في العمق

بقلم
يوسف المتوكل
روح السياسـة.. وفن تدبيـر الممكنـات
 إن محاولة استجلاء ومعرفة أساليب الحوْكمة  (gouvernance)ا(1)، ومداخل التدبير السياسي، تعدّ في بادئ الأمر مغامرة صعبة المنال، في زمن أضحت فيه السّياسة لعبة متقلّبة الأحوال والظروف لا ترسي سفنها على شاطئ مستقر، لكن رغم الصّعوبات البادية في طريق تناول هذه القضيّة، إلّا أنّنا سنمضي قُدما للتعرف على ما أسميناه بـ:«روح السّياسة، وفنّ تدبير الممكنات»، لبسط بعض معايير التّدبير السّياسي، وأساليب التّأثير السّياسي، وكيفية تقدير الزّمن السّياسي، وحدوده الممكنة، لأنّه من خلال هذه المعايير وهذه الأساليب يتألّف فنّ السّياسة..
من المعلوم أنّ المشتغل بالسّياسة وبتدبير الشأن العام والحوكمة بالخصوص، يحتاج إلى مقومات أساسيّة يشتغل عليها، كقواعد لبناء رؤيته وتأدية رسالته وفق استراتيجية معينة، وأهمّ هذه المقومات هي تلك الروح المعنوية والقيمية التي تعطي للسياسة معنى أكبر وأعمق ممّا هو سائد ومتعارف عليه.
حينما تنبعث هذه الروح القيمية في وجدان الأفراد وتتطلّع إليها الجماعات وتصبح هدفا أسمى للمجتمعات، يمكن أن نتحدث حينئذ عن روح السياسة التي لا تتعامل بمنطق الغالب والمغلوب، أو بمنطق القوي والضعيف، وإنما بمنطق التشارك والتعاون على قدر من الإمكان، وبالتالي يكون الوقوف على هذه الروح – روح السياسة - وقوفا على جوهر العديد من المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي نبحث لها عن حلول في إطار من الممكنات، لا في إطار الكمالات.
إنه بإمعان النظر في كثير من الأحداث السّياسية، والمنزلقات الخطيرة والأخطاء القاتلة في تدبير الشأن العام عبر التاريخ، نجد أنّها نشأت عن الجهل بروح السّياسة، هذه الرّوح التي تخضع لقيم مخصوصة وقواعد مضبوطة، كان ينبغي ألاّ يتم تجاوزها أو خرقها لتفادي ما يمكنه أن يسيء إلى عملية الحوكمة والتدبير بشكل عام؛ فكما أنّ الفنون والعلوم والمعارف تنضبط لقواعد معلومة لا يجوز نقضها، فكذلك فنّ السّياسة وتدبير شؤون الدّولة، لا يمكن أن ننهض به إلاّ بقواعد محدّدة لا ينبغي العبث بها.
لقد اشتهر المنظّر السّياسي الإيطالي «نيكولو ميكافيلي»(2) بكتابه الذائع الصّيت: «الأمير»، الذي يقدّم فيه نصائحه للقادة والحكّام، اشتهر أثناء بحثه في قواعد القيادة والحوكمة، وتجربته التي اختبر فيها سياسة بلاده، بأنّه كان يبحث عن الممكنات التي ستتحقّق، لا عن الكمالات التي يستحيل أن ترى النور في أرض الواقع. فالسّياسة عند «ميكافيلي» بهذا المنطق هي: محاولة البحث عن الممكنات المتاحة لا عن الكمالات الغير متاحة، وبالتالي يمكن أن نطلق عليها بـاسم: «سياسة فن المُمْكِنْ».
ربما يحتاج المرء منّا إلى شيء من التّوقف عند هذه المقولة التي كادت أن تبلغ البديهة، لشدّة استخدامها وتكرارها، فهي على اختصارها وكثافتها تمثّل قاعدة ذهبيّة، يتوجّب أن يأخذ بها كلّ من يتعاطى الشأن السّياسي العام، شريطة أن يحسن فهمها واستيعابها بعمق، لأنّها تشكّل مقتضى من مقتضيات روح السّياسة.
إنّ السّياسة باعتبارها روح وفعل متميز لا يستطيع القيام بها جلّ الناس، لأنها تحتاج إلى روح الرّجال السّياسيين الحقيقيين اللذين يمارسون أدوارهم السّياسية في ضوء علاقة الممكن والمستحيل، في إطار الظروف الزمانية والواقعية أو المناخ السائد، وفي إطار يجمع بين الواقع وقدرٍ من الخيال، يساعد على تغيير الواقع في إطارٍ من الممكن، وهنا، يحدث التزاوج القائم بين الحقائق أو الاستحقاقات الثابتة واقعا، وبين الأحلام القابلة للتطبيق.
إن لمحة سريعة في الواقع السّياسي سوف تثبت لنا أنّ هناك ثلاث تصنيفات من الحوكمة والعمل السّياسي والتّعاطي مع الشأن العام؛ فالصّنف الأول هو ما يطلق عليه بـ : فنّ المُمكن في الزّمن المُمكن، والصّنف الثاني هو: فنّ المستحيل في الزّمن المستحيل، أما الصّنف الثالث فهو: فنّ المُمكن في الزّمن المستحيل أو فنّ المستحيل في الزّمن المُمكن. 
إنّ الحوكمة السّياسية التي تتعامل مع إرادة الشّعب وتخضع للواقع المتحوّل والمتغيّر، وتدور في فلكه، ولا تخرج عنه، هي سياسة فنّ الممكن في الزّمن الممكن، وهي سياسة تتبلور حسب المستجدّات من الأحداث والوقائع، كما أنّها تخلو من الصّراع مع جيل عصرها، ولا تصطدم معه؛ إذ تنشد التغيير في ظلّ الاستقرار، مع الحفاظ على أمن الوطن والاستمرار في تأييد النّظام القائم، وتتفادى الصّراع، وتميل للتنازلات والحلول الوسطى. 
أمّا السّياسة التي تصبو إلى تغيير الوضع الجديد القائم، ومحاولة تدميره، دون أن تستوعب ثقافة جيل عصرها، ودون أن تأخذ في الحسبان القوانين الموضوعيّة التي تحكم الوضع المتغير الجديد والقائم، فإنّ مآلها إلى الفشل، وهي سياسة فنّ المستحيل في الزّمن المستحيل.
لذلك أقول، بأنّ روح السّياسة هي فنّ تدبير الممكنات، وهذا يعني، أنّها في جوهرها تحويل هذه الممكنات إلى مجال من مجالات فنّ التفكير، أي توسيع آفاق الواقع المعطى، والسّعي الدّؤوب إلى إعادة بلورته وتشكيله من جديد والارتقاء به، وفق حساب دقيق لما هو بين يدي السّياسي من استحقاقات محصلة وإمكانيات متواجدة، أو محتمل تحصيلها ضمن شروط سياسيّة معينة، بهدف تعديل موازين القوى لصالح الشّأن العام، ومن ثمّ، التّركيز على الأمور التي يمكن تحقيقها، مع الأخذ بعين الاعتبار الطرف الآخر المشارك أو المتعاون، الذي سيحقّق معادلة التّلاؤم التي تقوم على المبادئ والتضحية. 
من جانب آخر، ينفرد فنّ تدبير الممكنات بالواقعيّة السّياسية، ليس بمفهومها السّلبي، وإنّما بالنّظر المتبصّر في الإمكانات المتاحة، التي يختزنها الواقع خلف ما يطفو على السّطح الخارجي، باتجاه فتح سُبل نحو الممكنات المطلوبة؛ بيد أنّ هذه الممكنات المطلوبة لا تنبني فقط على الرغائب أو الأماني، بقدر ما تنبني على حسن قراءة الواقع الجديد، وتوازناته العميقة، مصحوب بسعة الخيال وقوة التّصميم والإرادة. فالسّياسي الذي يأخذ بالواقعية، هو الذي يمزج بين رجاحة العقل وخصوبة الخيال وقوّة التّصميم والإرادة، لتوسيع أفق الممكنات. 
إن موازين القوى الدولية قد تشكّل وفق مقتضيات فنّ الممكنات، وهذا القانون – قانون فنّ الممكن - يحميه نظام عالمي يصعب التّحرك فيه إلاّ بما هو متاح وممكن سياسيّا، وهكذا تنجح السّياسة وترسم لها طريقها المنشود، والتّراجع عن هذا القانون يعدّ مغامرة ستصطدم بالواقع وبالسّنن والنّواميس الكونية.
وفي المقابل، لا ينبغي أن يؤخذ قانون فنّ الممكن ذريعة للتّنازل عن المكتسبات أو الحقوق أو الثّوابت الوطنيّة، أو سببا لتبرير العجز والفشل؛ ذلك أنّ الممكنات يجب أن تكون في إطار القانون والدستور، وبما لا يتعارض مع المصلحة العليا للوطن. 
وهذا لا ينسينا أيضــا – بما أنّ روح السّياسة تتضمّن فنّ الممكنات – فنّ مراكمة الخبرات والإنجازات؛ فقد أثبتت التّجربــــة التاريخية أنّ المجتمعات والحضـــارة الإنسانية بشكل عام، تتطوّر وتتقـــدّم من خلال مراكمة الانجــازات؛ انجازات الأنظمة السّياسيـــة وانجازات العلماء والمفكريـــن والمثقفين؛ فسياسة مراكمــة الانجازات تؤسَـــس على مبدأ التواصل التاريخـــي ورفض منطـــق القطع النهائـي أو التّجاوز، والاستفـــادة من التّجارب التّاريخية دون استنساخها أو التعامل معها كحقائق ومسلمات.
فلا شك، أن التّاريخ يعلمنا بأن الحضارة الإنسانية وتقدم المجتمعات يخضعان لسنن التطور ومراكمة الانجازات، وبالتالي لا يجوز لأيّ حزب أو نظام سياسي أن يتصرّف وكأنّ التّاريخ بدأ معه أو يزعم أنه يحتكر الحقيقة.
الهوامش
(1) الحوكمة أو الحكامة: مصطلح جديد في اللغة العربية، وُضِع في مقابل اللفظ الإنجليزي: (governance)، أو الفرنسي:  (gouvernance). والحوكمة هي الأنشطة التي تتعلق بالقرارات التي تحدد التوقعات، أو منح السلطة، أو التحقق من الأداء. وهي في كثير من الأحيان تتجه إلى تشكيل حكومة لإدارة هذه العمليات وتلك النظم.
(2) نيكولــو دي برنــــــاردو دي ماكيافيلّـــــي (Niccolò di Bernardo dei Machiavelli)‏ (3 ماي 1469 - 21 جوان 1527) ولد وتوفي في فلورنسا، كان مفكرا وفيلسوفا سياسيا إيطاليا إبان عصر النهضة.أصبح مكيافيلي الشخصية الرئيسية والمؤسس للتنظير السياسي الواقعي، والذي أصبح فيما بعد عصب دراسات العلم السياسي. أشهر كتبه على الإطلاق، كتاب الأمير.