في الصميم

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
بناء الأنماط وكسرها
 تمهيد
لكي تنهض المجتمعات وتصنع وتشارك في الحضارة الإنسانية، لا بدّ من قدر معقول من الاستقرار الحقيقي، لكنّ هذا الاستقرار يجب ألا يكون مرادفا للسّكون المطلق، وفي ظلّ وارف من الحرّية تترسّخ خلاله الأفكار البناءة في العقل الجمعي. ووجود سلطة قويّة تقوم على النّهضة وترعاها، فنحن في زمن يفوق قدرة الأفراد كمجهودات فرديّة في تنشئة الحضارات، فالشّركات العابرة للجنسيات معظمها إن لم يكن كلّها ليست شراكات أفراد عاديّين بل شراكات أنظمة سلطويّة في الغالب أو أفراد فاعلين في مراكز السّلطة واتّخاذ القرار في بلدانهم. فالسّلطة القوية وحدها هي القادرة على إنشاء المصانع العملاقة للصّناعات الثّقيلة بل وفرض تشريعات تؤطّرعليها المجتمعات أطرا، ولو فسدت السّلطة فقل على المجتمع السّلام. 
في هذا الجوّ من الاستقرار والحرّية والسّلطة القويّة يمارس كلّ إنسان حقّه الطّبيعي في أن يقول ما يعتقد صوابه، حيث تنتقد مقولاته أو تتلاقح مع مقولات الآخرين، ومن هذه العمليّة المركّبة تولد المعرفة، ويضمن لها تراكما زمنيّا كفيلا بإرساء المبادئ الأساسيّة التي تشتقّ منها النظم والتّشريعات والآداب والفنون، هذه المبادئ تتكوّن ببطء كبير كما أنّها تزول ببطء كبير[1] ، وتشبّث النّاس بهذه المبادئ يؤدّي إلى استكشاف النّمط الكامن في كلّ فصل معرفي واحد. هذا النّمط يمثّل فقط فهم الإنسان للظّاهرة الطبيعيّة/الاجتماعيّة المدروسة ومن ثمّ يحاول العلماء محاكاتها بقانون «نمط» يعتقد من خلاله الدّارسون أنّ الظّاهرة الطبيعيّة/الاجتماعيّة تسير وفقه، لكن ليس بالضرورة أن يكون ذلك صحيحا صحّة مطلقة، بل من المؤكّد أنّه يعتريه النّقص، ومن ثمّ فهو على أقصى تقدير تمثيل لأفهامنا نحن للموضوع قيد الدّراسة، وكما يقول على عزّت بيجوفيتش «إنّ الإنسان ليس مفصّلا على طراز داروين، كما أنّ الكون ليس مفصلا على طراز نيوتن» [2]. 
دور العلماء في تنميط الطبيعة
المتأمّل للحضارة الإسلاميّة في مجال العلوم سيجد أنّها كانت في مجملها وصفيّة ولا يمنع هذا وجود بعض النّماذج الرياضيّة التي تصف بعض الظّواهر هنا وهناك، لكنّها كانت في مجملها بسيطة التّركيب وعاجزة عن استكشاف الفكرة الأمّ وصبّها في قوالب رياضيّة يقوم عليها النّموذج التّفسيري العام للظّواهر التي تجمع في صفّ واحد إلى أن جاء «جاليليو» ووضع محاكمات علميّة نحو الاتجاه الصّحيح، وفي العام الذي مات فيه «جاليليو» ولد «نيوتن» فاستكمل الطّريق نحو استكشاف النّموذج التّفسيري للطّبيعة ولم يكن ثمّ مألوف مثل الجاذبيّة فوضع نظريته في الجاذبيّة وقوانينه في الحركة حتى أصبحت كلّ ظاهرة حركيّة (ديناميكيّة) وكلّ ظواهر التّجاذب بين الأجرام السّماوية تخضع في تفسيرها لميكانيكا «نيوتن». من هنا اكتشف الإنسان  حقيقة كمون العبقريّة حقّا في تكوين النّمط حتى يؤتي ثماره ويستقرّ على عرشه، ثمّ يهرم النّمط ويصبح غير قادر على العطاء، فتكمن العبقريّة حينئذ أيضا في كسره. بل لا إبداع على الإطلاق إن لم يكسّر النّمط لاستكشاف بنى أوسع وأشمل، وعند لحظة الكسر تجد المقاومة التي أودعها الله عزّ وجلّ في الأنظمة الاجتماعيّة تعمل عملها الصّحي في مقاومة التّغيير ولا يقولنّ أحد ربّما يكون التّغيير إلى الأحسن لأنّ وقت التّغير لا يستطيع أحد التنبؤ بالمستقبل، ولو لم يكن للمجتمعات هذا القصور الذّاتي لانجرف المجتمع نحو أيّ تغيير ولو كان بسيطا ولأصبح ريشة في مهبّ الريح، ولن يتكوّن أبدا تراكم معرفيّ يؤدّي إلى استكشاف الأنماط في المجتمعات دائمة وسريعة التّغير، مثل القبائل الرّحل والحياة البدويّة. هذه المقاومة المجتمعيّة من البعض لصياغة أنماط جديدة بل والمحاربة الفكريّة لأجل استقراره ونصرة الأنماط القديمة ورفض آخرين لتقديس الأنماط القديمة بل والدّفع بأنماط جديدة، أراها صحّية جدّا لتنظيم إحداث عمليّة التّغيير التّدريجي والفكري والثّقافي في العادات والتّقاليد والأعراف المتوارثة داخل المجتمع. حيث يعمل كلّ فريق كقوّة ديناميكيّة ضدّ الفريق الآخر في الظّاهر، لكنّه في الحقيقة ينظّم حركته ويضمن له عمليّة انتقال سلس بين الأنماط، فالذين يقاومون استبدال الأنماط القديمة أو حتى تعديلها يلعبون دورا في تعظيم القصور الذاتي للمجتمع ونستطيع أن نقول أنّهم يحافظون على بقاء العادات والتّقاليد الأصيلة النّافعة، وحماية المجتمع من الضّياع النفسي والفوضى الاجتماعيّة المتولّدة عن التّغيير العشوائي غير المحسوب الذي يضرّ بالمجتمع، بل إنّنا دائما نجد أنّ الحضارات شُيّدت من استقرار مبادئ عالية مثل تجذير الدّين في النّفوس وزرع حبّ الأوطان في النّاشئة ومدّ جسور التّواصل بين أبنائه. أمّا الذين ينتقدون الأنماط القديمة إلى حدّ طرحها واستبدالها بغيرها فهم يمثلون الرّصيد الفكري الضّخم والمتجدّد باستمرار في المجتمع الذي يضمن تطوّره. أمّا الذي يضمن للمجتمع الخروج السّلس من النّمط القديم إلى آخر جديد فهو ضمان وجود حالة حواريّة بعيدة كلّ البعد عن العنف ولو كان لفظيّا، حالة تنقدح فيها الأذهان، واستمرارهذه الحالة لفترات لا تقلّ طولا ربّما عن الفترات التي تكوّن خلالها النّمط القديم. ورحم الله الإمام أحمد بن حنبل حين قال لإِسحاق بن بهلول وقد سمّى كتابه كتاب الاختلاف فقال: له أحمد بل سمّه كتاب السّعة [3]، هذه السّعة هي التي تجعل الحوار بين المتعارضين ممكنا أبدا بل وربّما مثمرا. 
النمط ينمو بطيئا ويشيخ مبكرا 
تأخذ الأفكار فترة حضانة طويلة داخل بيئتها الطبيعية حتّى تتمحّص ويشتدّ عودها وتصبح مبشّرة ببناء النّمط، ولحظة اكتشاف الإنسان للنّمط سرعان ما ينتفع به جدّا لكن سرعان ما تظهر عيوبه أيضا وإن استمر الإنسان مستجيبا لقصوره الذّاتي في عدم معالجة هذه العيوب فسرعان ما يشيخ. ولا أشكّ لحظة أنّ رسوخ الأنماط يقتل الإبداع ويحوّل الإنسان الحيّ المتفاعل مع محيطه إلى «روبوت» تمّ برمجته فلا إبداع إلّا في التّنفيذ حتّى ولو كان في العبادات، والمتأمّل في الشّريعة الإسلاميّة يجد بجلاء أنّ مساحة التّنميط جاءت قليلة جدّا حتّى في العبادات فقد جاء التّنوع واسعا حتّى داخل جسد العبادة الواحدة نفسها (صلاة كلّ ركعة فيها قراءة واحدة وركوع واحد وسجدتين وصلاة بكلّ ركعة فيها قراءتين وركعتين وسجدتين وصلاة بلا ركوع ولا سجود وكلّ هذه الصّلوات تتمّ بلا حركة في المكان وصلاة أخرى على هيئة طواف بالبيت العتيق ناهيك عن التّنوع في الفرائض والنّوافل ...) حتّى لا يصاب الإنسان بالملل. وقد كنت أعرف إماما لمسجد وقد وضع جدولا أسبوعيّا بالآيات التي يقرؤها في الصّلوات الجهريّة حتى أصيب النّاس بالملل من الصّلاة خلفه حيث لا يكن ليخالف هذا الجدول لفترات طويلة. وهذا جوهر تحويل العبادات إلى عادات، فأصبحت عبادات منزوعة القيمة. ومع أنّي ضدّ صمود الأنماط صمود الجبال ومع هدمها ولكن ببثّ أنماط جديدة تكون أكثر فاعليّة ونجاعة في حلّ المشكلات وملهمة لوقت من المستقبل.
وعند التّعامل مع النّمط على أنّه هو النموذج النّهائي، يصير كليّا وحيث أنّ الكلّي لا يوجد إلاّ في الذّهن فحينئذ يتمّ تقديسه في اللاّشعور ويصبح عمليّا الواقع هو المثال، والمفترض بل ربّما يكون الأصل هو السّعي لتطوير الواقع. والغرب الآن يعيش حالة من سيولة المفاهيم على نطاق واسع، تنقيح ربّما ينسف بأنماط كنّا نظنّها لعهد قريب من المسلّمات «راجع كتب المفكر الانجليزي البولندي الأصل زيجمونت باومن» يقول «باومن» في كتابه الحبّ السّائل [4] «إحدى التّبعات المهمّة والمشؤومة لتلك الأيديولوجية الجديدة –يقصد سيولة المفاهيم- تتمثّل في استبدال الهويّة المشتركة لتحلّ محلّها المصالح المشتركة».
 ولو فرض على النّاس قبول الواقع على أنّه المثال لما غيّر العلماء وجه هذا الكوكب أكثر من مرّة. فقد غير «كوبرنيكوس» النّظام الكوني من مركزيّة الأرض للكون (نموذج بطليموس ومن قبله أفلاطون وسقراط) الذي استقرّ لقرابة العشرين قرنا من الزّمان (ألفي عام) ولم يكن ليجرؤ«كوبرنيكوس» على ذلك إلاّ عندما سبقه آخرون برفضهم لهذا النّموذج وأشهرهم «فخر الدين الرّازي» (قبل كوبرنيكوس بثلاثمائة عام) عندما رفض نموذج مركزيّة الأرض. و«أينشتين» عندما رفض نموذج «نيوتن» في تصوّره للزّمان المطلق والمكان المطلق مع تربّع عرش نموذج «نيوتن» لمائتي سنه قبل مجئ أينشتين. و«أويلر» و«جاوس» و«هاميلتون» عندما كسّروا النّمط  (كون عدم وجود جذر تربيعي لعدد حقيقي سالب) وقدّموا للعالم مفهوم العدد التّخيلي ككائن لا يحيا في دنيانا الحقيقيّة ومع ذلك يحلّ معظم مشاكلنا الطبيعيّة (وهذه جوهريّة فكرة الميتافيزيقا). والأمثلة أكثر من أن تحصى في أن الإبداع لا يكون إلاّ بتكوين النّمط حتى يؤتي ثماره ثمّ قبول/مقاومة فكرة كسره. بل وكما يقول الفيلسوف الفرنسي «جوستاف لوبون»: «بدون تقاليد ثابتة لا يمكن أن توجد حضارة وبدون الإزالة البطيئة والتّدريجية لهذه التقاليد لا يمكن أن يوجد تقدّم» [5]. 
معالجة مشاكل الأنماط  الثّقافيّة
في القرن الثّالث عشر الميلادي كانت بلاد الإسلام تهاجم من الشّرق بقبائل المغول حتى اجتاحت حاضرة الخلافة العبّاسية بغداد وقتلت ما يقرب من مائة ألف عالم ومن يومها استمرت الجراح بشكل عام تزداد يوما بعد يوم، وربّما كانت تلك الجراح تلتئم في مكان ما لتنكأ في مكان آخر ومن يومها بدأ منحدر الهبوط العام للحضارة الإسلامية، وبدأت أوروبا في مدرج الصّعود، بدأت مراجعة الحضارة اليونانيّة والرّومانية بشكل مكثّف والتي كانت قد ضاعت معظم ثروتها في الهجمة البربريّة (قبائل بلاد الغال حاليّا فرنسا وبلجيكا وسويسرا وقبائل الجرمان ألمانيا حاليا والإنجليز) على الامبراطورية الرّومانيّة التي ورثت حضارة اليونان، والغريب أنّ من حفظ هذه الحضارة من الضّياع هم العرب الذين ترجموا بل وأضافوا إضافات نوعيّة لمعظم إنتاج الحضارة اليونانيّة، فعلى سبيل المثال لا الحصر ترجم «إدموند هالي» «صاحب أشهر مذنب في تاريخ الفلك» ترجم كتاب القطوع المخروطيّة للرّياضي اليوناني «أبولونيوس» عن التّرجمة العربيّة للكتاب لـ «ثابت بن قرة» في زمن الخليفة العباسي «المأمون». وأخذ الأوروبيّون ما يقرب من أربعة قرون لترسيخ ثقافة بناء الأنماط في العقل الجمعي، لكنّه لم يستو على عوده إلاّ بعد أن كافحت أوروبا من أجل نيل حريتها من السّلاطين المستبدّين سواء كانوا سلاطين دين أو سلاطين دنيا في ما سمّي بربيع أوروبا القومي، حتّى أشهروا شعارهم في الثّورة الفرنسيّة «اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسّيس». في هذه الأجواء تمّ تكوين الأنماط السّياسية والاجتماعيّة والعلميّة والفنيّة حتّى صار لهم من ذلك كلّه منتجات، منتج سياسي متمثّلا في النّظرية الديموقراطية ومنتج حياتي ونمط معيشي في اللّيبرالية ومنتج اقتصادي متمثّلا في الرّأسمالية من جانب ونظريّات وأفكار اليسار من جانب آخر ومنتج علمي متمثّلا في الجانب التّكنولوجي، وعندما ظهرت بعض عيوب هذه المنتجات انتجوا معايير للجودة ينقّحوا بها هذه الأنماط ربّما ليستفيدوا الاستفادة القصوى منها قبل قذف النّموذج كلّه واستبداله بآخر. أمّا في بلداننا العريقة فقد بدأنا بمعايير تنقيح النمط قبل إنتاجه أصلا واهتمامنا بالشّكل الخارجي للعلبة التي يوضع فيها المنتج المعدوم. ولم نعر – كدول - أي اهتمام حقيقي للمنتج ذاته. 
تتسارع وتيرة تغيير الأنماط الثّقافية واكتساب المعلومة من مرحلة التّأمل والحوار والمناقشة، إلى مرحلة التّلمذة على أيدي العلماء ثمّ مرحلة القراءة المباشرة من الكتاب والتّجربة في المعمل ثمّ مرحلة التّطور الرّهيب في حقل الاتصالات الذي ربّما يقضي على أشكال وأدوات التّعليم والثّقافة التّقليديين، وقد كنّا حتّى وقت ليس بالبعيد في بيئتنا العربية، كان من يضع طبقا لالتقاط القنوات الفضائية فوق بيته يتّهم بالمجون والخلاعة وقد اختلف الوضع الآن تماما فأصبح الانترنت بتطبيقاته والتّلفزيون ببرامجه المختلفة إحدى أهمّ روافد الثّقافة. يقول الأستاذ فيصل العش «إنّ المثقفين الذين يتمسّكون بتقاليدهم في العمل الثّقافي وبأدوات فعلهم القديمة المتمثّلة في الكتابة والخطابة ويرفضون ولوج عالم الثّقافة السّمعية والبصريّة ويتعاملون باحتشام شديد مع المعلوماتيّة المتطوّرة وشبكات الانترنت ومواقع التّواصل الاجتماعي سيخسرون حتما مواقعهم في المجتمع ويتحوّلون إلى تراث ثقافي» [6].
الهوامش
[1] جوستاف لوبون، السنن النفسية لتطور الأمم، ترجمة عادل زعيتر، الطبعة الثانية، دار المعارف، مصر 1957. 
[2] علي عزت بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، مجلة النور الكويتية - مؤسسة بافاريا، 1994.
[3] محمد بن أبي يعلى الفراء، كتاب طبقات الحنابلة،  تحقيق محمد حامد الفقي،الجزء الأول، صفحة 111، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة.
[4] زيجمونت باومن، الحب السائل: عن هشاشة الروابط الإنسانية، ترجمة حجاج أبوجبر، مكتبة بغداد، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الدار البيضاء، 2015. 
[5] جوستاف لوبون، سيكولوجية الجماهير، ترجمة هاشم صالح، الطبعة الأولي، دار الساقي، بيروت، لبنان 1991. 
[6] فيصل العش، التليفزيون ... «المثقف» الجديد، مجلة الإصلاح، صفحة 14، العدد 113، رابط العدد http://alislahmag.com/revue_113.pdf