تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
حجر الوادي
 تمر السنوات وتنساب ببطء أحيانا ومسرعة أحيانا أخرى رغم دقّة انتظام جريان المنظومة الشّمسية كلّ في مستقر له والكلّ في فلك يسبحون. وما تسارع الزّمن في فترات من عمر الإنسان إلاّ إحساس ينبع من حدّة الضّغط النّفسي. 
اعتبر شخصي من المحظوظين في العالم أنّي تونسيّ المولد، معاصر لهذه الفترة من الزّمن بما انطوت عليه من تقلّبات ونزاعات شرقا وغربا، جنوبا وشمالا. وبما أنّ عمر الإنسان لا يقاس بطول السّنين التي مرّت عليه ولكن بأثرها فيه، ورغم اختلاف التّأثر من شخص لشخص آخر بمدى قدرة التّحمل،  فإنّ العقدين الأخيرين  لم يمر خلالهما الزّمن على عادته بل تدفّق سيلانا جارفا ترك خلفه أخاديد عميقة في ذاكرة الجميع وأحرف غليظة في سجّل التاريخ.
ها نحن الآن في نهاية هذه الفترة، فهل هي النّهاية حقّا لموجة التّناحر وأذان للاستقرار الذي طال انتظاره؟ كم كثرت البالونات الفارغة التي تطفو تائهة فوق التّحت فلا هي بالغة الثّرية كما تأمل ولا هي قادرة على ملامسة الثّرى موضع الاستقرار. وبقيت بين هذا وتلك تتآكل حتّى تنفد قواها وينخرم تماسكها فتهوي وقد انطفأ الأمل وذهب الحلم هباء منثورا.
لا يبلغ الثّرية إلاّ صاروخ مندفع شحن بقوة عزم  وعلم بحسبان، ولا ينطلق هذا الصّاروخ إلاّ من قاعدة ثلاثيّة الارتكاز حلم وعلم وعمل. أمّا من الجهل والقعود فلا يطلق إلاّ الضرط.
في مراجعة لذاتي، جالستها واستمعت لرجع صداها أسئلة زادت في حيرتي، فلم أجد من بدّ إلّا أن أعود إلى أصلي وأن ينطلق تفكيري  منه لأصنع الصّاروخ الذي أريده أن ينفذ من أقطار جهلي الشّاسعة، فبأيّ سلطان يا ترى.؟
أيّها الشّرق يا قبلتي، يا رمز المولد والتّجديد، كم يوم بشّرت بدايته؟  هل صادفت يوما صديقك الغرب وهل نادمته مرّة ليصارحك  فتقرأ على مرآته وجهك؟ ما أصبرك على نبض الزّمن، فهل علمت طول وحدته ؟
 أنا مثلك  أيّها الشّرق لم أفقد الأمل طالما بقيت  تجري للحاق بأخيك لعلّكما تتعانقان يوما وتتقاسمان كم يوما ولّدت وكم أخوك دفن؟
أيها الجبل المهيب ما أصبرك على طول جثوك. كم دورة للشّمس عشت وكم حرب على سفحك شهدت؟ وكم مرّة تململت؟ أنا مثلك الكلّ يهابني إن زلزلت الأرض زلزالها. 
أيها الحجر في أعالي القمم في سفر عبر الزمن تشقّ الفضاء ليلا نهارا مسبّحا عشقا للخالق. ألم يقل «إنّ منها (الحجارة) لما يشّقق فيخرج منه الماء... وإنّ منها لما يهبط من خشية الله»؟ ذلك أنا في الصّورة مثلك أصلّي كما لا يصلّي أحد، صلاة التقوى، صلاة صمت.
أيّها الصخر في جوف الجبل تحمل أثقاله وتشدّ أركانه وتؤمّن أسراره. كم تحمّلت ثقل من فوقك وكم زدت ثقلا على من دونك؟ أنا مثلك في زحمة يومي لا أعرف شرقا ولا غربا، ساكن لا أتحرّك. أنا مثلك ساكت لا أنطق ويخاف من حولي هيجان بركاني، فلا يقذف إلاّ حمما.
نعم أنا من تراب وإليه أعود، أنا جبل، أنا صخر بوادي، أنا حجر في وجه الطّغيان، أنا حجر يقذفه الحقّ فأدمغ الباطل وأزهقه. 
أنا التّونسي عبر السنين المتعاقبة والأزمات المتلاحقة، أنا ذرّة رمل اقتلعت من صحراء قاحلة لتستقر في رحم المعصرات نواة لقطرة ماء أنشأها القدير العليم، لتسقط غيثا يبرئ الظمأ في أديم الأرض، فتزهو خضراء في عيون الطّامعين وأحيانا تهطل في فيضان يغرق سيله كلّ ما اعترضه ويدفن في ثناياه حيّا كلّ من خان.