قصص القرآن

بقلم
الهادي بريك
قصة موسى مع الخضر عليهما السلام
 مقدمة تأطيرية
ذُكر موسى عليه السّلام في القرآن الكريم أزيد من مائة وعشرين مرّة كاملة ولم يذكر أحد سواه بمثل هذا وإحتلّت قصّته مع قومه بني إسرائيل أزيد من ثلثي القصّة القرآنيّة بأسرها وهذه بدورها إحتلت من الكتاب العزيز ثلثه. السّؤال الذّكي هو لم كلّ هذا؟ لا أظنّ أنّه يمكن أن يختلف رجلان حول جواب مؤدّاه أنّ الله سبحانه يحقن كتابه كلّه تقريبا بقصّة موسى مع بني إسرائيل في زهاء ثلاثين موضعا لأجل رسم خارطة طريق لأمّة الإسلام عنوانها أنّ الظّاهرة الإسرائيلية بشقّيها اليهودي والمسيحي لم تكن خليقة بالعهد الذي استؤمنت عليه وأنّه آن الأوان لنزع ذلك العهد منهم وتوليته أمّة أخرى ليس من شيمتها أن تقول لنبيها : «إذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون» بل تقول في إثر قالة أحد قياديي الأنصار : «لو خضت بنا غمار الأرض لخضناه معك» . 
لم يكن ذلك العهد المنزوع ممّن وسد إليهم فلم يرعوه سوى إقامة الحقّ والعدل والقسط بين النّاس وإرساء دعائم التّعارف وسلّ سلائل التّنابذ والتّنافي ليؤمن من آمن عن بيّنة لا غبش فيها ولا إكراه وليكفر من كفر بمثل ذلك. تلك هي العبرة من احتلال موسى عليه السّلام وقومه بني إسرائيل لكتابنا وهو في الحقيقة كتابهم هم كذلك وهو كتاب النّاس أجمعين. العبرة هي أنّ الأمّة الإسلاميّة عليها حسن دراسة السّيرة الإسرائيليّة بمثل ما وثّقت هنا وليس بمثل ما وثّقت في الإسرائيليّات التي ولغت في بعض تراثنا وذلك لأجل رسم حياة جديدة تتجنّب ما وقع فيه الإسرائيليّون. أظنّ أنّ أولى النّاس بهذه العبرة هم نحن الذين نعايش الظّاهرة الإسرائيليّة من خلال إحتلال الصّهاينة لفلسطين وإبتزازهم لقوى غربيّة. أظنّ أنّ الكتاب العزيز ربّما لا يخاطبنا في شيء يحضرنا عيانا جهارا بهارا خطابه إيّانا فيما يتعلق بالظّاهرة الإسرائيليّة التي نكتوي بنارها صباح مساء. أظنّ أنّ هذا الجانب وحده كفيل بطرح قالة إستشراقيّة قوامها أنّ القرآن الكريم كتاب تاريخي أكل عليه الدّهر وشرب.
سبب القصّة
سئل موسى عليه السلام من لدن قومه عمّن هو أعلم أهل الأرض فأشار إلى نفسه ولم يكن ذلك منه سوءا إذ هو النّبي الرّسول الكليم من أولي العزم الخمسة وهو ما يوطّد عرى الثّقة بينه وبين قومه سوى أنّ الله سبحانه أوحى إليه أنّ هناك من هو أعلم منه وأشار عليه بالسّفر إليه ليتعلّم منه وضرب له علامة للقياه. لم يتردّد الكليم عليه السّلام ونفر إلى طلب العلم من رجل قد يكون نبيّا وقد لا يكون رغم أن ما في القصّة ما يؤكد أنّه يوحى إليه وقد سمّاه بعضهم «الخضر» مستندا إلى بعض الرّوايات ولكن هذا لن يقدّم ولن يؤخّر ولو كان لإسمه أيّ دور في رسالة القصّة التي نحن بصددها ما ضنّ علينا القرآن بذلك. اصطحب الكليم عليه السّلام معه غلامه وكانت العلامة نسيان الغلام لما يتبلغان به في السّفر ـ أي غداؤهما وهو حوت ـ ثم بدأت القصّة وبدأ تركيز القرآن الكريم كعادته دوما على عبرها ودروسها
العبرة الأولى : 
رأس العلم الحدب على حقوق الضعفة
ما إن صعد الخضر وموسى عليهما السّلام في السّفينة حتى خرقها الرّجل المعلّم ولمّا آن أوان شرح سرّ ذلك الخرق أخبر موسى عليه السّلام أنّ السفينة كانت لمساكين يعملون في البحر وأنّ وراءهم ملكا يأخذ كل سفينة غصبا ومؤدّى ذلك هو أنّ العيب الذي أنشأه الخضر عليه السّلام في سفينة المساكين كفيل بتحصينها من الغصب. أليس الدّرس الأعظم هو أنّ العلم كلّه الذي جاء إليه النبي الرّسول الكليم موسى عليه السلام نافرا إنّما هو أن يتعلّم الإنسان ـ بل النّبي نفسه ـ كيف يتحيّل ويكيد لأجل حفظ حقوق المساكين؟ ألم يكن موسى عليه السلام يعلم مثل هذا؟ هل هذا علم يحتاج معلّما وسفرا؟ أظن أوّلا أنّ محلّ العلم هم نحن بالأصالة وموسى عليه السّلام ومن معه بالتّبعية لأنّ الكتاب موجّه إلينا نحن. وأظن ثانيا أنّ تعليب هذا العلم الإجتماعي الإغاثي الإنساني في ثوب من القصّة وفي رداء من التّطبيق الميداني بمثل ما وقع بين الرّجلين عليهما السّلام أدعى إلى أن يحقن به النّاس ونحن أولى من يحقن به. أدرك جيدا أنّه لفرط بعدنا عن المقصد الأصلي للعلم يقلّ الذين يقنعون بهذا. ولكني لا أرى درسا أولى بالإقتطاف من هذا الدّرس وعنوانه أنّ العلم لا يجتنى إلاّ لأجل حفظ وتحصين حقوق النّاس وخاصّة الضعفة منهم وبصفة أخصّ في وجه الملوك والكبراء الذين يتمترسون خلف جحافلهم لغصب الحقوق ونهب الأعراض وسلب الأموال
 العبرة الثانية : 
فقه الموازنات كفيل بتوفير علم نافع
هذه العبرة نفسها تجتنى من المشهد الأول من قصّة موسى عليه السلام مع الخضر أي خرق السّفينة. ذلك أنّ الذي جعل موسى لا يصبر هو حبس بصره في المشهد القائم دون توسيع دائرة النّظر لتشمل الأفق. أي أنّ العمل كثيرا ما يكون عيبا معيبا في ظاهره وحاضره ومن يرضى بخرق سفينة لمساكين لا جريمة لهم سوى طلب العيش الحلال؟ ولكن عندما يحبس المرء نفسه في المشهد الحاضر القائم لا يوسع دائرة أفقه لا إلى ما قد كان قبله ولا إلى ما قد يكون بعده فإنّه لا يتسنّى له أن يستوعب ما سمي قديما فقه الموازنات أي العلم الكفيل بتركيب المصالح والمفاسد ضمن معادلة واحدة لتغلب المصلحة إن غلبت أو المفسدة إن غلبت وذلك هو شأن الحياة كلها تقريبا فهي لا تخلو في كلّ دوائرها العامّة من اختلاط عجيب بين المصالح والمفاسد ومن ذا وجب تحكيم فقه الموازنات أو ما سمي كذلك فقه الأولويات أو ما سماه إبن القيم عليه الرحمة والرضوان فقه مراتب الأعمال. ذلك هو الذي فات موسى عليه السلام مع إخبار الله عنه في موضع آخر أنّه سريع الغضب مع حلم عجيب بخلاف أخيه هارون عليهما السّلام. في هذا الدّرس لنا اليوم جانب من جوانب الفقه السّياسي لما يحدث في تونس مثلا في إثر الثّورة ولولا أنّ التّوسع فيه غير مرحّب به هنا لإقتطفنا منه عبرا غزيرة تصلح لما يقع في مشاهد كثيرة من حياتنا تأخذنا العجلة أو النّقمة لنسلط عليها أحكاما حدّية والحال أنّها صنو ما كان هنا بين الرّجلين عليهما السّلام أي أنّها مشاهد مركّبة لا يصلح لها إلاّ عقل مركب يرصد الأفق ويوازن بين المصالح والمفاسد ولا أحد يشاكس في أنّ سفينة معطوبة خير للمساكين من سفينة مغصوبة. وأظنّ أنّ تونس التي لا تسير كما يرجو أهل الخير والصّلاح خير من تونس التي يراد بها الالتحاق بالسّفينة السّورية المحطّمة لا قدّر الله
العبرة الثالثة : الإمامة في الدين 
وفي السياسة هي صون أموال اليتامى
أنتقل إلى المشهد الثالث أي مشهد الجدار المرمّم وذلك بسبب أنّه يشترك مع المشهد الأول ـ مشهد السّفينة المخروقة ـ بالتّمام والكمال في الدّرس الأعظم من القصّة الموسوية الخضريّة كلّها تقريبا. شغب الجوع على الخضر وصاحبه فطلبا ضيافة قوم فلم يضافا بخلا وحرصا وفي تلك الأثناء عثر الخضر على جدار يهمّ بالوقوع فقام بترميمه ولمّا آن أوان شرح المسألة لرفيقه موسى عليه السلام أخبره أنّ تحت الجدار مالا لغلامين يتيمين وكان أبوهما صالحا ويقال أنّ أباهما الصّالح ليس هو الذي من صلبه خرجا بل هو جدّ بعيد وهو على كل حال سائغ في اللّسان العربي. العبرة هي أنّ هذا الإمام ـ دينا وسياسة ـ الذي يعلم الكليم موسى عليه السلام يريد أن يعلّمنا به الله أن نكون من أهل « أم الصبي»  كما ورد في القصة النبوية الصّحيحة أي أنّه إذا وقع خلاف بين قوم على قضيّة فإنّ الحكمة كلّ الحكمة هي أن يتنازل العاقل عن حقّه ـ والضّيافة في حدودها قدرا وزمنا حقّ عرفي معروف قبل أن يكون حقّا شرعيّا ـ لأجل حفظ القوم كلّهم بما فيهم سفيههم . أن تكون أمّ الصّبي ليس سهلا ولا يسيرا على النّفس بل هي جرعة من الغيظ ربّما يكون بلع السّم الزّعاف أهون منها وألذّ ولكن التّضحية بحق النّفس وحقّ الحزب وحقّ الذات لأجل حفظ الحقّ العام حتى لو كان الطّرف المقابل سفيها هي الحكمة المطلوبة . ذلك هو الميزان الذي ركلناه تمسّكا بزعمنا الكاذب بالكتاب والكتاب نفسه هو الذي أخبرنا أنّه وحده لا يكفي فلا بدّ معه من الميزان ولمن أراد تفصيلا فليعد إلى سورة الحديد. حرص الخضر على صون مال اليتامى وهو يتضوّر جوعا وصاحبه والعبرة هي أنّ يجوع القائد ويعرى أبناؤه لأجل حفظ ما يمكن حفظه من تكافل إجتماعي عام. هو درس آخر من دروس فقه الموازنات وعلم الأولويات ومعرفة مراتب الأعمال مقايسة للمصالح والمفاسد وهو ما سمي قديما وحديثا كذلك علم المآلات وهو ما ينقص الناس اليوم سيما الذين يهتمون بالشأن العام من سياسيين وإعلاميين ومتابعين ومراقبين فضلا عن المنتظمين والمتعاطفين مع هذا الحزب أو ذاك. لا يستقيم الدين إلا بمثلث ثلاثي الأضلاع : فقه النّص وفقه المقصد وفقه المآل ولا يستقيم تديّن حتّى يعرف المآل قبل التّطبيق فإن كان مآلا حسنا طبّق النّص وإلاّ عدل عنه كما فعل الفاروق عليه الرّضوان في مواضع كثيرة لا يجدر بالمتعاطين مع الشّأن العام سوى حسن كنهها أن يضلّوا أو يضلوا.
العبرة الرابعة : 
صلاح الأصل مؤثر في وقاية الفرع
هذه العبرة مستقاة كذلك من المشهد الثالث الأخير من مشاهد الرجلين عليهما السلام. لم يرد قوله «وكان أبوهما صالحا» سوى ليعلمنا الله سبحانه أنّ الإنسان قد يوقى شرّا أو يجنب ضرّا بسبب خير فعله أحد آبائه أو أجداده. لم يخبرنا القرآن الكريم عن اليتيمين هل علما بما فعل الخضر لهما ولا هل علما بسبب ذلك ولكن أخبرنا بالدّرس وقوامه أنّ الخير لا يموت ما دامت السّماوات والأرض والحياة دوارة موارة وربما وقي أحدنا وهو لا يشعر مرّات ومرّات بسبب خير فعله أسلافه وهو ما يدفع إلى فعل الخير لعلّ أحفادنا يوقون به أو يحصنون ودعهم لا يشعرون بذلك حتّى يكون ولاؤهم لله سبحانه أوكد وأذخر.
زراعة الخير بمثل زراعة الثّمرات قد تؤتي أكلها في حينها وقد يؤخّر أكلها ردحا من الزمن وكم من فسيلة غرسها صاحبها فأكل منها النّاس من بعده وأجر ذلك كلّه يصب في حسابه المفتوح من بعد موته إلى يوم القيامة والناس لا يشعرون. وكم من جلاّد يعذب النّاس في الدّنيا ويؤجّر على ذلك براتب وأموال ومنافع فإذا أوشك على سنّ التقاعد أو على الموت ظهر البلاء في ولده ليكون معوقا أو فلذة حرام وبذلك يعذب مرّتين ولعذاب الآخرة أشدّ وأخزى.
العبرة الخامسة : 
الإيمان بالقضاء والقدر مخّ السعادة
في المشهد الثّاني من القصّة عمد الخضر إلى قتل غلام لم يأت في الظّاهر أيّ جرم يستحقّ ذلك وكالعادة ثارت ثائرة موسى عليه السّلام ولمّا آن أوان شرح ذلك أخبره بأنّ للغلام أبوين مؤمنين ويخشى عليهما الرّهق من فساده وطغيانه وكفره. هذا المشهد هو الذي يؤكّد بما لا يدع مجالا لأيّ ريب أو شكّ بأنّ الخضر عليه السّلام نبيّ يوحى إليه لأنّ مشهد السّفينة المخروقة وكذا مشهد الجدار المرمّم يمكن أن يستوعبهما أيّ عقل حصيف عملا بفقه الموازنات ولكن قتل غلام بريء بدون أيّ سبب ثمّ الإخبار بأنّ المسألة متعلّقة بأبويه وما قد يجنيان من عقوقه .. ذلك أمر لا بدّ أن يكون وحيا يوحى لأنّ العقل لا يمكن له مهما أينع أن يستشرف الغيب. هذا أمر يحيّر أهل الألباب كذلك ولو سألت النّاس من حولك بل لو بدأت بنفسك ربّما ما وعبت هذا حقّ الوعب. 
الأمر يحتاج إلى حديث لولا أنّ هذه العجالة لا أريد لها الإسهاب والأطناب. أكتفي بالقول بأنّ الله يعلّمنا في هذا المشهد الذي توسّط مشهدي الحالة الإجتماعيّة ـ السفينة والجدار ـ أنّ الإيمان بالقضاء والقدر هو مخّ الإيمان به سبحانه وهو الكفيل بجلب السّعادة والطّمأنينة والسّكنية في الأفئدة. مشكلة المرء هي أنّه لا يعلم الغيب ولا يريد لذلك الغيب إلاّ أن يكون بمثل ما يريد هو. يريد الإنسان لفرط عجلته أن ينازع الإله الذي يؤمن به وله يسجد ويعبد شيئا من أمره وتدبيره. 
لم يخبرنا القرآن عن ردّ فعل هذين الأبوين ـ أي الوالد والوالدة ـ لما علما بقتل الخضر لولدهما ولكن لا شكّ أنّهما جزعا وهلعا وبكيا وحزنا في البداية غريزة مغروزة فينا والحزن في محلّه عبادة بمثل الفرح في محلّه ولكن لا شكّ كذلك ولا ريب أنّهما إستقبلا من بعد الصدمة الأولى قضاء ربّهما سبحانه برضى حتّى لو لم يعلما سبب القتل. العبرة موجّهة إلينا نحن اليوم عندما يفقد الواحد منا قريبا له أو حبيبا أو ولدا مثل هذا في مقتبل العمر وبصورة فجائية أو في حادثة قتل أو حادث مرور أو غير ذلك. 
العبرة هي أنّه علينا أن نؤمن بالقضاء حقّا إيمانا عمليا وليس نظريا ولذلك جاءت هذه القصّة بأشياء عمليّة ولو جاءت بها نظريّة لما أثارت فينا الذي أثارت. هذه قصّة عمليّة للإيمان بالقضاء والقدر وذلك هو منهج القرآن عندما ينقلنا من النّظرية إلى التّطبيق. لو خيّر هذان الأبوان بين ما سيلقيانه من عقوق وبين حياة ولدهما لأختارا طبعا حياته على موته ولكن الله يعلمنا أمرين : أولهما أنّه هو المدبر وليس نحن وهو لا يستشير أحدا في حياته أو موته ولا في حياة قريب له أو في موت حبيب له وثانيهما أنّ الإيمان بالقضاء تسليما له سبحانه يبعث السّعادة في النّفوس لأنّ الانشغال بأمر المستقبل وأمر الولد بأكثر من اللّزوم عذاب شديد. أليس تشغب الشّقاوات على كثير من الغربييّن اليوم والغربيّات بسبب عدم إيمانهم بمثل هذا. إمتلأت حياتهم بالحديث عن المال والدّنيا والمستقبل فإذا سارت الدّنيا بهم بغير ما يشتهون أقبل بعضهم على قتل نفسه. 
ليس كالإيمان بالقضاء عاصما من الإنتحار والحقيقة أنّ هذا الفنّ هو فنّ فقراء المسلمين أولئك الذين تراهم في أسمال بالية ولكن الواحد منهم بمثل جبل راسخ أشمّ من الإيمان الباعث للسّكينة والطمأنيّة والسّعادة وليس معنى ذلك أنه لا يحزن بل يحزن ويبكي ولكن العاقبة رضى.
العبرة السادسة : أدب العلم طلبا الصبر 
والسؤال وبثا الإجتهاد والتوضيح
هذه عبرة مهمّة قوامها أنّ طالب العلم ـ في حالة موسى عليه السلام ـ عليه أن يسافر ويغامر ويتحمّل الشّعث والوعثاء والجوع لأجل الظّفر بالعلم وأنّ عليه الصّبر على ذلك الطّريق وعليه الصّبر على ما لم يستوعب من القضايا حتى يأني أوان توضيحها من لدن المعلّم . على أنّ موسى كان محقّا في السّؤال وربّما لو لم يسأل ما كان الخضر ليوضح له ما خفي عنه ولكنّه غير محقّ في عدم الصّبر والتّعجل على صاحبه قبل أن يأني أوان التّوضيح. على طالب العلم أن يجمع بين الصّبر وبين السّؤال معا. عدم السؤال في مثل هذه القضايا المركبة ـ أي التي يختلط صالحها مع فاسدها ـ لا يمكن طالب العلم من التجهز بفقه الموازنات. ألم يقل حبر الأمّة عليه الرّضوان أنّه كسب العلم الذي به تأهّل ليكون للقرآن الكريم ترجمانا بلسان سؤول وفؤاد عقول؟ الذي لا يسأل لا يتعلّم والذي لا يسأل لا يكون في العادة إلاّ متكبّرا. 
أما أدب باثّ العلم ـ حالة الخضر ـ فهو أن يعذر طالب العلم على عدم صبره وسنأتي إلى هذا في درس لاحق بحوله سبحانه وأن يوضح له ما خفي عنه في أوّل فرصة ممكنة لأنّ العلم بالتّعلم كما قال عليه السّلام فلا يولد المرء من بطن أمه عالما. كما أنّه على باثّ العلم أن يكون مجتهدا أي كما كان الخضر ومعنى إجتهاده هو أنّه يجمع مركبات الصّورة كلّها في مشهد واحد متعدّد الأبعاد فإذا تجمعت له الصورة اتخذ حكمه ونفذه غير آبه بقول النّاس وكلام السفهاء والمتعجلين. تطبيق ذلك هو أنّ الخضر لو راعى مشاعر موسى أو من في السّفينة لما خرقها ولو لم يخرقها لغصبها الملك الجائر ولحرم المساكين من مورد رزقهم ولو راعى مشاعر موسى أو مشاعره هو وهو يمنع من حقّ الضّيافة لما رمّم الجدار ولو لم يرممه لهوى وعثر البخلاء على المال وحرم الأيتام، من حقّهم ولو لم ينفذ أمر ربّه إليه فلم يقتل الغلام لأرهق أهله رهقا ربما يصيران به غير مؤمنين أو يحدث في البلاد من الفساد عجائب. لباثّ العلم شجاعة لا بدّ منها، أمّا التردّد فهو محبط.
العبرة السابعة : 
الإعذار كالطلاق مرتان والثالثة فراق
لم أجد أشدّ ذكاء من الإمام الشّاطبي وهو يصنف سفره تحت إسم الموافقات في الشّريعة، ذلك أنّ الشّريعة توافقات وموافقات فعلا ومصالحات وتصالحات حقّا وليست متقابلات وصراعات . كلّ أحكامها هي كذلك أي يتوافق بعضها مع بعض ولكن لا يدرك ذلك عدا المهتمين المثابرين. وجه التّوافق هنا هو أنّ الطلاق مرّتان كما ورد في سورة البقرة والثالثة لا رجعة بعدها إلاّ من بعد نكاح جديد آخر وطلاق جديد آخر قد يكون وقد لا يكون. وبمثله يكون الإعذار للنّاس عندما يخطئون أي أنّ الخضر علمنا به الله سبحانه أنّه للمرء أن يعذر المخطئ ـ موسى في صورة الحال من خلال عدم صبره وليس من خلال سؤاله ـ مرّة أولى ومرة ثانية فإن عاد إلى خطئه كان الفراق ولكنّه فراق بإحسان. ذلك أن الإنسان خطّاء وخير الخطائين التّوابون كما قال عليه السّلام، وجلّ من لا يخطئ ولا ينسى ولكن الخطأ المتكرّر مرّات ثلاث متوالية بدون مراجعة يستوجب أن يوضع له حدّ عسى يعود صاحبه إلى رشده. 
لا أظن أن الله سبحانه أورد هذا على لسان الخضر إلاّ ليعلمنا نحن اليوم أنّ علاقاتنا يجدر بها أن تكون كذلك لأنّ المخطئ الذي يطلق له العنان لا خير فيه ولا خير في من لا يعلمه والذي لا يردّ يد لامس بالتّعبير القديم ـ أي الذي لا يضيره أن أساء إليه الناس أو أحسنوا ـ لا يصلح أن يكون معلّما. هناك مسافة في العلاقات البشريّة حال الخطإ لا بدّ منها وذلك لمصلحة طالب العلم فلا بدّ أن يتعلّم أنّ التّمادي في الخطإ مثقبة له وليست منقبة لمعلمه إن لم يرشده كما فعل الخضر مع موسى عليهما السلام.
خلاصة العبر
طلب العلم فريضة لا يعفى منها حتّى الأنبياء والمرسلون وأولو العزم الخمسة. المقصد الأسنى من طلب العلم هو الحدب على حقوق الضعفة وحفظ مصالح المحتاجين والأيتام والمساكين وإلاّ فإنّ العلم بدون ذلك يغدو ترفا فكريا ينفخ الرؤوس ويثمر الكبر والعلوّ. وعلى أهمية العلم النظري والحاجة إليه في مظانه فإنّ العلم التطبيقي العملي مقدّم لأنّه ينفي التّرف الفكري ويتوجّه مباشرة إلى خدمة النّاس . العلم أمر مركب متعدّد الأبعاد والحياة بمثل ذلك والإنسان ومن ذا كان لا بدّ من فقه الموازنات وعلم الأولويّات ومعرفة مراتب الأعمال مقايسة بين المصالح والمفاسد ذلك أنّ الحياة لا تخلو في كلّ شأن تقريبا من اشتباك بينهما ولذلك قال بحق إبن تيمية عليه الرّحمة والرّضوان : «ليس العاقل من يعرف الخير من الشرّ، بل العاقل من يعرف خير الخيرين وشرّ الشرّين». أكثر النقاشات المعيقة والجدالات العقيمة إنّما تدور اليوم وخاصّة في الشأن العام والسّياسي حول الخير والشرّ وليس حول خير الخيرين وشرّ الشرين ولو حبس الحوار نفسه هنا لإنتفت خلافات عقيمة كثيرة ولتوحّدت صفوف آن لها أن تتوحد.