكرم إبتداء قبل معرفة دينه ولونه. لذلك كتب رسالته في كتاب وقال لرسوله : «اذْهَب بِّكِتَابِي هَٰذَا». وكل مكتوب هو كتاب ولو حوى كلمة واحدة. المرتجل يمكن أن يتعرّض للتّحريف ويمكن ألاّ يفهم من المخاطب كما أراد المرسل ولكن الإسلام يعلّمنا بالحرص على الكتابة والتّوثيق ومعالم التّحضر والتّمدن ورعاية الأعراف المعلومة في الأرض ومعاملة النّاس بما يستحقون في الدّنيا، أمّا أمر الآخرة فليس لنا عليه سلطان. من المؤكد أن وسائل الكتابة يومئذ لم تكن متاحة لسليمان من كاغذ وقلم وغير ذلك ولكن الإجتهاد والحرص يوصلان صاحبهما إلى الغاية المرادة
العبرة الرابعة : 
على الرسول أن يرعى حرمة الناس
لم يرسل سليمان رسوله بكتابه دون أن يعلمه آداب الرّسالة ومراعاة الأعراف الدبلوماسية، إذ قال له : «فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ». أي أوصل كتابي هذا إليهم ثم تراجع إلى الخلف حيث يضعونك لتترك لهم مساحة تشاور سرّية بينهم لا تتسمّع عليهم ولا تحرجهم بحضورك فهم أحرار فيما يتداولون فيه وما يقرّرونه، وما عليك سوى أدب الرّسالة، فما أنت عليهم بمسيطر ولا بمهيمن ولا بمكره ولا بوكيل. الله يعلمنا آداب الأعراف الدّبلوماسية وطريقة مخاطبة النّاس وكيفية الحوار معهم ويحثّنا على رعاية حرماتهم حتى وهم كفار ونحن إليه ندعوهم. تلك هي مهمة الرّسول أي السفير بالتّعبير المعاصر. سفارات الدّول اليوم بعضهم مع بعض أغلبها أوكار تجسّس وهيمنة وتدخّل في الشؤون الدّاخلية بدافع القوّة والتّرهيب. هو أدب السّفير وهو أدب الدّاعية، وهو مظهر من مظاهر تكريم الإنسان الكافر عندما يدعى إلى الحقّ وإلاّ أعناه على إعتناق النّفاق ويخشى علينا عندها أن نحشر معه يوم القيامة أي في الدّرك الأسفل من النّار لأنّنا أكرهناه بحمقنا على النّفاق
العبرة الخامسة : 
الديمقراطية بضاعة إسلامية قحة
لن يكون لهذه العبرة بصفة خاصّة أي معنى سوى عندما نعتصم بقاعدة منطقيّة إستعارها الفقهاء عنوانها : العبرة بالمعاني لا بالمباني. فمن قبل بذلك منطقا قبل أن يكون شرعا كان لي معه تواصل حتى لو أثمر إختلافا. أمّا من إعتصم بالأشكال والمباني عاكفا عليها لا يزول فلن ينثني حتى لو وضعت الشّمس على يمينه والقمر على يساره. 
ما إن وصل الكتاب إلى «بلقيس» وهي الملكة التي أخبر الله عن عرشها أنّه عظيم وأنّها أوتيت من كلّ شيء، حتّى دعت إلى إجتماع طارئ لمجلس الأمن القومي:« يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ،إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ». لا شيء يكرهها على عقد ذلك الإجتماع ولا على مداولة الشّورى ولا على أن تكون ديمقراطيّة مع شعبها إذ هي الملكــة الوارثة للملك وصاحبة العرش العظيم والموقــرة. ولكن عندمـا يورد القرآن لنا ذلك منبسطا فيه بصيغة التّرحيب والإبتهاج فإنّ الرّسالة واحدة عنوانها : الديمقراطيــة خلق الملــك وهي عضـــده الذي يشــدّ أزره ويقيـم أوده ويحفظ أمنه ويبسط سلمه. 
سمّها شورى أو ما شئت فلا يضيرني شيء إلا أن يضيرك أنت ذلك ولكن العبرة راسخة أنّ الملك إنما يشدّ بالتراضي بين الدولة وبين المجتمع. الديمقراطية التي تدفع الشعوب لأجلها الدماء والأشلاء والمقاومات ليست مطلوبة لذاتها بل هي مطلوبة لما تحقّقه من مناخات العدالة الإجتماعية والوحدة الوطنيّة وحفظ حرمات النّاس المقدّسة عند الله تقديسا عجيبا غريبا لا يفوقه أي تقديس أبدا طرّا مطلقا والكتاب بيننا لمن أراد الجدال. 
بهذه الصيغة المحببة المتكرّرة مرّتين : «يا أيها الملأ». تطلب الإفتاء من أهل النّظر والحكمة لأنّ الخطر داهم وعندما يدهم تدمّر الممكلة بأسرها فلا ينجو أحد. هذا المسلك الديمقراطي هو الذي حرصت عليه هذه القصّة بل إني أزعم أنّ هذا هو لبّ القصة وبيت قصيدها وعلى كل حال نحن اليوم بحاجة إلى هذا حاجة ماسة أكيدة. أجل. «مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ». 
عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي فلا بد من تحكيم قالة الشاعر: «الرأي قبل شجاعة الشجعان». كم من دولة عربية ورطت مجتمعها في هذه العقود المنصرمة بسبب تهور ملك أو غرور رئيس أو شجاعة في غير محلها. وكم من تجربة أحسنت تجنب الحروب وإدارة المفاوضات ولو بالتّأخر والتّنازل فكانت علامة نضج وأمارة رشد.
العبرة السادسة : 
الأمن الوطني الناجح هو الأمن الفكري 
قبل الأمن العضلي
تدبر معي هذا المشهــد الذي تتواضــع فيه الملكـــة بلقيس عارضـــة الشــّورى، فإذا بمجلــس الأمن القومي في مملكتهـــا يعرض عن الرّسالــة ولا يفهــم منها شيئا ويجيب بمثل ما تجيب آلات القمع البوليسيّة التي تتحكّم في مصائر كثير من بلداننــا. قالوا بحماقــة الحمير وصفاقة البغال : «نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ». أي نحن قوى أمنية جاهزة عضليــا وحديديا للقتــل والتعذيــب وفض الهجومات ونحن رهن إشارتك أنــت. نحن حمير وبغال تؤمــر فتنفــذ وليس لنا حكمــة ورأي. أليس ذلك هو خطـــاب أكثر القـــوى البوليسية العربيــة؟ حتى عندما نــرزق برئيس عاقل نسبيــا فإنّ ملأه يصرفه عن العقــل ويكرهــه أو يغريــه بالمواجهــة والقتل والحرب. لذلك فإنّ هذا الدّرس مفاده أنّه على الأمن وقواته أن يتشبّع بالمعرفة والعلــم أوّلا ليكون صاحب نظر وتدبير وحكمة في الملمات الكبرى وليس قطيعا من الدّواب العنيفة الغليظة المسوقة لإسالة الدّمــاء فحسب. لذلك يئست الملكة «بلقيس» من خطاب مجلسهــا القومــي ودبّرت أمرها بالحكمة والذكاء
العبرة السابعة : 
أسّ من أسس العمران السياسي 
من في إمرأة يلتقطه القرآن ليكون قرآنا
دعني أهمس في آذان لفيف عصيب من المنسوبين إلى الدّين علما وإفتاء وخطابا، ممن يرون أنّ مشكلة الأرض اليوم هي المــرأة. دعني أهمس في آذانهم إن كانوا يفقهــون أنّ القـــرآن الذي يزعمون التّحاكم إليه أبى إلاّ أن يقتطــف أعظــم أســس العمـــران السّياسي بالتّعبـيـــر الخلدونـــي العجيــب من أفواه نساء. فعل ذلك ليكون ذلك قرآنا يتلى وأصله حكمة مــن فــي إمرأة نعدهــا نحن اليــوم سقط متاع وهي سقط متــاع فــي الغــرب  عندما تكـــون أداة زينــة وإشهــار وهي سقط متاع في الشرق عندما تكون بهيمــة توطأ وأمة تخدم. 
في فقه العمران السياسي اقتبس القرآن الكريم حكمتين من في إمرأتين : الحكمة الأولى من في إبنة شعيب ـ أو زوج موسى ـ وقوامها : «إنّ خير من إستأجرت القوي الأمين». والحكمة الثانية من في بلقيس ملكة سبأ وهي : «إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون». وهي الحكمة الواردة في هذه القصة. وحكمة أخرى في حقل التربية النفسية وهي كذلك من في إمرأة هي إمرأة العزيز في قصة يوسف وقوامها : «إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي». هل بعد هذا يجرؤ «عبد يحترم نفسه فحســب على عدّ المــرأة سقط متاع فينسب لهـــا الشرّ وله الخــير؟ ليت شعــري. هل نتبرع على أنفسنا لنقـــرأ القرآن مرّة أخرى بنظر جديد؟ .
يئست بلقيس من مجلس أمنها القومي فدمغتهم بهذه الحكمة التي أوردها الله لنا هنا لنتعلم من أسّ العمران السياسي وفقه الإجتماع وهو العلم الذي بزّ فيه إبن خلدون الناس أجمعين. نحن الذين ندمغ اليوم بهذه الحكمة : «الملوك الذين لا يخافون الله ولا يبسطون العدل لا يتورعون عن بسط الذلة والمهانة وإقتراف أكبر جريمة في الإسلام أي العدوان على حقوق الإنسان». لذلك فإن «بلقيس» تقول لنفسها بعدما يئست من مجلس أمنها القومي : هؤلاء حمير وعليّ أن أذكر نفسي ومن يأتي بعدي بأنّ الحكمة تقتضي صرف تدخّل هذا الملك الذي يرسل إلي برسالة ظاهرها الكرامة « كتاب كريم» ولكن من يدري لعلّه لا يكون نبيّا فتحلّ بنا الكارثة. درس آخر يعضد  الدرس السّابق وعنوانهما معا أنّ الديمقراطية التي توفّر الحرّية والكرامة مطلوبة بالمقام الأول لأنّ حياة الإنسان مقدّسة.
العبرة الثامنة : 
النجاح الحقيقي هو النجاح 
في حرب الذكاء وليس في حرب العضلات
يئست «بلقيس» من الحمير الذين إستشارتهم فألهمها سبحانه حيلة ذكيّة تخوض بها الحرب السّياسية الدبلوماسيّة مع «سليمان» حتى تتبين صدقه من كذبه، فأرسلت إليه بهديّة ولك أن تتصوّر قيمة هديّة من ملكة عرشها عظيم وأوتيت من كلّ شيء وهي في حالة خطر داهم إلى ملك مثلها. ربّما تكون الهديّة بمثل ما حوته خزائن قارون. لا بدّ أن تكون الهديّة قيّمة في مستوى الخطب الجلل وفي مستوى الأعراف الدبلوماسيّة التي عرفتها عن هذا الملك والمعاملة بالمثل شريعة سياسيّة قديمة معروفة ما ندّ عنها لا «سليمان» ولا «بلقيس». 
أرسلت إلى صاحب الكتاب « الكريم» رجعها أي ردّها وهي هديّة وهي تقصد طبعا جسّ نبضه فإن كان نبيّا ركل الهديّة برجليه لأنّه لا يبغي من الدّنيا رشوة تصرفه عن رسالته وإن كان كاذبا قبل الهديّة. ذلك هو معنى أنّ الحياة حرب ذكاء ومقاومة سياسيّة في المقام الأوّل وليست المعارك الحامية ذات الوطيس العالي سوى أصداء لإستحقاقات تلك الحرب الفكريّة الإعلامية الأولى. ألا ترى أن أكثرنا اليوم رعاة ومرعيين يتصرف بعضلات الحمير وفتلات البغال لا يلوي على مهارات الذكاء والحكمة شيئا فإذا خسر الحرب علّق الهزيمة على القضاء والقدر إن كان مسلما وعدّ ذلك إبتلاء وما هو بإبتلاء ولكنه بلاء وعقاب دنيوي وإن كان غير مسلم كان له شأن آخر لا شأن لنا به الآن؟ 
ماذا لـو أخذت منظمة كحماس الفلسطينيّة مثلا وهي صاحبة أطهر قضيّـة في الأرض اليوم وأصدقها بحماقاتنا لتلغي جناحها السّياسي والدبلوماسي والإعلامي والتّخطيطي والفنّي متعلّلــة بأنّ ذلـك لا يفيــد مع الصّهاينــة المحتلّيــن وأنّ المقاومــة العسكريّــة هي الحلّ الأوحد الوحيــد؟ أليست تهدي الإحتلال هديّة لم يكن يطمع بها في ملكوت السّماء؟ من حرّم المقاومة بالذّكـاء والفطنــة والحكمة والــرّأي فمــا له من فلاح ولا نجاح في أي معركة أخرى.
العبرة التاسعة : 
الدنيا إمتحان عسير 
فلا تهوّنوا منه ولا تبخسوه أمره
«سليمان» نبي معصوم دون ريب وما ينبغي له سوى أن يركل هديّة «بلقيس» بقدميه كما فعل عليه السّلام وعلامة هذا الدّرس هو أنّه لنا أن نلزم الإخلاص والصّدق والعدل لأنّنا سنتعرض إلى هدايا ورشاوى من بلاقيس عصرنا وقد تغرينا ويغوينا بها الشّيطان ولن تعدم نفوسنا حيلة لقبولها وعندها يكون حيداننا عن الصّراط المستقيم ولاء للشّيطان وتموت القضيّة ونستبدل بقوم غيرنا. 
«سليمان» عليه السلام أدرك رسالة «بلقيس» وردّ عليها بذكاء مثلها كما سيأتي فهي حرب ذكاء فعلا بين ملكين شربا من ماء السّياسة حتى ثملا ولا عبرة هنا بإسلام هذا ولا بكفر ذاك. كان الردّ مناسبا لأنّ الإمتحان قاس كذلك. رسالة «سليمان» في الميزان فلا بدّ أن يكون الردّ مناسبا فلا تفاوض على المبادئ ولكن التّفاوض على فروعها وعلى ما دون ذلك. فهم الرّسالـة فردّ عليها برسالة مثلها أنّه نبي يبتغي تحرير البشريّة من الرّق والعبوديّة بإذن ربّه وليس هو ملك يبغي الدّنيا. ذكاء بذكاء وكلام بكلام
العبرة العاشرة :
 المشهد الديمقراطي مسلك 
في مملكة سليمان كذلك
كلاهما ملك وكلاهما مسخّر له أشياء ولو إختلفت مسالك التّسخير وكلاهما ذكيّ يدير المعركة بسلاح الذّكاء وكلاهما يلتزم المسلك الدّيمقراطي. كما دعت بلقيس إلى إجتماع طارئ لمجلس أمنها القومي بروح ديمقراطيّة مخافة أن تقطع في أمر أمني خطير برأيها فتهلك وتُهلك، فعل سليمان الأمر نفسه إذ دعا إلى إجتماع طارئ وبالعبارة الحبيبة نفسها:«قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا». يكرّر القرآن علينا المشهد ليحقننا بعبرة عظيمة في الحياة عنوانها أنّ الديمقراطية حافظة للملك وأنّ الإستبداد بالرّأي مذهبة للملك.
العبرة الحادية عشر :
لا تتنكبوا الدرس 
من الذي عنده علم من الكتاب
إفتح التفاسير كلّها تقريبا لتجدها والغة في لجج من تأويل حول من يكون هذا الذي عنده علم من الكتاب وما هذا الكتاب وأنّى له أن يأتي في ذلك الزّمان بعرش بلقيس من سبأ اليمنية إلى فلسطين في أدنى من طرفة عين. ليس هذا المقصود من القصّة ولا من هذا الموضع فيها بل هي آية متشابهة لا محكمة والمطلوب فيها هو التّسليم ولا ضير في البحث إن كان يجدي ولكن تبيّن أنّه هنا لا يجدي لأسباب لا شأن لنا بها الآن ولكن العبرة هي التي ركّز عليها البيان القرآني معلقا بقوله : « لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ». أي أنّ العبرة من هذا الموضع من القصّة أنّه على من يصاب بخير أن يهرع إلى الشّكر وأنّ الشكر يفيد منه الشّاكر وسبحان من لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضرّه معصية العاصين وأن تنكب الشّكر كفر وأن الكافر لا يجني سوى على نفسه. 
ذلك هو الدرس الذي أطنب فيه البيان القرآني فلم الإطناب في البحث عمن يكون صاحب الكتاب وهل أنّه أوتي علما لدنيّا ليقوم بذلك ممّا لا يتسنى حتّى لنا نحن اليوم وقد تطورت وسائل الإتصال تطورات عجيبة أم هو فعل ذلك بقوته التّواصلية. سيظل البحث جاريا ولكن البحث هنا لا فائدة منه فإن كان صاحب الكتاب بهداية إلهية فهي معجزة نؤمن بأن الله قادر عليها وإن كان ذلك بفعل تدبيري فهو وارد كذلك وعلى كل حال راعى القرآن تناسب القوة وهو يروي لنا قوّة ملكين ـ سليمان وبلقيس ـ ولا يناسب القصّة بأسرها سوى أن تنتظم تحت عنوان القوّة فيكون صاحب الكتاب قويّا كذلك. لم لا نهرع إلى هذا المعنى لبيان التّناسب ولا نصرّ على جدال لا منفعة فيه ولم لا نفيئ إلى فضيلة الشّكر كما فعل سليمان نفسه عليه السلام؟
العبرة الثانية عشر : 
سليمان يرد على ذكاء بلقيس بذكاء مثله
المتدبر لقصّة «يوسف» يرى أنّها حرب حيل ومكر ودهاء والمتدبّر لقصة «سليمان» مع «بلقيس» يرى أنّها حرب ذكاء وحكمة وفطنة، إذ أنّ «سليمان» لمّا عرف أنّ مخاطبته «بلقيس» على درجة من الذّكاء عظيمة، أراد أن يثبت لها أنّه هو كذلك ملك نبي ذكي وليس منسوبا إلى الدّين كما ننسب نحن اليوم أي المظهر مظهر ديني والطعم طعم لا ديني فلا ذكاء ولكن خبث أو حماقة. 
أراد عليه السلام أن يختبر ذكاء مخاطبته مرّة أخرى فأمر بتنكير عرشها أي جزء صغير منه فلمّا جاءت سألها أو أمر بسؤالها : «أهكذا عرشك؟» فكانت المفاجأة أنّ الملكة لازالت تحتفظ بذكائها البليغ العجيب إذ أجابت جوابا حيّر العقول وخلب الألباب إذ قالت : «كأنه هو». هذه الصّيغة التّركيبة العربية موغلة في الذّكاء والنّبوغ وبلوغ أقصى درجات الفطنة والدّهاء والحكمة. كأنّه هو : فلا هو هو ولا هو غير هو. كلّ ذلك إختصرته في قولها البليغ : «كأنه هو». ذكاء متبادل والقرآن ينبسط في ذكره لعلّنا نتعلّم أنّ الدّين ذكاء وأنّ الدّعوة فطنة وأنّ الأعراف الدبلوماسيّة تقتضي ما لا يكنهه المتعجرفون بإسم التدين أو بإسم قول الحقّ ولا يقوم الدّين حتّى لا يقال الحقّ كله في المحل كلّه ولكن دون ذلك جولات تأهيل نحن بها مفرطون.
العبرة الثالثة عشر : 
القرآن يحفل بإمرأة كافرة ذكية
ألا ترى معي أنّ الخطاب القرآني الكريم العظيم لا يكاد يذكر هذه المرأة التي هي كافرة سوى بعبارات الودّ والحرمة والتّرحيب؟ حتى إنّه قال في شأنها: «إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ». تناسبا مع الأدب الجم الذي بدأه «سليمان» وهو يستقبل عذر هدهده : «أم كنت من الكاذبين». 
رثائي للذين يقبلون على هذا الكتاب لا يتعلّمون منه سوى الحلال والحرام وكأنّه كتاب قانوني فحسب. رثائي للذين إستنكفوا جهلا أو غرورا وكبرا أن يتعلّموا من هذا الكتاب أصول الحياة وفقه المعاملة وآداب التّعامل في كلّ الأحوال ومنها الأعراف الدبلوماسيّة مثلا. رثائي لنا جميعا أنّنا لم نستقبل هذا الكتاب العظيم الكريم بما هو به جدير وبما نحن به كذلك جديرون. لم إحتفى القرآن بإمرأة كافرة؟ لأنّ القرآن يقدّر الصّفات الأخرى العظيمة التي هي من صلب دينه في هذه المرأة من مثل المسلك الديمقراطي ومخّه التّواضع وحفظ الملك وصون أعراض الناس وحرماتهم أن يدخل الملك فيدنسها ومن مثل المسلك العلمي المعرفي الذي يفيض ذكاء على هذه المرأة. ألا ترى أنّه عليه السلام عفا عن إمرأة يهوديّة في خيبر أرادت إغتياله بنعجة حنيذة مسمومة؟ لم فعل ذلك؟ لأنّه قدّر ذكاء المرأة عليه السلام أي لأنّ المرأة فعلت ذلك لتبين وجه الحقّ فيه فإن كان نبيّا لم تهلكه وإن كان دعيا قتلته وإستراح النّاس منه. قدر عليه السلام هذا المسعى المشروع في الأصل وهذا الذكاء فرجح القصد الذكي على الفعل الغبيّ فكان العفو والسّماحة منه عليه السلام. 
أما آن لنا أن نفيد من هذا الكتاب شيئا ومن سيرة هذا النبي؟ ليس هذا تهوينا من الكفر فهو ظلم ولكنّه ظلم الإنسان لنفسه وأشدّ منه الظلم عندما يكون من مؤمن للنّاس الأبرياء وحملة القرآن ضدّ الظّلم أشد ألف مرّة ومرّة من حملته على الكفر المسالم. أما آن لنا أن نعي هذا؟ الكفر داء وبيل ولكن علاجه يسير ولكنّ الخطل والحماقة داء صدق فيها الشاعر في قوله : «إلا الحماقة أعيت من يداويها». الكافر الذكي أسرع إلى الإيمان منك ولكن المؤمن الأحمق قد يضرّ دينه ونفسه وأهله والنّاس من حوله بما لا يفعله الكافر الذكي. هي معايير مزدوجة علينا جمعها
العبرة الرابعة عشر : 
الدين والتطور المدني والتحضر العمراني
 شقيقان صنوان لا عدوان
لم حرص القرآن على قصّ قصّة آخرها أن «سليمان» وهو رمز من رموز الّدين رجل أوتي الملك والتّطور والتّحضر والتّمدن حتى إن «بلقيس» وهي الملكة الوالغة في أتون الملك ورفاه الوجد كشفت عن ساقيها خشية أن تتبلّ بالماء إذ حسبت صرح «سليمان» ماء؟ لم جمع بين الدّين وبين القوة المدنية والقوّة العسكرية كذلك؟ أليس ليعلمنا أنّ الدّين عندما يكون ضعيفا في النفوس فيكون أهله ضعفاء مستضعفون لا مجال له سوى مجال السّجون والمنافي والرّكل بأرجل البوليس؟ أليس ليعلمنا أنّ الدّين والتّحضر والترقّي والتّمدن وبلوغ أعظم درجات التّطور أمران شقيقان صنوان لا يتعارضان؟. أليس ليخبرنا أنّ «سليمان» توسّل بأشياء إلى قلب «بلقيس» منها قوّته التي أبهرتها؟ أليس ليعلمنا فنّ الدعوة القائم على المعاملة بالمثل أي أنّ «بلقيس» الملكة العظيمة لا بدّ أن تقابل بملك مثل ملكها أو أعظم ولو سيقت إلى دهليز لا يليق بها لما آمنت ربما. 
يكذب الكذابون عندما ينسبون الهداية نسبة إشراقية صوفيّة فحسب فيزعمون أنّها إشراق روحي إنفجر فجأة في صدر هذا أو في فؤاد تلك. ذلك تفسير باطني كذوب. الإنسان يظلّ إنسانا دوما فهو ينبهر بالعلوم والمعارف والتّطورات والمنجزات فيكون ذلك دافعا ـ ولو دافعا فحسب ـ إلى إيمانه. رسالة «سليمان» هي : أنا ملك قوي مثلك ولكنّي أتفوق عليك بالنّبوة. ساقها بذكائه إلى حيث يشتعل فؤادها إنبهارا بما وصل إليه ملك «سليمان» أي خاطبها بلسانها ولسانها هو لسان الملوك. ولذلك أرشدنا عليه السلام بقوله أنزلوا الناس منازلهم
العبرة الخامسة عشر : 
لا كبير في الإسلام ولا صغير في الإيمان
هي العبرة التي أختم بها وقوامها قولها:«وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ». لكم شدّني هذا. لم تحتقر نفسها وهي بحضرة الرّجل الذي جعله الله سببا من أسباب إيمانها لتقول أسلمت وراء «سليمان» أو بـ«سليمان» أو خلف «سليمان» بل قالت بلسان القويّة الذّكية دوما : مع «سليمان». ساوت بينها وبين «سليمان» النبي الملك وسجّل الله ذلك في كتابه ليظلّ قرآنا يتلى إلى يوم الدّين وليعلّمنا أنّه ليس في الإسلام كبير ولا قديم ولا سابق وليس فيه صغير ولا لاحق ولا تال بل هو دين يساوي مباشرة بين اللاّحق وبين التّالي بمجرد إيمان اللاّحق. وليس في قولها : «مع سليمان» أي حقارة لسليمان وليس فيه أي علو نهينا عنه بل فيه درس بليغ عظيم عنوانه أنّ النّاس كلّهم طرا مطلقا وبدون أي إستثناء سواسية أمام الله سبحانه ولذلك قال عليه السلام:«الناس سواسية كأسنان المشط». 
أجل، أسلمت هي الآن لله رب العالمين كما فعل «سليمان» قبلها فحسب. سبق الزّمن لا عبرة له وإنّما العبرة بالعمل والإخلاص. ليس معنى ذلك أنّ مقامها عند الله هو مقام نبيّ ولكن معنى ذلك هو خلوص الإيمان وجلاء التّوحيد ومعرفة الحقّ وأنّ الإسلام هو لربّ العالمين وليس لسليمان عليه السلام. تقوم المسيحيّة على تراتبية دينيّة بغيضة ينفر منها المسيحيّون اليوم فيهجرون الكنائس ويخرجون من السجلاّت الرّسمية حتّى لا تتواصل فرض الضريبة الكنسية عليهم ومن أسباب ذلك شعورهم بالمهانة في حضرة القسّ والرّاهب . هذه نقطة من أعظم نقاط القوة في الإسلام فهل نعيها ونمارس الدعوة على أساسها؟