نقاط على الحروف

بقلم
فـــارح رضــوان
تحقيق الأمن الفكري عند الأقليات المسلمة في بلاد المهجر
 يعتبر الأمن الفكري من المصطلحات المعاصرة التي كثر حولها الجدل في المجتمع الإسلامي ، ذلك أن الأمن الفكري من الضرورات الأساسية لأمن الفرد والأسرة والمجتمع، والسبيل الأمثل لحماية العقل المسلم من الانحراف الفكري ومن شتى المؤثرات الفكرية.
فالعقل يحتل مكانة عظمى في الشريعة الإسلامية، فهو من الكلّيات الخمس الضّرورية التي دعت مقاصد الشّريعة الإسلاميّة إلى حفظها عبر إعداد العقل إعدادا سليما ومتكاملا في ضوء القرآن والهدي النّبوي الشّريف، باعتبارهما المصدرين الأساسين لبناء فكر العقل المسلم، وحتى لا يزيغ عن الوسطية التي دعا إليها الإسلام، قال تعالى : ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾ (1).
وبالنظر إلى التطورات والمستجدات التي يشهدها العصر في وقتنا الحاضر من تقارب و تلاقح بين المجتمعات والثقافات، فقد كان من نتائج هذا التّقارب دخول تيّارات فكريّة تحمل في طياتها جملة من الإيجابيات وكذا السّلبيات، إلاّ أنّ محنة الأقليات المسلمة هو في كيفيّة تلقّي المؤثرات الفكريّة المختلفة تلقيا إيجابيّا والابتعاد عن كل فكر من شأنه أن يحيد بهم عن وسطية الإسلام واعتداله أو أن يسهم في طمس هويتهم الإسلاميّة، خصوصا وأنّ العالم أصبح يعرف ثورة تكنولوجيّة عارمة مكّنت من انتشار الأفكار ووصولها إلى المجتمعات بسرعة فائقة . 
يقول الغزالي رحمه الله:«كثر الحثّ في كتاب الله تعالى على التّدبر والاعتبار والنّظر والافتكار، ولا يخفى أنّ الفكر هو مفتاح الأنوار ومبدأ الاستبصار وهو شبكة العلوم ومصيدة المعارف والفهوم، وأكثر الناس قد عرفوا فضله ورتبه لكن جهلوا حقيقته وثمرته ومصدره» (2) .
وبالنظر إلى الأمن في مفهومه الشّمولي نجد أنّ الأمن الفكري يأتي في مقدّمة أنواع الأمن المتداولة كالأمن السّياسي والاقتصادي والغذائي والصحّي وغير ذلك ...، نظرا لأنّ الفكر له ارتباط مباشر بالعقل الذي هو مناط التّكليف،  فإذا تحقّق الأمن الفكري في الفرد والمجتمع تحقّقت سائر أنواع الأمن الأخرى، من جهة أخرى نجد أنّ الكثير من مظاهر الانحراف الفكري بدأت تنتشر في الآونة الأخيرة فإضافة إلى تأثير الغزو الفكري الأجنبي على الأقليّات المسلمة نجد بالموازاة مع ذلك مظهرا من مظاهر الانحراف الفكري لا يقلّ خطورة يتمثّل بالأساس في التّطرف والغلوّ في الدّين نتيجة سوء الفهم للإسلام ممّا يجعل من هذا الانحراف أهمّ الأسباب للجنوح للعنف والإرهاب .
وكون الأمن الفكري قضيّة تشترك فيها كلّ مكونات المجتمع، فهذا يعني تكثيف جهود المؤسّسات والهيئات الدّينية سواء المتواجدة في البلدان الغربيّة أو التي تهتم بقضايـــا الأقليـّات في المجتمعــات الإسلامية  ولا ننســى دور الأســرة أيضــا، لأجل إيجــاد البدائــل والحلــول المضــادة حتّى يتحقّــق الأمن الفكري والتّربوي وتتحقّق معه سلامة العقل المسلم فــي المجتمع الغربي ضدّ مختلف أنواع الغزو الفكري المنحـــرف، وتكون لديــه المناعة ضــد أيّ فكر ضالّ أو ادّعــاء فاســـد ينجرف بـــه عن منهج الحقّ والاعتدال.
ولأجل تحقيق الأمن الفكري عند الأقليّات المسلمة فـــإنّ المؤسّســات الدّينيــة التــي تعنـى بشــؤون هذه الأقليّات لها الدور الكبير وهو يختلف من مؤسسة إلى أخــرى:
المساجد في المجتمعات الغربية 
ودورها في تحقيق الأمن الفكري :
تلعب  المساجد في المجتمعات الغربيّة دورا بالغ الأهميّة على اعتبار المسجد النّواة الأولى التي تجتمع فيها الأقليّات المسلمة، فإضافة إلى كونها أماكن للعبادة وإقامة الشّعائر التعبديّة فهي أماكن ينبغي على مسيّريها الالتزام بنشر قيم الوسطيّة والاعتدال ونشر القيم الانسانيّة التي دعا إليها الإسلام من تعاون وتسامـح وتعايــش بين الشعــوب، ولعلّ الحلقة الأبرز في المسجد تتمثّل في الخطيــب وخطبه داخل المسجد. فالخطبة لها مقاصــد وغايــات تلقى كلّ أسبوع، فهي مصدر من مصادر التلقّــي والتّعلم، وبذلك فالخطيب يسهم بشكـــل كبيــر في التّحصين الفكري المستمر للأقليّات المسلمـــة من كلّ المفاهيــم والتّصورات المنحرفة سواء المتطرّفة أو المنحلّة وحتّى التبشيرية.
لهذا ينبغي على الخطيب أن يكون من المؤهلين علميّا وعلى دراية بواقع الأقليّات المسلمة في المجتمعات الغربيّة وكذا على معرفة بمقاصد الشّريعة الإسلاميّة، فالحاجة إلى فقه الواقع ضرورية لمواجهة التّطور والوقائع المستجدّة خصوصا ما يتعلّق بنوازل الأقليّات المسلمة في بلاد المهجر، وحتّى يسهل إيصال الفتاوى والأحكام إليهم فإنّها تحتاج إلى فهم معتدل، كما أنّ هذا العلم يحتاج إلى قدرة فائقة على المتابعة، والبحث في كلّ جديد،لأنّ الذي يعيش على هامش الحياة لا يستطيع أن يدرك أبعاد هذا العالم وما يجري فيه .
أمّا عن العلاقة بين الخطيب وفقه الواقع فهي علاقة لزوم وترابط، ذلك أنّ الخطيب خاصّة يلزم منه أن يؤسّس خطبته انطلاقا من الموازنة بين المصالح والمفاسد بإدراكه لواقع الأقليّات المسلمة، لأنّ الكثير من العلوم والأحكام والنّصائح التي تتطرّق إليه الخطب تبنى على فقه الواقع.
ولأهميّة فقه الواقع  يقول الإمام القرافي: « فينبغي للمستفتي إذا ورد عليه مستفت، لا يعلم أنّه من أهل البلد الذي منه المفتي وموضع الفتيا أن لا يفتيه بما عادته يفتي به حتّى يسأله عن بلده، وهل حدث لهم عرف في ذلك البلد في هذا اللّفظ اللغوي أم لا ؟ وإن كان اللّفظ عرفيّا فهل عرف ذلك البلد موافق لهذا البلد في عرفه أم لا ؟ و هذا أمر متعيّن لا يختلف فيه العلماء» (3).  
كما تلعب المساجد في المجتمعات الغربية دورا مهما في تعليم أبناء الأقليّات المسلمة اللّغة العربيّة والتّربية الإسلاميّــة، فالمساجــد تمثّل ملاذا ثقافيّا واجتماعيّا يجــد فيه الآبــاء وأوليــاء الأمور مكانا يربطهم ويربــط أبناءهم بثقافتهم الإسلاميّـــة وتعرف وتعلم مكوّناتها وخصائصها، لذا فالسّاهـــرون على مثل هذا التّعليـــم العمل على تنقيـــح عقول المتعلمين من أبناء الأقليات المسلمة من كل مصادر الانحراف الفكـــري والتّطرف الدّيني وذلك لا يتأتّى إلاّ باتباع المنهج المعتدل والوسطي في التّعريف بالدّين الإسلامي وبالثّقافة الإسلاميّة وبالانفتاح على الثّقافات الأخرى وتقبّلها مع الحفاظ على الهويّة الثقافيّة الإسلاميّة. 
المجالس والهيئات الدينية العلمية 
ودورها في تحقيق الأمن الفكري :
لقد أدى التّقدم العلمي، وتعدّد حاجات الناس المستحدثة، وما ترتّب على ذلك من كثرة الوقائع المتباينة والمتعدّدة في واقع الأقليّات المسلمة مع غياب المؤسّسات الشّرعية التي تقوم بتطبيق الشّريعة أو بيان حكمها فيها إلى تطلّع هذه الأقليّة  إلى معرفة حكم الله فيها لمعرفة حلالها من حرامها، و صحيحها من فاسدها، ومقبولها من مردودها لقولــه تعالــى : ﴿ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ﴾ (4).
ومن ثمّ فحاجة الأقليّات المسلمة إلى المفتي أو إلى هيئات ومؤسّسات دينيّة مكلّفة بالإجابة والإفتاء في قضاياهم ونوازلهم لا تقلّ عن حاجتهم للطّعام والشّراب، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ (5). 
ولمّا كان للإفتاء والفتوى هذه المنزلة العظيمة زاد خطرها، إذ عليها يتوقّف صلاح الدّنيا والآخرة ومعرفة الحلال من الحرام، وممّا زاد من خطورتها كثرة الوقائع، وتعدّد القضايا التي ليس لها نظير في المجتمع الغربي، فالأحكام قد تتغير حكمها بسبب تغيّر الظروف ممّا يستلزم معه تغيّر الحكم .
ممّا يفرض على المفتي في المؤسّسات المكلّفة بالفتوى  أن يكون على علم وتصوّر وإحاطة شاملة بالمسألة المتعلقة بالأقليّات المسلمة  قبل الحكم فيها، حتّى يكون الاجتهاد صوابا أو قريبا من الصّواب لضمان تحقّق الأمن الفكري والدّيني وإلاّ أفسد على النّاس دينهم وحياتهم، ودفعهم إلى ارتكاب المعاصي من حيث لا يشعرون وبالتالي الوقوع في الانحراف الفكري و الدّيني.
والفتوى قد تختلف من مفتٍ إلى آخر، بحسب الحظّ من العلم والبلوغ فيه، والسّائل أو المستفتي عليه أن يسأل من يثق في علمه وورعه، وإن اختلف عليه جوابان فإنّه ليس مخيرا بينهما، أيّهما شاء يختار، بل عليه العمل بنوع من التّرجيح، من حيث علمُ المفتي وورعُه وتقواه.
الفتوى في فقه الأقليّات لها أثر على المفتين وأثر في تحقيق الأمن الفكري عند الأقليّات المسلمة.
(أولا) 
أثر الفتوى في فقه الأقليات على المفتين :
إن للفتوى أثرا على المجتهدين من حيث بذل الجهد والوسع التامَّين عن طريق استقراء مجموعة من الأمارات والقرائن والعلامات من واقع الأقليّات المسلمة لأجل تطبيق الأحكام عليهم، وهذا يجعلهم يتحرّون جزئيّات هذا الواقع التي على صلة بموضوع الفتوى لاستكمال أدوات النّظر عند كلّ عملية اجتهاد، ممّا يقوي ملكة التّحليل الدّقيق والعميق عندهم في الفهم.
(ثانيا)
أثر الفتوى في تحقيق الأمن الفكري
عند الأقليات المسلمة:
يتمثل هذا الأثر في مدى تقبل الأقليات المسلمة للفتوى، فالفتوى الصّادرة من أهل الاختصاص العارفين لواقعهم ومعاشهم لها بالغ الأثر عليهم، من حيث ثقتهم بأنّ من يتصدّر للفتوى يفقه ما هم عليه من أوضاع وظروف، ومن ثمّ الخضوع للفتوى يكون بناء لاستكمالها الشّروط المتعلقة بفهم الواقع ومتغيراته.
أمّا إذا كانت الفتوى من طرف جهات لا تعي الواقع الخاصّ لهذه الأقليّة المسلمة ومدى مفارقته للواقع الإسلامي، فلا شكّ أنّها لن تحقّق المقصود الشّرعي من وجودها، وبالتّالي إهمالها أو إن لقيت قبولا من البعض ولدت نوعا من الفرقة والاختلاف في صفوف الأقليّات المسلمة بعضهم البعض، ممّا يؤثّر على حركة الدّعوة الإسلاميّة وبالتّالي سلوك اتجاه نحو الانحراف الفكري والدّيني بتبنّي أفكار متطرفة أو أفكار زائغة بعيدة عن الدّين الإسلامي.
وبالتالي، لكي تحقّق الفتوى في فقه الأقليات المسلمة الأمن الفكري عند  هذه الأقليات، ينبغي أن تدرج فيها شروط فرضتها الوقائع المختلفة، مع ربطها بفقه الموازنات للتّجديد في هذا الفقه الخاصّ بالأقليّات المسلمة في ديار المهجر، ومن هذه الشروط:
* أن تكون الفتوى مبنيّة على جلب المصالح ودرء المفاسد بناء على «أنّ الشّريعة كلّها نصائح، إمّا بدرء مفاسد أو جلب مصالح» (6) .
* أن تراعي الفتوى اختلاف العلماء، لكثرة المسائل التي طرأ عليها الاختلاف في الأحكام.
* أن تكون الفتوى مبنيّة على فقه الحال، فينظر إلى حال الشّخص المقيم في بلاد المهجر ومدى تحمّله للتكليف، لأنّ الفتوى تختلف من شخص لآخر .
* أن تبنى الفتوى على مراعاة واقع الأقليّات المسلمة، فليس كلّ ما يصلح لأغلبيّة من المسلمين في مكان وزمان معيّن يصلح لأقليّة من المسلمين في زمان ومكان أخر.
ذلك « أنّ مفتي الأقليّات يجب أن يكون واضح الرّؤية، دقيق الملاحظة، مستوعبا بالإضافة إلى المادّة الفقهيّة في تنوعها وثرائها تفاصيل الواقع وتضاريس خريطته ملاحظا الطّبقة التي تنتمي إليها فتواه محقّقا مناط دعواه» (7). 
* أن تراعي الفتوى المنهج الوسط عند الإفتاء لأنّ «الشّريعة حمل على التّوسط، لا على مطلق التّخفيف، وإلاّ لزم ارتفاع مطلق التّكليف من حيث هو حرج ومخالف للهوى، ولا على مطلق التّشديد، فليأخذ الموفق في هذا الموضوع حذره»(8). 
الهوامش
(1)  سورة البقرة - الآية 143.  
(2) إحياء علوم الدين. أبوحامد الغزالي، 4/423. دار المعرفة، بيروت.
(3) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، شهاب الدين القرافي، دار البشائر الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، بيروت-لبنان 1416هـ/1995م ،ص 232. 
(4) سورة النحل الآية 43. 
(5) سورة النساء الآية  59.
(6) قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، العز بن عبد السلام، ج1/14. تحقيق زيد كمال حماد وعثمان جمعة ضميرية، دار القلم،دمشق، الطبعة الأولى، سنة 1421 هـ / 2000م.
(7) صناعة الفتوى وفقه الأقليات ، ابن بيه ، ص: 216.سلسة دراسات و أبحاث 8 مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث، الرابطة المحمدية للعلماء، دار الأمان للنشر والتوزيع – الرباط، المغرب، الطبعة 1 ،1433هـ/2012م.
(8) الموافقات، الشاطبي، ج 4/ 260. تحقيق: د عبد الله دراز،الطبعة الثانية ، سنة 1395 هـ /1975م