تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
هل أتاكم حديث الكرامة
 الليل شتوي والبرد قــارس وقاعة الانتظــار شبه فارغة في ساعة متأخّــرة من اللّيل. ليل لا يدرك طوله من كُفّن في فــراش وثير في بيت جدرانه وهاجة فاستسلم لنوم لا يفيق منه إلاّ بمنبّه. أمّا من لا مأوى له وتركه الزّمان على حافّة ستار اللّيل، فمن أين يأتيه النّوم على حافّــة مقعد خزفي بمحطة القطارات أو بزاوية على قارعة الطّريق تسرّب من خلالها دفء رواد المقاهي والحانات التي لا تــدور دواليب الزّمن داخلهـا وخارجهــا بنفس السّرعة، فلاذ إليها روّادها لابتلاع السّاعات بلعب الورق أو الحديث حول «حارات» القوارير المتراصّــة على الطّاولة؟. فما أحــوج من تُــرِك بالخارج لمفتــاح الولوج خلف باب وبقي أمامه يقضم الدّقائــق من الزّمن المتوقّف. 
لليله طول آخر أطول منه نهايته التي لا يأتي من وراءها فجر ولا دفء النّهار الجديد. عفوا، الجديد قد لا يعني بالنّسبة إليهم إلاّ خلاف ما تعوّد اللُغويون طالما كلّ الأيام تتشابه ولا ينتظرون إلاّ أمسهم.
انزوى طفل على مقعد وقد طال انتظاره لمقابلة الطبيب وقد أخذ منه التّعب والبّرد أكثر مما يطيق. الطفل يرتجف حتّى الهذيان رغم تدثّره الجيّد ببطّانة خشنة أحسنت أمّه أو من ترعاه لفّها حوله لحمايته من البرد الشّديد وارتفاع حرارة جسمه. ولكنّ الطفل لا يهذي لمّا نفد صبره وقام من مكانه ليلتحق بأبيه الذي ما فتئ يجوب قاعة الانتظار التي ترتع فيها الرّياح بين الباب الرّئيسي الذي لا يُغلق وفتحات النّوافذ المهشمة والمتبقّية على حالها، بل انفجر بكلّ وعي: «بابا، ما أصبرك على ما نعيشه من تناس واحتقار؟. نحن هنا ننتظر منذ ساعتين هذا الطّبيب الملعون. أين خوفك عليّ ؟ هل أهون إلى هذه الدّرجة ؟».
 لا يعلم الطفل ما يدور بخلد أبيه. لا يعرف مدى غليان دمه ولا مدى الضّغط الدّاخلي الذي يعانيه. الطّفل مازال صغيرا لا يقرأ الصّحف اليوميّة ولم يتلق إلاّ ما لقنته معلّمته التي تعلّق بها وفهم منها أنّ المريض يداوَى وما جُعِل الطّبيب إلا لفحصه ومعالجته. فلماذا يشقى هو اليوم في انتظار الطّبيب المنشغل عنه. - قيل أنه في اجتماع –.
ولكن أباه الذي ابيضّ صدغيه، علّمته الحياة فلم تحسن تعليمه وتركته مذبذبا بين التّمرد والخضوع يلوم نفسه ويعذبّها كيف لم يتعوّد المواجهة وكيف عليه أن يصدّق أنّ الطّبيب في اجتماع. وأيّ اجتماع أهم ّمن معالجة ابنه المريض؟ ها هو اليوم في داخله بين الإشادة واستنكار ما تناقلته الأخبار منذ أسبوعين عن تخريب المستشفى أين يوجد ابنه هذه اللّيلة. وتناقلت الأخبار:«مشادة كلاميّة بين عصابتين آلت إلى معركة شنيعة وانتهت بهما في آخر اللّيل يالقسم الاستعجالي». وفي صحيفة أخرى «مجموعة من الشّباب رافقوا في صخب وغضب أحدهم ينزف بطعنة سكّين».
لمّا أدخل المصاب على الأيدي إلى قاعة الفحص رغم الحراسة المشدّدة ووضع على سرير بمكتب الفحص، ارتفعت أصوات المرافقين تستعجل الطّبيب إلى أن حضر جريا، فنهروه بالإسراع في معالجة صديقهم قبل فوات الأوان، فلم ينتظر. والكل عصبة لا تقلّ عن سبعة أشخاص من أعمار متقاربة يتبادلون النّظرات والغمزات وكلمات مقتضبة تغلق بمفاتيح وبإشارات مقنّعة. 
قام الطبيب وطاقمه بما يلزم. وما أن أتمّ تضميد الجرح وطبقا لما جرى به العمل، طلب أحد الممرضين البيانات الشّخصية للمريض حتّى يُعلم بالحادث الذي يبدو إجراميّا، حتّى انفجر المرافقون للمصاب شتما وسبّا وانهال الكلّ على ما صادف حوله فهُشّمت النّوافذ وأتلفت المعدّات ثم حُمِل المريض على الأيدي دون رجعة.
في هذه اللّيلة، حُبس النّاس بمنازلهم ولم يسرع إلى المستشفى إلاّ ذوو الحالات الاستعجاليّة مثل هذا الصّبي الذي أتى به والده منذ ساعتين ومازال قابعا في ركن القاعة ينتظر حضور الطّبيب المتغيّب بين النّسائم المؤلمة مرتعشا من شدّة الحمى.  
لم يستقر الأب وبقي كالنوّاس بين الباب الرّئيسي ومدخل أقسام العلاج. يفصل قاعة الانتظار عن قاعات الفحص باب من الألمنيوم اتخذه الحارس ملاذا من البرد وجعل من إطاره البلوري مرصدا لمراقبة الزّوار والإذن لهم بالدّخول كلّما طلب منه الطّاقم الطّبي ذلك. 
استمع الأب لابنه بانتباه وقد شُلّ من وجع الضمير الذي لم يأته على عادته من الدّاخل. ولكنّه حمد الله على نعمة الصّبر صمام الأمان الذي أصبح يعتمد عليه ربحا للوقت وتفاديا لخسارة محتملة تهدّده كل يوم. أشفق على ابنه المرتعش من شدّة الحمّى واحتضنه وقال له والغلبة ظاهرة قد قسمت ظهره: «لأنك أغلى ما أملك أنا صامت يا بني، أنا صابر وصبري على الله. من أجلك سأفعل كل ما أكره. سأتوسّل للطّبيب وللممرض ولعون الاستقبال والحارس أيضا. سأمسح نعليه وأقبل أقدامه من أجلك. كل ذلك، والشكّ يراودني، كم أتمنى أن لا يكونوا سببا في أطالة عذابك؟» .
«أنا زوّالي إذا جريت ما نهربْ وإذا ضربتْ ما نطيحْ».