قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
شحذ الهمم
 (1)
إذا علمنا أنّ الاستبداد السّياسي لا يمكن أن يسود ويتمكّن بدون استبداد ثقافي وأنّ هذه الثنائية ستظلّ قائمة مادام الإنسان على هذه الأرض ازداد يقينا بأنّ معركة الوطن في أحد وجوهها معركة ثقافيّة وأنّنا إذا لم نخض هذه المعركة بشكل حضاري يعلى من قيمة الإنسان ويضعه فوق الأحزاب والتّيارات والايديولوجيا، فإنّنا سوف نخسر هذا الإنسان في معركتنا هذه، وقد لا نجد فى المدى القريب قبل البعيد إنسانا يعوّل عليه فى البناء. 
لقد نجح الاستبداد السّياسي فى صناعة نخبة تبرّر له كلّ أفعاله وتعطيه القدرة على تجديد نفسه وإطالة زمن استبداده، ورغم أنّ هذه النّخب لم تحقّق لنفسها فائدة تذكر سوى بعض المناصب الزّهيدة أو بعض الحظوة الإعلاميّة التي سرعان ما تخبو، فإنّ هذه النّخب ظلّت دائما تسبح بحمد الحاكم و تصنع له هالة فى قلوب النّاس حتّى كادت تكون صنوا له وإن لم تمتلك ما يمتلكه من عصا غليضة وأدوات للتّرغيب والتّرهيب. 
لم يتوقّف أمر النّخب عند حدّ التّبرير والتّماهي مع الحاكم المستبد وإنّما وصل بها الأمر إلى معاداة شعوبها وتحقير شأنها والتّطاول عليها وجعلها رهينة لمقولاتها وآرائها، فسلبتها بذلك حريتها فى الإبداع وجعلت منها أسيرة لتابوهات عدّة لم تكن تسمح لها بالتفكبر من خارجها أو بالتمرّد عليها. ونحن لا نرمي بالتّهم جزافا، بل إنّ الملاحظ البسيط يستطيع أن يلاحظ أنّ الخطوط الحمر تكبّل كلّ مجال ثقافي وإبداعي أكان مسرحا أم سينما أم أغنية أم رواية أم نشاطا جماهريّا وليس لأحد أن يكسّر هذه الخطوط الحمر أو يقفز عليها، وإن فعل فإنّه يُحاصَر أيّما حصار وينعت بأبشع النّعوت. 
وكذلك  فإنّنا لا نرى تغيّرا يذكر لا فى الفعل الثّقافى ولا فى الفاعليين الثّقافيين خلال حقبة ما بعد الثّورة، بل إنّ عوامل أخرى قد زادت الطّين بلّة إذ تحالفت قوى متعدّدة من أجل وأد الثّورة أو إفراغها من مضمونها، فكان هذا التّحالف مدخلا لتحالف نخب لا يجمع بينها إلاّ العداء للثّورة فكانت الكارثة حيث وصل بنا الأمر إلى ما يشبه الاحتكار للثّقافة وأطرها وأصبحنا أمام سيل من الابتذال لا نفرّ منه إلاّ إلى سيل آخر من ثقافة متعالية، متغرّبة، لا هدف لها سوى تكريس الصّراع الهووي داخل المجتمع وتلهيته عن قضاياه الأساسيّة وحرمان أجيال من الشّباب من نحت ثقافة بديلة متماهية مع الثّورة ومع الهويّة الجامعة لكلّ أفراد المجتمع. فهل يكون قدرنا أن نظلّ بين ثنائيّة الاستبداد والحرّية أو بين ثنائيّة الاغتراب أو الاستكانة، مرّة بسطوة المستبد وأخرى بسطوة النّخبة التى كانت مع المستبد؟ وهل يكون قدرنا أن نسلّم أمرنا إلى نخبة سالبة للحرّية تائقة إلى التّغريب والعولمة المهيمنة للمركزيّة الأوروبيّة أم نبدأ فكرا وفعلا فى العمل على صناعة بدائل تخدم مشروع النّهضة الذى قامت من أجله الثّورة دون السّقوط فى صراع مدمّر، على قاعدة لكم رأيكم ولنا رأينا ولكم ثقافتكم ولنا ثقافتنا؟ وهل بالإمكان أن نعيد صياغة مشروعنا الثّقافي والحضاري بعيدا عن التّابوهات التي يكبّلنا بها الآخرون وأن ننجز ثورة في الثّقافة تعيد لنا القدرة على الفعل والإبداع والتّأثير؟ وهل بالإمكان الآن وقبل فوات الأوان كسر الطّوق من حولنا والانطلاق وإن بخطوات بسيطة في نحت البديل والتمرّد على السّائد بعد أن أثبتت لنا التّجربة استحالة البناء على الخراب؟ والأهم من كلّ ذلك هل نحن جاهزون؟
(2)
يسكننا خوف دائم من عودة الاستبداد رغم كلّ ما جرى خلال السّنوات الماضية من عمل سياسي كبير وسوف يظلّ هذا الخوف يتسرّب إلى أعماقنا ما دمنا نكتفي بالفعل السّياسي المقاوم دون مؤازرته بفعل ثقافي مقاوم أكثر وأقدر، ودون القطع مع أشكال الفعل الثقافي التي تحاصرنا بها نخبة الاغتراب والاستبداد التى صار من الواجب التّمرد عليها ومقاطعتها والحدّ من ابتذالها للنّاس والمجتمع. وحيث أنّ الثّقافة لا تترعرع إلاّ فى مناخات السّلام وفى ظلّ وجود مثقّفين أحرار فقد صار من الضّروري العمل على توحيد الصّف وشحذ الهمم والنّفوس بغية قطع الطّريق على من تخوّل له نفسه تفجير الصّراعات والتّناقضات داخل المجتمع وتحويلها إلى عامل هدم يأكل الأخضر واليابس. ويجب أن لا ننسى فى هذا الصّدد أنّ الاستبداد لا يعود إلاّ من طريق الصراع الأعمى مسنودا بنخبة عمياء لطالما عملت على تفجير المجتمع ولو وصل الأمر حدّ الاحتراب بغية تجزئته والسّيطرة عليه. 
(3)
إن المثقف المقاوم إنّما هو مثقّف مصلح لا يريد إلاّ الإصلاح ما استطاع ، ليس له من غاية إلاّ عودة الحياة للمجتمع بجميع أفراده حتّى يتحوّل إلى مجتمع مبدع فى جميع مجالات الثّقافة فيكون لنا حينها مبدعون حقيقيّون فى المسرح والسّينما والرّواية والرسم والنّحت والشّعر والحكاية وفى كلّ مجالات الإبداع، مبدعون يبزون نخبة الاحتكار الثّقافى المعطّلة لكلّ إبداع، المستبدّة ثقافيا وقيميّا دون حرمانها من حقّها فى التّعبير عن نفسها من خلال ما تظنّه إبداعا، إذ لا خوف منها أبدا ما دام الزّبد يذهب جفاء وما دمنا لها بالمرصاد.
(4)
فى سوريا قالوا : «الأسد أو نحرق البلد». احترق البلد وقد يبقى الأسد وذلك أثر الاستبداد فى أجلى تمظهراته، ولم يعدم الأسد ولا مناصروه من متوهّمى الثّأر التاريخى نخبة تشحذ سيوفهم أو تشحن صواريخهم، ولن يقف الأمر عند سوريا إن استطاعوا.
إنّنا أمام معركة ثقافيّة فاصلة سوف يبني على آثرها تاريخنا القادم وعليها سوف يتوقّف مصير أبنائنا. إنّ ثقافتنا ثقافة سلم وإبداع وحياة وهكذا نرى المثقّف والمبدع فى خضم معركة شعبه المصيريّة، فالمعركة حينئذ معركة ثقافة وعلينا أن لا نسمح لهكذا نخبة بإشاعة الدّمار والدرس السّوري بليغ أيّما بلاغة.