القرآن والسلام

بقلم
نبيل غربال
التنجيم :الأوهام والحقائق (1/2)
 لا تخلو تقريبا صحيفة يومية أو أسبوعية من ركن «الحظ». وعند نهاية كلّ سنة ميلاديّة وبداية أخرى يلاحظ بيسر طغيان موضوع التّنجيم على الإعلام المقروء من خلال ما تبرزه الصّحف اليوميّة والأسبوعيّة في صفحاتها الأولى من عناوين وصور مثيرة تتعلّق بالحظّ  بحثا عن مزيد من الرّبح خاصّة. كما تسعى بعض الفضائيات لاستقطاب أكبر عدد ممكن من المشاهدين بالإكثار من البرامج التي تتناول موضوع الحظ واستدعاء المنجّمين والعرّافين وتقدمهم «كخبراء» و«مختصّين» ليقدّموا تنبؤاتهم «الفلكيّة» للأفراد والجماعات فيما يتعلّق بمستقبلهم سواء العاطفي أو المهني. ولا نستثني الإعلام الإذاعي الذي يخصّص بدوره برامج قارّة للأبراج والحظّ. 
فلماذا طرح هذا الموضوع الآن؟ يصدر هذا العدد من مجلة الإصلاح في بداية شهر ديسمبر أي آخر شهر في السنة الميلادية (الإدارية) وهو ما يجعله يمثل الإطار الزّمني الأنسب لطرح موضوع الحظّ والتّنجيم وما «تقول الأبراج» أو ما يقولون عنها بالأحرى حتّى نحاول تعديل الكفّة في مقاومة التّجهيل  المصاحب لحالة «الحمّى التنجيميّة» التي ترتفع كما ذكرنا في هذه الفترة من السّنة. وسنسعى في المقالين اللذين سيصدران في بداية شهري ديسمبر وجانفي إلى تحقيق الأهداف التالية : 
- إظهار بعض الحقائق المتعلّقة بعلاقة علم الفلك بالتنجيم.
- المساهمة في مجهود التّنمية البشريّة الذي يتطلّب ضرورة إشاعة ثقافة علميّة تنشر الوعي العلمي (تاريخا وموضوعا ومنهجا) وتحارب الجهل والخرافة والأوهام.
- تحقيــــق هدف مــــن أهــــداف ثورتنــــا المجيـــدة «17 ديسمبر/14 جانفي» المتمثل في إرساء وترسيخ مبدأ كرامة الإنسان باعتبار أنّ المتاجرة بآلام النّاس وآمالهم وصعوباتهم الحياتية وخداعهم بحلول وهميّة هو أكبر تعدّ على كرامتهم وحقّهم في معرفة الحقيقة ومواجهة واقعهم بصبر وعزيمة وإيمان.
- إبراز الموقف الإسلامي من لعبة التّنبؤ بالمستقبل إذ يؤكّد القرآن الكريم أنّ الكون وظواهره الطّبيعية والإنسانية محكوم بقوانين ونواميس تنفي عنه الفوضويّة وأن ليس للإنسان فيه من المستقبل إلاّ ما سعى.
التنجيم: المفهوم والأهداف
التنجيم لغة هو مصدر من الجذر «نجم». وفي مقاييس اللّغة فإنّ النّون والجيم والميم أصل صحيح يدلّ على طلوع وظهور. ونجم الشّيء ينجم إذا طلع وظهر. ونجّم (بتشديد الجيم) الدّين أي قسطه على صاحبه فجعله نجوما يدفع كلّ قسط عند طلوع نجم من النّجوم السّماوية. فالنجوم مثلها مثل الشّمس والقمر تشرق وتغرب ويتقدّم شروقها 4 دقائق كل يوم بالنّسبة لليوم السّابق، فالنّجم الذي يشرق اليوم على الساعة السّادسة مثلا يشرق غدا على السّاعة الخامسة و 56 دقيقة. 
أمّا اصطلاحا، فالتّنجيم هو النّظر في النّجوم وحساب مواقيتها وسيرها حسب لسان العرب. والمنجّم هو الذي ينظر في مطالع النجوم ومواقع الكواكب والشمس والقمر في القبّة السّماوية لحظة الميلاد مستهدفا من ذالك، كما يدعي، التنبؤ بمصائر ومستقبل الأحداث المتعلقة بالإنسان والأرض والتعرف على خاصّيات الأفراد السّلوكية والنّفسية والمزاجيّة.
نشأة التنجيم
يقوم التّنجيم على الاعتقاد في تأثير الأجرام السّماوية والظّواهر الفلكيّة على الفرد والجماعة والأحداث الأرضيّة. يمثّل هذا الاعتقاد مسلّمة لا يمكن إثباتها علميّا كما سنحاول التّدليل على ذلك لاحقا. وللوصول إلى ذلك يجب التّنقيب في تاريخ الإنسان الى أبعد مدى زمني تسمح به القرائن المبثوثة في أرشيف الأرض حتى نتبيّن الظّروف والسياقات الفكرية والمعرفية التي مكّنت فكرة الاعتقاد في تأثير السّماء على الأرض من التّرسب في لاوعي الإنسان وباتت تبدو وكأنّها حقيقة لا يرقى إليها الشّك. 
تناولنا في مقال سابق (1) موضوع بدايات اهتمام الإنسان بالسّماء وقلنا أنّ أقدم أثر يدلّ على اهتمامه بالنجوم يعود إلى 35000 سنة خلت كما تبرزه رسوم لحيوانات على جدران الكهوف وما يصاحبها من تجمعات نجوميّة. أما أقدم الجداول الفلكيّة التي عثر عليها فتبيّن أنّ جذور التّنجيم قد تعود إلى بلاد ما بين النّهرين وذلك في الألف الثّالث قبل ميلاد المسيح عليه السّلام  كوسيلة للتّنبؤ بمصائر الدّول وحكامها ثم توسّع التّنجيم خلال الحضارة الهيلينيّة ليشمل التّنبؤ بمصائر الأفراد أيضا. مارس الصينيون أيضا التّنجيم حوالي سنة 2000 ق م كما توجد أشكال أخرى من التّنجيم عند الهنود وقبائل المايا في أمريكا الجنوبيّة. أما المصريّون القدماء الذين أولوا اهتماما وثيقا بحركة بعض النّجوم في السّماء ليلا فإنّهم لم يكتفوا بالاعتقاد بتأثيرها على الإنسان حيّا بل تجاوزوا ذلك إلى ما بعد الموت. فقد عثر على جداول تحوي معلومات فلكيّة في توابيت فرعونيّة يبلغ عمرها 4000 سنة. تحوي الجداول تلك أسماء لنجوم كنجم الشّعرى اليمانيّة وهو أسطع النّجوم في النّصف الشّمالي للكرة الأرضيّة وتظهر فيها أيضا الرّسوم المصاحبة حركة تلك النّجوم. يعتقد العلماء الذين عثروا على تلك السّجلات الفرعونيّة وتحليلها لاكتشاف الغرض من وضعها أنّها يمكن أن تمثّل خرائط يسترشد بها الموتى في رحلتهم إلى عوالم جديدة في الآخرة وسط النّجوم (2).  
لن نستطرد أكثر في تناول هذا الجانب المتعلّق بنشأة الاعتقاد في تأثير الأجرام السّماوية على الإنسان والأرض إذ يمكن للقارئ أن يعود إلى مقالين لنا صدرا في هذه المجلة سابقا (3) . إلا أن الذي يجب التذكير به هو التزامن الذي لاحظه الإنسان منذ ألاف السّنين بين ما تظهره السّماء من أجرام متلألئة ليلا وحركة الشّمس والقمر والظّواهر الطبيعيّة مثل تغير طول اللّيل والنّهار وتبدّل وجه القمر من جهة وتغير المناخ وما يصاحب كلّ ذلك من وفرة أو قلّة في الموارد الطّبيعية كالثّمار والغلال وحيوانات الصّيد وغيرها من جهة ثانية مما يؤثّر مباشرة في قدرات الإنسان على الصّمود في وجه التّغيرات التي تهدّد بقاءه. فما حقيقة التّزامن بين مواقع وحركة الأجرام السّماوية ومناخ الأرض؟
الأرض :سفينة فضائية
تدور الأرض حول الشّمس بسرعة 30 كم في الثانية، قاطعة في كلّ دورة مسافة تقدر بـ 930 مليون كم. تتمّ الأرض دورتها تلك في فترة زمنية تسمى سنة. تتيح هذه الحركة لسكّان الأرض فرصة مشاهدة نجوم السّماء في كلّ الاتجاهات. فالوجه المظلم للأرض، أي الليل، يكون في فترة ما من السّنة باتجاه نجوم معيّنة تختلف عن تلك التي يتّجه نحوها في الفترات الأخرى. ففي الشّتاء مثلا يتّجه الوجه المظلم للأرض إلى ناحية من السّماء فيها مجموعة من النّجوم أطلق عليها قديما اسم «كوكبة الجبار». أمّا في الصّيف فتكون الأرض قد تحوّلت من موقعها سامحة لنا رؤية ناحية أخرى من السّماء أين يمكن مثلا التّعرف على مجموعة أخرى من النّجوم سمّيت بـ«كوكبة العقرب». إنّنا حقّا على ظهر سفينة فضائيّة تجوب بنا عنان الفضاء موفّرة لنا فرصة مشاهدة نجوم السّماء بدون أي ثمن. قلت بدون أي ثمن, لكن!. في الحقيقة هناك ثمن يجب دفعه مقابل التّمتع بمنظر السّماء الخلاب الذي بهر أجدادنا قبل أن تغزو شوارعنا وطرقاتنا الإنارة العموميّة وقبل أن تتلوّث سماؤنا بالعديد من الغازات. إنّ الثمن هو الانتقال بعيدا عن أي مصدر للضّوء حتى تتمكّن عيوننا من رؤية الأجرام السّماوية من نجوم وكواكب وشهب وغيرها. ربّما يكون القارئ قد تساءل عن معنى كوكبة وهو محقّ في ذلك إذ يتطلّب المصطلح تعريفا بدلالته خاصّة وأنّه في جوهر موضوع التّنجيم باعتبار أنّ «الأبراج» هي كوكبات أي مجموعات نجوم فما هي الكوكبة وما هي حقيقتها ومن أين تستمدّ اسمها ولماذا هناك كوكبات ذات «حظّ» أوفر من غيرها عند المنجّمين الذين يكذبون ولو صدقوا؟   
الأبراج
كل النقاط المتلألئة في صفحة السّماء هي نجوم أي كتل من الغاز المشتعل. فهي أفران كونيّة تطبخ داخلها المادّة التي تتكوّن منها كلّ الأجسام. فعنصر الكربون مثلا والذي يمثّل أساس المادّة الحيّة تخلق في قلب النّجوم. إنّ العنصر الوحيد الذي منه تتكوّن النّجوم ولا تنتجه هو الهيدروجين إذ تتّفق النّظريات العلميّة التي تتناول ماضي الكون وبداياته أنّ جزءا من الطّاقة –والضوء طاقة- التي انبثقت من «شيء» لا يعرفون عنه شيئا تحوّل إلى هيدروجين وقليلا من الهليوم بنسبة ثلاثة أرباع وربع. ثمّ وبعد مئات الملايين من السّنين نشأت النّجوم بانهيار سحابات ضخمة من الهيدروجين على ذاتها وبدأ في مراكزها تحوّل الهيدروجين إلى هليوم ثم الهليوم إلى كربون ثم الكربون إلى أكسجين وهكذا إلى أن تخلق الحديد. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ شمسنا نجم وهو في طور تحويل الهيدروجين إلى هليوم من خلال عمليات انصهار نووي مطلقة كميات ضخمة من الطّاقة يصلنا جزء منها في شكل ضوء ودفء ضروريّان للحياة على العارض. 
توجد تلك النّجوم على أبعاد من الأرض لا توصف إذ يكفي أن نذكر أن أقرب نجم لنا بعد الشّمس طبعا هو رجل القنطور (الظلمان) ويوجد على مسافة 42000 مليار كم. يحسن التذكير بأن علماء الفلك يستعملون وحدة تسمى السّنة الضوئيّة (س.ض.)  لتفادي استعمال أرقام خياليّة للتّعبير عن المسافات بين النّجوم وبين مجموعات النّجوم أي المجرّات. ونظرا لتلك المسافات الهائلة تبدو لنا النّجوم ثابتة بالنّسبة لبعضها البعض رغم حركتها الجنونيّة. وللتّدليل على ذلك يمكن أن نذكر مثالين، الأول من تجربتنا اليوميّة والثاني من السّماء طبعا.  أمّا الأول فيكفي أن نلاحظ حركة الطّائرة التي تمرّ فوقنا على ارتفاع يقدر بعشرة كيلومترات فقط. فرغم أنّها قريبة فإنّ حركتها تبدو بطيئة جدّا لو قارناه بسرعتها الحقيقيّة التي تكون في حدود ألف كلم في السّاعة أو أكثر. أمّا المثال الثاني وهو من صميم موضوعنا فهو يتعلّق بأغلب النّجوم التي تكوّن مجرّتنا وعددها نحو مائتي مليار نجم أو أكثر فهي تدور بالنّسبة لمركز المجرة بسرعة تقدر بـ210 إلى 240 كم في الثانية. إنّ ذلك الثّبات الظّاهري هو الذي يوحي بوجود مجموعات من النّجوم وكأنّها مرتبطة ببعضها البعض. وبالإضافة إلى ذلك فإنّ عدم قدرة أعيننا على إدراك البعد الثالث في الفضاء يعطي انطباعا خاطئا بوجود عناصر تلك المجموعات على نفس المسافة منا. وكمثال على ذلك نذكر كوكبة الدّب الأكبر (سنعود إليها لاحقا مع الكوكبات التي ذكرناها من قبل) والتي تظهر سبعة نجوم ساطعة يوجد أقربها على مسافة 88 س.ض. أمّا أبعدها فتفصله عنا 228 س.َض. 
إنّ كوكبة النّجوم هي مجموعة تبدو لنا متماسكة مع بعضها وعلى نفس المسافة منا وقد ألفها القدامى وأعطوها أسماء في إطار أساطير تهدف إلى صياغة تصوّر متكامل للسّماء حتى يكون لها معنى. فالإنسان لا يمكن أن يكون إنسانا إلاّ إذا تساءل وبحث عن الإجابة ولو في شكل أسطورة كما كان في الماضي عندما لم يكن هناك فصل بين الفلك باعتباره رصد للسّماء والتّنجيم باعتباره إضفاء لمعنى ما عليها. فما معنى كلمة برج؟ أليس السؤال المدخل إلى مسألة «الحظ» هو «ما هو برجك؟».
الهوامش
(1) انظر العدد 81 من مجلّة الإصلاح مقال «الإنسان والسماء-ج1».
(2) انظر العدد 81 من مجلّة الإصلاح مقال «الإنسان والسماء-ج1».
(3) انظر العدد 81 من مجلّة الإصلاح مقال: «الإنسان والسماء-ج1» والعدد 82 مقال:«الإنسان والسماء-ج2. معادلة :الفلك-التنجيم».