قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
الليل لم ينجل
 هل نحن إزاء معركة الوطن أم نحن إزاء معركة على الوطن ؟ سؤال مرّ و لكنّه للأسف سؤال نكتشف دائما حين نطرحه  أنّنا نطرح سؤالَ اللّحظة و سؤال الرّاهن.
يذكّرني هذا السّـــؤال شلاّل الدّماء المتدفّــــق فى أكثر من مكان في وطننا العربي، دماء تسيل بلا هدف ولا أيّ معنـــى سوى اغتيــال الأوطان. ويذكرني هذا السّــؤال مشهد نخبتنـــا التى باعت للمستبد شرفهـــا ووطنهــــا من قبل وعادت الآن تقاتـــل جاهدة من أجل إعادتـــه إلى حضن أسيادها نكايـة فــى من تظنهم أعداءها ولا تستطيع أن تراهم يشاركونها الوطـــن .
يذكّرني هذا السّؤال مشهدَ مثقفّينا وهم يبنون الحاجز تلو الحاجز بينهم وبين شعوبهم أفرادا وجماعات وكلّهم إصرار على مزيد من التّعالى على النّاس وثقافتهم ورموزهم ودينهــــم وخصوصيتهم، كل ذلك وهـــم يدّعـــــون خدمة الوطـــن وتثقيــــف مواطنيه.
ويذكّرني أنّنا إزاء معركة على الوطن إصرارَ الجميع دون استثناء على إضاعة الوقت والفرص فى زمن تتقدّم فيه الشّعوب الأخرى كلّ لحظة فى مناخ من الأمن والمحبّة و السّلام ، فهل قدرنا وقدر أوطاننا أن نظلّ ضحيّة للصّراع الذي لا يقود الوطن إلاّ إلى الكارثة؟.
كلّما اقتربنا أكثر من الضّياع كلّما أدركنا أنّنا بارعون فى إضاعة الفرص ولكنّنا عند التّقييم نفقد الموضوعيّة تماما، فيحمّل كلّ طرف منّا مسؤوليّة التّردّي إلى الطّرف الآخر ويزداد حجم الانقسام داخل المجتمع وبين أفراده فإذا الكلّ يهاجم الكلّ ويخوّنه وكأنّ ما يحدث ليس نتيجة حتميّة لما صنعته وتصنعه أيدينا من عبث.
فمــــرّة نقــول أنّ السّياسييــن هم من أضاعــــوا علينا فرصـــة بنـــاء وطننا بتشرذمهـــم و صراعهم ومؤامراتهــم، ومـــرّة نتّهـــــم المثقفييـــن الذين لم يعترفـوا لشعبهم بحقّـــه فى اختيار النّمط الثّقافـــى والحياتى الذي يريد، فعادوا ينتقمون منه بضراوة مستعملين فى ذلك كلّ ما يملكونه من قدرات مادّية وبشريّة بغايـــة تطويعـــه أو حتّى إخراجه تمامــــا من دائرة الفعـــل، ومرّة نتّهم القوى الخارجيّة بالتّآمر علينا حفاضــا على مصالحها فى عالم لا يعتــرف إلاّ بالمصالــح ومرّة ومرّة ... والحقيقة أنّ كل ذلك لا يعفينا من المسؤولية التى علينا أن نتحمّلها نحن جميعا سلطة وأحزابا ونخبة وشعبا، كلّ من موقعه، لأنّ الوطن الذى نتصارع من أجله هو وطننا نحن، تقدّمه من تقدّمنا وضياعه من ضياعنا ولا خيار لنا سوى العيش فيه.
قد يتّخذ الصّراع على الأوطان  شكلا من الهمجيّة والعبث اللّذين لا مثيل لهما فى التّاريخ كماهو الحال فى سوريا وفى العراق اللآن، وقد نكون مستقبلا أمام حتميـــة التّشضّـــي والتّلاشـــي حيث تعصـــف بأوطاننا الفتـــن حتّى تتحـــوّل إلى كيانـــات ورقع متصارعـــة لا حول لهـــا ولا قـــــــوّة. وحينهــــا لن يعود بوسعنــا الحديث عــــن أي فعل سياســــي أو ثقافـــي أو اجتماعي، وسيصبح غايـــــة أملنا قليــــل من الأمـن وقليــل مــن القـــوت ولا يهـــمّ من يأتــى بهذا الأمــن أو من يعطينا هذا القوت.
هــــل نحتـــاج إلى صــراع على الوطـــن أم إلــى الوطــن ذاتـــه؟ وأيّ ثقافــة علينــا أن نبنيهــــا من أجـل هذا الوطــن؟هل هى ثقافــة السّلام والمحبّـة والعيش المشترك، أم هى ثقافة الإلغـــاء والهيمنـــة والتدميـــر؟. وهل نستمر فـــى هذا الصـــراع الذى لا طائـــل من ورائـــه إلا الضياع أم نهتدي قبل فوات الأوان إلى طريق النجاة ؟.
من المهـمّ أن ننجح بالسّياســة فى تأجيل الانفجــار و لكننا لا نستطيع أن نبقى رهائن السياسة خصوصا إذا كانت هــذه السّياســة قائمة أساســـا على منهج القفز علــى المطبـّــات والإنحنــاء للرّيح وتكييف الواقع لا تغييـــره .وكذا من المهــمّ أن ندرك حاجتنا أكثر من أي وقت مضي إلى ثقافة المقاومة التى تحفز الشّعوب على تجديد طاقاتها الكامنة فيها كلّما خفتت وتعطيهــا مزيـــدا من القدرة على التجمع بـدل التشضــي والبناء بدل الهـــدم والشّمـــوخ بـــــدل الاستكانة.
إنّنا أمام سنوات فارقة فى التاريخ، وليس لنا بدّ من العمل ضدّ عقارب السّاعة ولا مناص من تغليب ثقافة الحياة على ثقافة الموت وثقافة السّلام على ثقافة التّدمير وثقافة المقاومة والفعل على ثقافة الاستكانة واللامبالاة وثقافة التّجميع بدلا عن التّفتيت. ألم يقل شاعرنا المفدّى من قبل:
ولا بُــــدَّ لِلَّيـْــلِ أنْ يَنْجَلِـــــي
وَلا بُـــدَّ للقَيْــدِ أَنْ يَـنْكَسِــــر
انكسر القيد ولكن الليل لم ينجلِ.