بهدوء

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
يا وطنا يسكننا ولا نسكنه: وطن بلا مواطنة
 الوطن ومساحة التّسامح
في ظلّ غياب تطبيق منظومة العدالة، يسكننا الوطن ولا نسكنه حتّى وإن كنّا فيه، تنهار قيم الانتماء حتّى ولو تغنّينا بها. يسود شعور بالغربة داخل الوطن، ولا تكاد تشكّ أنّ الوطن محتلّ من فريق من بني جلدتنا يتكلّمون بألستنا، لكنّهم صادروا كلّ شيء، الأرض والإنسان والقيم لأنفسهم. هذه فحوى عبارة رأيتها منذ حوالي ربع قرن من الزّمان في منزل مؤرخ فاضل وهي «يا وطنا يسكننا ولا نسكنه» وكانت تحت خارطة جرح الأمّة النّازف «فلسطين الحبيبة»، تذكّرتها الآن فأثارت شجوني في الكتابة عن الوطن الذي يعيش بداخلنا والمواطنة التي لا ننعم بها فيه. 
قد يعرف الوطن على أنّه المنطقة الجغرافيّة التي توطّدت فيها العلاقات الاجتماعيّة بين أفراده حتّى شكّلت من مجموعها هويّة وتاريخا وأمّة. والوطن في الفكر السّياسي الحديث سيادة وعقد ومشاركة. سيادة على إقليم محدّد يعترف بحدوده دول الجوار على وجه الخصوص والعالم على وجه الإجماع، حدّدت بموجب معاهدة وستفاليا 1648م، وبالتّالي أصبح اعتراف دول الإقليم جزءًا من سيادتك على أرضك. والإشكال الحقيقي هنا هو فكّ الارتباط المتمثّل في الانتماء الدّيني أو القومي عن أيّ قيمة سياسيّة خارجيّة في دولة الجغرافيا منزوعة التّاريخ. وعقد اجتماعي بين أفراده ينشئ نظاما سياسيّا متّفقا عليه، تطوّر العقد الاجتماعي من مجمل أفكار «توماس هوبز» و«جون لوك» و«جان جاك روسو» وتأسّس حول فكرة الدّولة الحديثة كنظام تعاقدي بين أفراد أحرار وعقلاء أنتج اتّفاقهم إرادة عامّة تمثّل مصدر السّلطة التي تمارسها الحكومة. هذه الإرادة تعتبر أساس سيادة القانون واحتكار الدّولة لسلطة الالزام الجبري وأخيرا المشاركة النّشطة من جانب كلّ مواطن في تقرير أو تسيير أمور البلاد. بهذا المفهوم يكون المجتمع وعاءًا للسّلطة ويكون جميع الأفراد شركاءَ في القرار. وأصبح من المعلوم من السّياسة بالضّرورة أنّ العقد الاجتماعي في الأوطان المختلطة بذوي الأديان المختلفة لا ينبغي أن يُصاغ  من منظور علاقة الفرد بطائفته فقط بل لابدّ من صياغته من المشتركات العامّة التي لا يجبر أحد على أن يجعل ممارساته العمليّة مخالفة لاعتقاده، ولا أدلّ على ذلك ممّا فعله «كارلوس منعم» رئيس الأرجنتين 1989م – 1999 م في الجلسة الافتتاحيّة للبرلمان حين مَنَع برلمانيّا مسلما من القسم على الإنجيل - برغم أنّه قسم دستوري -  نظرا لأنّ هذا الأمر يخالف معتقدات ذلك البرلماني. فلابدّ من مساحات واسعة من التّسامح بين أبناء الوطن الواحد، تسامح لا يلغي الفوارق ويضمن ثراء المجتمع من اختلاف أفراده كما يضمن عدم تكوين هويّات متضاربة جزئيّة جماعاتيّة. 
وفي تاريخنا الإسلامي مساحة من التّسامح لا يوجد لها نظير في تاريخ الدّنيا، وقد شهد به الأعداء قبل الأصدقاء. ينقل «عفيف طبارة» في كتابه روح الدّين عن «ويليام روبرتسون سميث» في كتابه تاريخ شارلكن «إنّ المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروح التّسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وإنّهم مع امتشاقهم الحسام نشراً لدينهم، تركوا مَن لم يرغبوا فيه أحراراً في التّمسك بتعاليمهم الدّينية، ... لكنّا لا نعلم للإسلام مجمعاً دينيّاً، ولا رسلاً وراء الجيوش، ولا رهبنة بعد الفتح، فلم يُكره أحد عليه بالسّيف ولا باللّسان، بل دخل القلوب عن شوق واختيار، وكان نتيجة ما أودع في القرآن من مواهب التّأثير والأخذ بالأسباب»(1). ويقول «ول ديورانت» في قصّة الحضارة «لقد كان أهل الذّمة، المسيحيّون والزرادشتيّون واليهود والصّابئون يستمتعون في عهد الخلافة الأمويّة بدرجة من التّسامح، لا نجد لها نظيراً في البلاد المسيحيّة في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، وكان اليهود في بلاد الشّرق الأدنى قد رحّبوا بالعرب الذين حرّروهم من ظلم حكامهم السّابقين، وأصبحوا يتمتّعون بكامل الحرّية في حياتهم وممارسة شعائر دينهم، وكان المسيحيّون أحراراً في الاحتفال بأعيادهم علناً، والحجاج المسيحيّون يأتون أفواجاً آمنين لزيارة الأضرحة المسيحيّة في فلسطين، وأصبح المسيحيّون الخارجون على كنيسة الدّولة البيزنطيّة، الذين كانوا يلقون صوراً من الاضطهاد على يد بطاركة القسطنطينيّة وأورشليم والاسكندريّة وإنطاكيا، أصبح هؤلاء الآن أحراراً آمنين تحت حكم المسلمين»(2) ، ويقول «توماس آرنولد»: «لم نسمع عن أيّة محاولة مدبّرة لإرغام غير المسلمين على قبول الإسلام أو عن أي اضطهاد منظّم قصد منه استئصال الدّين المسيحي، لقد عامل المسلمون الظّافرون العرب المسيحييّن بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة، واستمر هذا التّسامح في القرون المتعاقبة، ونستطيع أن نحكم بحقّ أنّ القبائل المسيحيّة التي اعتنقت الإسلام قد اعتنقته عن اختيار وإرادة حرّة، وإنّ العرب المسيحييّن الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات المسلمين لشاهد على هذا التسامح»(3) وينقل «الخربوطلي» عن «حتى فيليب» في كتابه «تاريخ العرب» حديثه عن رغبة أهل الذّمة في التّحاكم إلى التّشريع الإسلامي، واستئذانهم للسّلطات الدّينية في أن تكون مواريثهم حسب ما قرّره الإسلام(4)، ويقول فيلسوف الثّورة الفرنسيّة «جوستاف لوبون» في كتابه حضارة العرب «إنّ القوّة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن، فقد ترك العرب المغلوبين أحراراً في أديانهم .. فإذا حدث أن انتحل بعض الشّعوب النّصرانية الإسلام واتّخذ العربيّة لغة له؛ فذلك لما كان يتّصف به العرب الغالبون من ضروب العدل الذي لم يكن للنّاس عهد بمثله، ولمّا كان عليه الإسلام من السّهولة التي لم تعرفها الأديان الأخرى» (5).
المواطنة
تعرف المواطنة على أنّها منظومة متكاملة من الحقوق الدستوريّة وأعظمها ضمان الحرّية وتساوي فرص المشاركة في الشأن العام التي يتمتّع بها الفرد مقابل تكاليف تتمثل في ولائه وانتمائه لوطنه. أي أنّ المواطنة مفهوم سياسي اجتماعي قانوني يعبّر عن الولاء والانتماء ومدى الارتباط وتنفيذ الوفاء بالالتزام الأخلاقي والقانوني تجاه القطر الذي نشأ فيه الإنسان من جذور إجتماعيّة طبيعيّة (أباء وأجداد) وشكّل فيها مجموع تفاعلاته المختلفة بالمجتمع والسّلطة التي تحكمه، مثل درجة الوعي، وثقافة التّعددية، وأنماط المشاركة والممارسة السّياسية، التآلفات، والتّدافعات والصراعات وما يستتبع ذلك من ضمان إجراءات عمليّة تقاضي عادلة، والمصاهرة وما يستتبع ذلك من البناء الهرمي للأسرة والمجتمع، والعمل والتجارة وما يستتبع ذلك من حماية حقوق العمّال والمستهلكين بل والمستثمرين ومكافحة الفساد.... إلخ حتّى أصبحت المواطنة تستوعب منظومة متكاملة من الحقوق والواجبات ترتكز على دعم البعد الإنساني المجرَّد بعيدا عن الانتماءات الدّينية والعرقيّة، والإثنيّة والطّائفية التي ينظر إليها منظروا ترسيخ قيم المواطنة على أنّها معول هدم لثقافة المواطنة.
ولا شكّ أنّ المواطنة بهذا التّعريف تبني بلدا قطريّا من الجغرافيا متجاوزة التّاريخ والحضارة ربّما يبدو في الظّاهر بشكل جيد. لكنّه لا يضمن تشكيل علاقات مترابطة بين بلدان عدّة يربطها رابط أكبر من رابطة المواطنة ممتدّ في الجغرافيا والتّاريخ والحضارة. بشكل مختصر تعرف المواطنة على أنّها علاقة تقوم بين شخص طبيعي «الفرد» وآخر اعتباري «المجتمع السّياسي» يسمّى الدّولة، ومن خلال هذه العلاقة يقدّم الطّرف الأوّل الولاء، ويتولّى الطّرف الثّاني الحماية، وتتحدّد هذه العلاقة بين الشّخص والدّولة بالمساواة أمام الدّستور والقانون في ظلّ هيمنة الدّولة الحديثة .
تطوّر مفهوم المواطنة وإشكالياته
 تطوّر مفهوم المواطنة من لدن «أرسطو» الذي كان يقصر المواطنة على الرّجل المؤهّل لتولي المناصب العامّة وينفيها عمن سواه. وبعد أرسطو بأكثر من ألفي عام عبّر عن ذلك الفيلسوف الألماني «هيغل» قائلا «المواطن الحرّ الوحيد في الإمبراطوريّة هو شخص الإمبراطور». إلى أن ربطت الثّورة الأمريكيّة (1775م) والثّـــورة الفرنسيّة (1789م) مفهوم المواطنة بفكرة المسؤوليّات المتبادلة بين الدّولة والافراد (6). وقد سبق الإسلام هذه الثّورات بنصّ شريــف «كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته» لم يستثن من ذلك أحدا سواء كان حاكما أو محكوما وتمّ تطبيقه بامتيـــاز في دولة النّبوة ودولة الخلافة الرّاشدة.
والإشكاليّة الصّعبة التي لم نتجاوزها بعد في وطننا العربي كمجموعات سياسيّة هو رفع هذه القيم السّياسية مثل الوطن والمواطنة والتي تطوّرت أصلا خارج الإطار المعرفي العربي الإسلامي وتنزيلها منزلة الاعتقاد الدّيني الذي ساد لقرون طويلة بالمنطقة، ومن ثمّ خلط الوصف بالقيمة. ولذلك وجب علينا إمّا إنتاج فكر سياسي حديث يتلاءم وتغلغل الدّولة في مفاصل الجسد الاجتماعي، أو تبيئة المصطح أو تسكينه بلطف في جسد ثقافتنا العربيّة الإسلاميّة.
 وفي الحقيقة  ترجــع هذه الإشكاليّة إلى عدميّة الانتاج الثّقافي والفكـــري في الحقـــول الفلسفيّة والاجتماعيّـــة وما يرتبـــط منهما بالسّياسية والقانون وهما الحقليـــن المرتبطيـــن بهذه المصطلحات بل من عدميّة الإنتـــاج في شتّى مناحي المعرفـــة والاكتفاء بالشّروح على مدونات فكرية / فقهية سابقة ورفع درجة الوثوق بها إلي درجة تشبه التقديس، مع حاجتنا وعدم استغنائنا ولا شـك إلى أفهام السابقيـــن التي تتفق والقواعـد المؤسسة لكلّ علم، فالتراكـــم المعرفي ضروري جدا في بناء الحضارات، لكن حمل مقولات الأفراد التي بها درجات من الاختلاف علي ما يشبه الإجماع أمر خطير، أما إجماع السابقين فبالضـرورة لا مناقشة فيه خصوصا إذا لم يكن ذلك الإجماع خاصّا بعصرهم فقط.
بين العقد الاجتماعي والعقد العاطفي
تختلف درجة الرّابطة بل ومسمّاها بين أفراد المجتمع، فما يربط أفراد الطّوائف أو الجماعات السّياسية المختلفة ليست عقودا عاطفيّة منبعها الحب والودّ والفداء بل عقد اجتماعي مبناه على المواطنة أي على آداء الحقوق والواجبات المنصوص عليها في الدستور ومدونات القوانين المعمول بها، وهو عقد مادّي بحت ذات بنود محدّدة وتنفيذه يضمن تماسك المجتمع ووحدة الوطن. على خلاف الروابط التي تتوطّد بين أبناء الاتجاهات الفكريّة الواحدة أو أبناء الأسرة الواحدة. 
ترسم الحالة الثانية هذه وطنا حالما رومنسيا ملوّنا بالحب والفداء في نوادينا، بالفخر والاشتياق في غربتنا، بالتّغني في أشعارنا. وكما يقول الدكتور توفيق السيف(7) «هذا وطن مكثّف في لوحة ذهنيّة تملؤها جماليّات متخيّلة لأنّ الإنسان يريده كذلك. إنّه تطلع رومانسي لشيء محبوب، والحبّ لا يحاكم ولا يجادل»  ذلك وطن قيس بن الملوح:
«أمر على الديار ديار ليلى 
فأقبل ذا الجدار وذا الجدارا
 وما حب الديار شغفن قلبي 
ولكن حب من سكن الديارا»
ووطن أحمد شوقي حيث تنازعه نفسه الحنين إلي الوطن وهو في الجنّة: 
«وطنى لو شغلت بالخلد عنه
نازعتنى إليه فى الخلد نفسى».
لكن في العلوم السّياسية الحديثة لا يعتدّ إلاّ بالعقود الاجتماعيّة المادّية البحتة المؤسّسة على المواطنة  كأساس لقيام علاقات دستورية أو سياسيّة وهذا هو الواقع المحيط بنا وليس المثال. والمشكلة الكبرى أنّ الواقع يسحب المثال من العقل الجمعي.
وأبعد من ذلك تعتبر المواطنة، مصطلحا موغلا في المحلّية إلى أبعد الحدود وهو إحدى نتاجات «سايكس بيكو» التي قطرت العالم الإسلامي وجعلته واقعا في النّفوس. حتى إنّ إحدى الدّول لو انقسمت لانقسمت المواطنة ولو تفتّت لتفتّت المواطنة حتى تكون المواطنة من وجهة النّظر العمليّة تعبيرا عن ذات المواطن بل تعبيرا عن بيته الضّيق وجسده الأضيق حتى عبّر عنه أحد الإعلانات التّجارية في ميدان العقارات «تملك مواطنة متميّزة في كذا» وأصبحت المواطنة درجات تعتمد على قدر ما تمتلك من جغرافيا الوطن والجسد والقوّة، فمواطنة العامل ليست كمواطنة صاحب رأس المال. 
ولسبر أغوار هذا المفهوم السياســـي وتعارضــه أو تجانسة داخـــل المنظومـة المعرفيــة الإسلاميــة نقدم ما يلي:
تسكين المواطنة في الدّين
ما أجمل النّصوص القرآنية التي تقرّر أنّ الخروج من الدّيار ومفهومها الحديث هو الوطن قرينا لخروج الرّوح من الجسد، ولا يقلّ منزلة عن القتل سواء بسواء، وقرّرت أنّ الخروج من الوطن قهرا نصرة للدّين من أعلى مراتب الإيثار، كما أكّدت الآيات على أنّ من خرج من وطنه نصرة لدينه، فإنّه يستحقّ نصرة الله له، وأنّ من حبّ الوطن الدّعاء له بالأمن وسعة الرّزق. وكذلك نصوص السّنة النّبوية التي تقرّر ضرورة إظهار الحبّ والشّوق للوطن، وإعلان الحنين إليه، والتّغني بحبّه، كما تؤكّد أهمّية حب ما في الوطن من معالم لها في النّفوس ذكريات ومواقف، وتقرّر كذلك الحثّ على ملازمة الوطن، والحفاظ على كلّ مقوماته بل والإنسان كلّ الإنسان قبل الأرض، بل إنّ ابن تيمية كان يقول للتّتار عند مفاوضتهم في الأسرى «أهل ذمّتنا قبل أهل ملّتنا».
ولكن بعد «سايكس يبكو» وتقسيم الدّول العربية الإسلاميّة المستعمرة إلى كانتونات «جستابو» فرضه المستعمر في شكل الدّولة المعاصرة فيما يسمّي بالدّول القطريّة تمّ تكريس فكرة مشوّهة عن المواطنة لتحلّ محلّ القطب والمفترض أن يكون القطب هو الوحي ليدور القلب حول الوطن. ولمّا كانت العلمانية الغربيّة تعلم تماما أنّ الإنسان لا يستطيع أبدا أن يلغي فكرة الولاء، قامت بإحلال الإنسان محلّ الله أو بمعني آخر أحلّت العقل البشري محلّ الوحي. 
ففي النصرانية كان عقد الولاء على الدّين «الصليب» فصار الولاء على علم الدّولة في إشارة واضحة لإحلال العلماني محلّ المقدّس عندهم. واستبدلت التّرانيم الكنسيّة التي كانت تتلى أمام الصّليب بالنّشيد الوطني أمام العلم. بالتّالي بدءوا تدريجيّا بسحب سلطان الكنيسة وإعطائه للعقل الجمعي الممثل بالدّولة المنتخبة (والتي قيّدت برضا الشّعب). وفي بلداننا الإسلاميّة تمّ استنساخ التجربة ولكن بطريقة مشوّهة فجاءت «المواطنة» فجعلت عقد الولاء للوطن ( ولكنّه في الحقيقة ولاء للزعيم/الدولة  أو الحزب /الدولة) . بذلك احتكرت الدّولة (الزعيم/الحزب) كلّ السّلطات في يدها حتّى يمكنها تجنيد كلّ عناصر المجتمع في خدمتها وحتّى يمكنها أن تصوغ المواطن حسب قوالب محدّدة تضمن ولاءه الكامل (تماما مثل ترويض الحيوانات أي أنّه تمّ النظر إلى الشّعوب على أنّها حيوانات يتمّ ترويضها من قبل السّلطة. راجع في ذلك كتاب تيموثي ميتشل «استعمار مصر»(8))، وحتّى يستقرّ في ذهن المواطن «الصّالح» بحسب السّلطة أنّ الدّولة هي الكيان الوحيد الذي يمتلك الحقيقة المطلقة وحدها، من خلال تكريس مفهوم السّلطة والسّيادة التي تضفي على سياسة الدّولة مهابة وشرعيّة تحمل الأفراد على طاعة سلطتها واحترام هيبة القانون بالإعلام كأداة لفرض الرّضوخ للقوّة كمعيار وحيد للحكم والآلية الوحيدة لحسم الخلافات. الأمر الذي أدّى إلى إضعاف المجتمع المدني وتهميشه فحلّت بذلك الدّولة (الزعيم/الحزب) محلّ الله وحلّ القانون محلّ الشرائع(9). 
وفي ظل الاختلاف بين اعتبار الولاء للدّين أساسًا من أسس المواطنة في صورتها النّموذجية، أو ضرورة تنحيته باعتباره سبيلاً لتقويض مرتكزات ثقافة المواطنة، لكن البعض يقدم إشكالا وجيها مفاده أنّ الولاء بلا دين يسهل معه تحويل هذا الولاء المبالغ فيه إلى سلعة يقضى بها الغرض، فمن يدفع أكثر، فسيباع الوطن له، لكن الولاء الدّيني (بعيدا عن الممارسات الفرديّة) يبقى ضابطا للإنسان، حافظا له من المزايدة والتّسليع، وبيع مصالح بلده وقومه لمصلحة خاصّة.   
الهوامش
(1) عفيف عبد الفتاح طبارة، روح الدين، دار العلم للملايين، 1993.
(2) ول ديورانت، قصة الحضارة، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم - دار الجيل للطبع والنشر والتوزيع.
(3) سير توماس آرنولد، الدعوة إلى الإسلام، بحث في تاريخ نشر العقيدة الإسلامية، ترجمة وتعليق حسن إبراهيم حسن، عبد المجيد عابدين وإسماعيل النحراوي، مكتبة النهضة المصرية، 1971 م.
(4) علي حسني الخربوطلي، الإسلام وأهل الذمة،  المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية – مصر، 1969.
(5) جوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة.
(6) Scruton, R., A Dictionary of Political Thought, (London, 1996), p. 71.
(7) توفيق السيف، الوطن، الهوية الوطنية، والمواطنة: تفصيح للاشكاليات. محاضرة في منتدى د. راشد المبارك – الرياض 2 يناير 2011.
 http://aafaqcenter.com/post/755
(8) تيموثي ميتشيل «استعمار مصر» (1991)، مطبوعات جامعة كاليفورنيا، مدارات للأبحاث والنشر، ترجمة  بشير السباعي وأحمد حسان (2014)، مصر.
(9) راجع في ذلك كتابات الدكتورعبد الوهاب المسيري عن الدولة الإله - «عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، دار الشروق - القاهرة، 2002».