تجليات

بقلم
محمد ابراهمي
الصلاة وأثرها في عمارة الأرض
 تقديم:
إذا كانت الصلاة في ظاهرها عبادة ذات أقوال وأفعال مخصوصة، تبتدئ بتكبيرة الإحرام، وتنتهي بالسلام، فهي في حقيقتها صلة بين العبد وخالقه، يناجي فيها ربّه، ويسأله فيها وبها حاجته، يصل الرّوح ببارئها، والنّفس بخالقها، ويرتقي في مراتب التّكريم في ضيافة الرّحمان الكريم.
إنّ الصّلاة هي العبادة الوحيدة التي فرضت في السّماء ليلة الإسراء والمعراج، وهي أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة، بنصّ حديث رسول لله صلى الله عليه وسلم « أوّل ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صَلُحَت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله» (1).  وهي آخر ما أوصى به النّبي صلى الله عليه وسلم وهو على فراش موته، في قوله عليه الصّلاة والسّلام « الصّلاة وما ملكت أيمانكم»(2)، وهي عماد الدّين والرّكن الرّكين لقوله صلى الله عليه وسلم « بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحجّ، وصوم رمضان»(3). وهي النّور والأمان في الدّنيا والآخرة، لقوله صلى الله عليه وسلّم « الصّلاة نور» (4)،  و« لن يلج النّار من صلّى قبل طلوع الشّمس وقبل غروبها» (5)،  و«من صلى الفجر فهو في ذمة الله» (6) .
وفيها وبها يطهر الإنسان من الذّنوب والمعاصي لقوله صلى الله عليه وسلّم « أرأيتم لو أنّ نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كلّ يوم خمسا، ما تقول ذلك يبقي من درنه؟ قالوا: لا يبقي من درنه شيئا، قال: فذلك مثل الصّلوات الخمس يمحو الله بهنّ الخطايا»(7) .
إنّ الحديث عن دور الصّلاة في عمارة الأرض مقصد أصليّ، والمقصد التّبعي ألاّ تتحول الصّلاة إلى عادة يؤدّيها الإنسان للتّخلص من تبعاتها، فتكون الصّلاة موضع راحة وارتياح، لا موضع ثقل ومشقّة، ينتظر الإنسان متى ينتهي من أدائها، ويتخلّص ويرتاح منها، ويتحقّق دور الصّلاة في الإعمار من خلال بناء الإنسان السّوي السّليم، الصالح المصلح في محيطه ومجتمعه، وبناء المجتمع القوي المتماسك والمتضامن، القائم على الحقّ والعدل والنّظام الاستقرار، وهما نتيجتان طبيعيتان لأداء الصّلاة بشروطها وأركانها وخشوعها، ويترتّب عن هاتين النتيجتين، عمارة في الأرض على منهج الله في الوجود، القائم على صلاح الإنسان وسعادته فردا وجماعة، وتحقيق الخير له في مختلف مجالات حياته، بما يحقّق له الاهتداء إلى السّعادة الكاملة، بالخلود في جنّات النّعيم، « يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم» (8) .
1: الصلاة وبناء الإنسان السوي السليم:
تتحقّق آثار الصّلاة في حياة الإنسان كلّها، وتحقّق له السّلامة الشّاملة في مستويات صحّته المختلفة، فللصّلاة فوائد تطال نفس الإنسان وفكره، وفعله وجسمه، فتساهم بذلك في تحقيق العافية للمصلّي، في جوانب شخصيته وسلوكه، كي يؤدّي دوره ورسالته المنوطة به في الحياة، بما يتماشى مع وظيفته في الإعمار، ومن أهمّ آثار الصّلاة الصّحية على الإنسان:
1/1: السلامة النفسية: 
وهي حالة وجدانيّة مستقرّة تمكّن الإنسان من الاستقرار والانسجام في الحياة، وتجعل منه شخصيّة متوازنة، قادرة على التّفاعل مع المحيط، تأثيرا وتأثّرا، وعلى التّواصل مع النّاس وربط العلاقات الاجتماعيّة، وعلى التّكيف مع الأحداث، والصّبر على المشاق، والسّعادة بالأفراح، في طمأنينة وسكينة، نابعة من الإيمان الصّادق، والعلم الواضح بحقيقة الوجود، وبالغاية من الخلق، حيث يضع المسلم المصلّي الخاشع في صلاته الأحداث التي تصادفه في إطارها، ومسارها في الحياة، فلا يجزع من شرّ أصابه، ولا يغترّ بخير ناله، شعاره، قوله صلى الله عليه وسلم « عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كلّه خير، وليس ذلك لأحد إلاّ للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له! وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له!»(9)، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشّوكة يشاكها إلاّ كفر الله بها من خطاياه»(10) وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد و أبي هريرة رضي الله عنهما أنّهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن، حتى الهمّ يهمّه إلاّ كفر به من سيئاته» (11) 
وقد أكّد الله تعالى أنّ من أهم مقاصد الصّلاة تحقيق السّكينة والطمأنينة، في قوله تعالى « إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون» (12)، ويتحقّق هذا الاطمئنان بوصل النّفس بخالقها، فالروح قبس من روح الله، نفخها في الجسد، سعادتها واستقرارها باتصالها بأصلها، وتعاستها في ابتعادها عن بارئها، فكما للجسد طاقة يتحرّك بها، يستمدّها من الغذاء الذي يتغذّى عليه، فللرّوح حاجة للطّاقة كي تعيش، تستمدّها من الاتصال بالخالق، وهو الذي يتحقّق في الصّلاة، بالذّكر والقراءة والتّسبيح والتّعظيم والمنجاة، وهي طاقة تجعل الرّوح في ارتقاء وسعادة دائمتين، تنعكس آثارهما على جسد الإنسان وعلاقاته، وسلوكه وتصرفاته.
2/1: السلامة السلوكية:
 الاستواء النّفسي، والسّعادة لن ينتج عنها إلا فعلا سويّا، وسلوكا سليما، وعلاقة طبيعية حسنة مع النّاس، وهو الذي يتحقّق في الصّلاة، بدليل قول الله تعالى « إنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر»(13)، فالمصلّي الخاشع في صلاته المستحضر لخالقه، المتعلّق به، الموقن برقابته، المتطلّع للقائه،  يستحيي أن يراه الله في مكان نهاه عنه، أو يقوم بفعل أمره بتركه، أو تاركا لعمل أمره بفعله، فلن تجده إلاّ طائعا خاشعا خائفا من عذاب الله وشديد عقابه، وراغبا محبّا مشتاقا للقاء الله ولمغفرته وجزيل ثوابه، مستحضرا على الدّوام أنّ الله معه، وأنّه « يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور» (14) و« يراك حين تقوم، وتقلّبك في السّاجدين»(15)، و«يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السّماء وما يعرج فيها»(16)، فالصّلاة طريق للابتعاد عن كلّ فعل قبيح، وسبيل للاقتراب والفعل لكلّ عمل صالح يعود نفعه على المصلّي وعلى محيطه القريب والبعيد، فهي الطّريق للجدّ والاجتهاد، والصّدق والأمانة، والعمل والعطاء، وهي وقاية ومنجاة من المنكر والفحش، والخيانة والغدر، والكسل والجبن، وغيرها من مساوئ الأخلاق.
3/1: السلامة الفكرية:
 جاء في تعريف الخشوع أنّه استحضار للذّهن، وتركيزه، ومنعه من التّشتت، فقد جاء عن بعض الحكماء أنّ الفرق بين الأذكياء والأغبياء يكمن في القدرة على استحضار الذّهن، فالخاشع يمتلك قدرة على التّحكم في فكره، وعلى حسن توظيف عقله، وتوجيهه الوجهة السّليمة التي يعود نفعها عليه في حياته كلّها، وقد أكّد ذلك الله تعالى، حيث يقول في الصّلاة الخاشعة والمصلّي الخاشع « قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون»(17)، فالصّلاة تساعد على استحضار الذّهن وعلى قوّة العقل ونفاذه، إذ الذي يدرّب عقله يوميّا على التّركيز، ويقوم باستمرار بحصر ذهنه في الصّلاة، يمتلك القدرة على حصر ذهنه في عمله وتعلّمه، وفي مختلف حالاته، في مواقفه وعلاقاته المختلفة، وهو ما يجعل منه أكثر قدرة على الفهم والتّركيز، وعلى التّحليل والتّركيب، وعلى استخلاص الدّروس والعبر والخلاصات، وعلى العمل المتقن والجاد والمنتج.. كما أنّ المصلّي متّق لله، والمتّقي أكثر عطاء، وأكثر علما لقول الله تعالى « واتقوا الله ويعلمكم الله» (18)، وصدق الشافعي في قوله:
شكوت وكيعا سوء حفظي
فأرشدني لترك المعاصي
وقال لـــــي إنّ العلـم نور
ونور الله لا يهدى لعاصي
4/1: السلامة الجسدية: 
وأول أشكال السّلامة التي تحقّقها الصّلاة، كما سبق السّلامة النّفسية، التي تعتبر أسّ السّلامة الجسديّة والسّلوكية، فالمصلّي دائم الصّلة بالله، يصل الرّوح ببارئها، حيث تنعم وتستقرّ وتجد راحتها، لأنّ غذاءها في وصلها بخالقها، ومناجاة ربّها، وفي الاتصال الدّائم به، وقد أثبت النّص القرآني ذلك في العديد من الآيات منها قوله تعالى « الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب» (19)، والذّكر مقصد من مقاصد الصّلاة، لقول الله تعالى « إنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر» (20). كما يثبت ذلك قوله تعالى « ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى» (21). وقد أثبت ذلك العديد من المعطيات والوقائع والأبحاث التي رصدت أثر الابتعاد عن الخالق في السّلوك والحالة النّفسية، وأكّدت أنّ الاستقرار النّفسي، والسّلامة الصّحية بل والعقلية في التّعلق بالخالق، والتّوجه إليه بالطّاعة والعبادة، والمواظبة على ذلك، وتؤكّد الحقائق العلميّة والتّجارب الواقعيّة أنّ المدخل النّفسي مدخل لعلاج الكثير من الحالات المرضيّة العضويّة، حيث يلجأ الأطبّاء للدّعم النّفسي، وتقوية الثّقة في الله وفي النّفس أثناء معالجة المريض، لما لذلك من آثار باهرة في استعداد الجسد للشّفاء، واستجابته للعلاج، وامتلاك طاقة وقدرة عجيبة على مسايرته، كما للصّلاة أثر مباشر على سلامة الجسد، إذ كشفت التّجارب العلميّة أنّ الصلاة تقي من الكثير من الأمراض، كمرض دوالي السّاقين الذي هو عبارة عن مرض يصيب أوردة السّاقين، يتمثّل في ظهور أوردة غليظة وممتلئة بالدّماء على طول الطّرفين السّفليين، وهو مرض كما جاء في العديد من الدّراسات يصيب نسبة كبيرة من البشر، بين عشرة إلى عشرين بالمائة من مجموع سكّان العالم، كما تمكّن الصّلاة من تقوية العظام، وعضلات البطن، وغيرها من الآثار المبثوثة في مظانها من الكتابات التي اهتمت بالآثار والفوائد الطبّية للصّلاة على الإنسان.
2: الصلاة وبناء المجتمع السّوي السّليم:
المجتمع هو مجموع أفراده، تربط بينهم علاقات، وتضبطها أحكام وتشريعات، وتؤطّرهم قيم مصدرها الدّين، وما تعاقد عليه النّاس من أعارف وعادات استقرت في النّفوس، ممّا لا يتعارض مع صريح المعقول، وصحيح المنقول، فإذا كان الفرد سويّا صالحا امتدّ صلاحه واستواؤه لعلاقاته مع محيطه الاجتماعي، وأكيد أنّ المسلم إذا واظب على الصّلاة بشروطها وأركانها وخشوعها، ستحقّق أثارها في نفسه، وسيمتدّ ذلك لمحيطه، فتنشأ في المجتمع علاقات سويّة، وممارسات تمنح من قيم الدّين وأخلاقه التي يتربى عليها المصلي في صلاته وذكره وقراءته، فالمجتمع الذي فيه مصلّون تتحقّق فيهم فوائد الصّلاة النّفسية والفكريّة والسّلوكيّة والجسديّة، مجتمع سليم سويّ يمتلك كلّ مقومات الشّهود الحضاري، وكلّ وسائل الاستمرار والاستقرار، ووسائل الممانعة من عوامل التّحلل والانهيار. كما للصّلاة آثار تتجاوز الفوائد التي تطال الفرد لوحده، لتشمل المجتمع ككل، من خلال ما توفره الصّلاة من فرص لتحقيق التّعارف والتّواصل، الذي يعتبر الغاية من خلق النّاس مختلفين لقوله تعالى « يا أيها النّاس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم» (22)، ومن خلال ما تحقّقه من قيم المساواة والعدل حيث في بيوت الله تنتفي مظاهر التّمايز والتّفاوت الذي تصنعه عوامل المال والجاه والنّسب، فالكلّ سواسية بين يديّ الله، لا تفاضل في اختيار المواقع أو هيئة الصّلاة وأفعالها، فمن سبق كان له فضل الصّلاة في الصّف الأول، والكلّ يركع ويسجد في خضوع وذلّة بين يدي الله، والكلّ صلاته تقاس بمقاييس الإخلاص والصّدق والخشوع، والتقوى، وليس بمقاييس الحسب والنسب والجاه والثراء، فالله لا « ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» (23). 
كما يتربّى المسلم في صلاته على قيم النّظام الذي يستمدّه من انضباطه لمواقيت الصّلاة الذي أمر الله به في قوله تعالى « إنّ الصّلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا» (24)،  ويستمدّه من صلاة الجماعة التي ينضبط فيها المصلّون لحركات منسجمة متناسقة في صفوف متراصّة مستوية مستقيمة من وراء إمام آمر موجّه قائد لرحلة الارتقاء إلى الله، والتّواصل معه.
فالصلاة مدرسة للتّربية على القيم الصّالحة، وعلى الأخلاق والصّفات الحسنة التي تخصّ الفرد والمجتمع على السّواء، بما يساهم في تحقيق الإعمار بالمفهوم القرآني، الذي تنعكس أثره على الحياة، سعادة واستقرارا، وصلاحا وإصلاحا، ويشمل مختلف المجالات، ويمتدّ في مختلف العلاقات، لكي تكون الحياة رحمة وسعادة في الأولى، وفوزا ونجاة في الآخرة.
الهوامش
(1)  رواه الطبراني في المعجم الوسيط. 
(2)  أخرجه ابن ماجة في سننه.
(3)  متفق عليه.
(4)   أخرجه مسلم.
(5)   أخرجه مسلم.
(6)   أخرجه مسلم.
(7)  أخرجه مسلم.  
(8)  سورة الشعراء - الآيتان 88 و89.  
(9)  أخرجه مسلم.  
(10) صحيح البخاري.  
(11)  صحيح مسلم.  
(12) سورة العنكبوت - الآية 45.  
(13)  سورة العنكبوت - الآية 45.  
(14)  سورة غافر - الآية 19.  
(15)  سورة الشعراء - الآيتان 218 و219.  
(16)  سورة سبأ - الآية 2.  
(17)  سورة المؤمنون - الآيتان 1 و2.  
(18)  سورة البقرة - الآية 282.  
(19)  سورة الرعد - الآية 28.  
(20)  سورة العنكبوت - الآية 45.  
(21)  سورة طه - الآية 164. 
(22)  سورة الحجرات - الآية 13.  
(23)  رواه مسلم.  
(24)  سورة النساء - الآية 103.