قصص القرآن

بقلم
الهادي بريك
قصة البقرة
 مقدّمة تأطيريّة مختصرة
نقل القرآن الكريم إلى النّاس أكثر من أربعين قصّة ممّا جدّ قبل نزوله. واحتلّت القصّة منه زهاء ثلثـه، وكانت القصّة الإسرائيليّة هي الأطول كمّيّا والأطرق ـ أي أكثر القصّة طرقا ـ وبذا احتلّت القصّة الإسرائيليّة من القصّة القرآنيّة أكثر من الثّلثين وهو ما حدا بأحدهم للقول بحقّ أنّ موسى وقومه كادوا يذهبون بكتابنا وهي قالة تعكس فقها قوامه ألاّ صلاح لوارثي الأرض على أنقاض التّجربة الإسرائيليّة الفاشلة إلاّ بمسلك غير إسرائيلي. 
وفي تصريح صريح علّمنا القرآن أنّ المقصد الأسنى من إيراد القصّة الغابرة هو إستلال العبرة الضّرورية للحاضر إذ قال :«لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب». وبذلك يرسم لنا القرآن منهجا علميّا عنوانه : التّاريخ وجبة حيويّة من وجبات التّأهل لحياة طيّبة سعيدة. وجبة توفّر لنا الأغذية اللاّزمة بل إنّ التّاريخ للحياة المعاصرة كالمرآة العاكسة التي يجهّز بها السّائق سيارته فهو بحاجة إلى نظرات فاحصة حادجة يلمّ بها بالمشهد الذي خلفه دون أن يشغله ذلك عن إستيعاب المشهد الذي يليه من الأمام.
القصة القرآنية حقل خصب ثرّ لصياغة فقه حياة إنسانيّة كريمة طيّبة إذ هي تختزن أكثر السّنن العمرانيّة والقوانين الإجتماعيّة التي ترفع الحضارات أو تحطّها.
خلاصة قصّة البقرة
هي أول قصّة، وقد جاءت في أطول سورة وأعظم سورة. خلاصتها أنّ بعضا من بني إسرائيل في عهد موسى عليه السّلام إعتدوا على رجل من عائلة أخرى فقتلوه ظلما ولمّا أعيت الحيلة  أولياء القتيل للظّفر بالقاتل لجؤوا إلى نبيّهم موسى عليه السّلام يسألونه أن يسأل ربّه عن القاتل ليُقدّم إلى القصاص، ولما فعل موسى عليه السّلام ذلك، أمروا بأن يذبحوا بقرة والرّاجح أنّهم فهموا المغزى رغم تجاهلهم له إذ هم أهل كتاب يشمل علما وحكمة، فظلّوا يعمّقون الهوّة بين ذبح بقرة والظّفر بالقاتل وراحوا يتعلّلون بالواهيات تفصّيا من المسؤولية، فسألوا عن سنّ البقرة، فأرشدوا إلى سنّ وسطى وفي ذلك ما فيه من المشقّة رصدا لسنّ وسطى. ثم سألوا عن لون البقرة المطلوبة للذّبح فأرشدوا إلى لون يندر جدّا وجوده في البقر وهو اللّون الأصفر الكامل والفاقع، وكلّما أوغلوا في الالتواء والالتفاف تفصّيا أوغل الله بهم في التّشديد والتّحريج والتّعنيت وبسط المشقّة ثم سألوا مرّة ثالثة عن هذه البقرة بقولهم أنّ البقر تشابه عليهم فأرشدوا إلى صيغة متشدّدة ملتوية مناسبة لطبيعتهم الحربائيّة، إذ أمروا بأنّها بقرة لم تذلّلها أعمال سابقة فهي قادرة على إثارة الأرض وسقي الحرث معا دون كلل ولا ملل وهي مسلّمة لا شية فيها إمّا لونا ولو مقدار درهم بغلي يشغب على صفرتها ـ وهل توجد بقرة في الأرض لا شيّة فيها ؟ ـ أو لا شيّة فيها من أثر هزال أو ضعف أو قصور لا باطن ولا ظاهر. 
وعندما أعيتهم حيلة التّفصي ظفروا بالبقرة عند شاب إسرائيلي عابد تقي فقير ليس له من الدّنيا سواها، فهي رأسماله وهي إستثماره وهي عولته وبذا ألجأهم الله الذي أرادوا التّفصي من حكمه إلى بذل ما عندهم من أموال ثمنا لهذه البقرة وكان ذلك سوقا منه سبحانه رزقا وفيرا زلالا  لذلك العبد الصالح وأنّى له أن يبيع بقرته الوحيدة إلاّ مقابل ثمن باهظ جدا. فكانت النتيجة أنّهم فشلوا في تفصّيهم وقَصُر بهم حبل الالتواء، فذبحوا البقرة وعندها أُمروا بأن يضربوا بشيء من لحمها شيئا من جسم القتيل، فلما فعلوا أحياه سبحانه ونطق بعظمة لسانه عن قاتله إسما وهوية في مشهد مكتظ من الملإ قريبا من يوم الزّينة.
أبرز عبرها
العدوان على حق الإنسان جريمة 
وصاحبها مفضوح مكشوف
تلك هي العبرة الأولى التي جاءت بها هذه القصّة. وهي المرّة الأولى التي تبدأ فيها قصّة من القصص القرآني من ذيولها لتخلص إلى رأسها، إذ في تأخير العبرة العظمى منها ما يلبث في الأذهان. قصّة البقرة كلّها خادمة لعبرة عنوانها أنّ العدوان على الإنسان بغير حقّ ـ وخاصّة العدوان بالقتل ـ جريمة لا تغتفر وأنّ المجرم لا بدّ أن يلقى جزاءه في هذه العاجلة قبل الآجلــة وأن يكــون ذلك الجــزاء محــل إشهــاد دولــي لعــلّ النـّـاس يرعـوون من بعده. لأجل قدسيّة الإنسان سخّر الله سبحانه بقرة ونبيّا ثم أحيا لأجل ذلك كذلك نفسا قضى عليها العدوان بالموت. يكفي الإنسان قدسيّة في الإسلام أن يحيي الله لأجل إستعادة حقّه ميتا.  
التدين الصحيح طاعة تلقائية 
لا تشديد ولاتعنيت ولاتحريج
إذا كانت العبرة الأولى موجّهة إلى الإنسان بصفة عامّة، فإنّ العبرة الثّانية موجّهة إلى المتديّنين حتّى يصحّحوا تصوّرهم عن ربّهم وعن دينهم وعن الإنسان. تحمل السّياق القرآني تكرّر هذه الكلمات مرّات في القصّة ليتناسب ذلك التكرار الثقيل مع ثقل الفهم الإسرائيلي قوامه التّردّد والتّشدّد والتّربص: «قالوا أدع لنا ربك يبيّن ما هي ـ أو ما هو لونها» وقوله :«قال إنّه يقول إنّها بقرة» ولا شكّ أنّ التالي يقرع سمعه بذلك التكرّر الذي هو ليس من عادة السّياق القرآني المنساب عذبا لذيذا كأنّه خرير ماء منساب في جدوله ولكن سيق ذلك ليشعر التّالي بالثّقل. ومن مظاهر الإعجاز البياني لهذا الكتاب تناسب مبناه مع معناه. 
التّدين الصّحيح هو المبادرة إلى الطّاعة كلّما كان الأمر أو النّهي صحيحا صريحا لا يحتمل أسئلة أخرى إرتداديّة. أمّا عندما يعمد الإسرائيليّون إلى الإلتواء تفصّيا من الطّاعة أو تفصّيا من وقوع الفضيحة، يدثّرون ذلك بما يلتقطه السّذج حرصا على التّدين والإتقان أي سؤالا عن سنّ البقرة وعن لونها .. فإنّ ذلك يفضحه الوحي ليعلّمنا أنّ ذلك تشدّد وتزمّت وتكبّر وتحريج وتعنيت للنّفس وللنّاس. هو السّلوك نفسه الذي عليه اليوم شباب كثير يتدثّرون بالسّلفية ـ وهي منهم براء ـ يعنتون أنفسهم والنّاس من حولهم حول شكليّات وجزئيّات وهامشيّات وتفاصيل ما لنا فيها من الشّرع من بيان فهي مسكوت عنها وقد نهينا عن السّؤال عن المسكوت عنه، لأنّ تفاصيل الأشياء لا نهاية لها ومن شأن الاشتغال بالتّفاصيل عدم التّركيز المطلوب على كبائرها وعظائمها وهو ما وقع فيه كثير من الشّباب اليوم، إذ أنّ كثرة اشتغالهم بما إشتغل به الإسرائيليون من أسئلة فارغة باطلة عن الفروع هوّن فيهم القضايا العظمى من مثل وحدة الأمّة والمقاومة دون إحتلال أرضها وانتهاك عرضها ونشدان أسباب التّقدم وغير ذلك ممّا قدّمه القرآن وعظّمه وكبّره. المطلوب تديّنا صحيحا هو العناية بالمقاصد والمعاني وهي تنفذ بالمبادرة إلى الطّاعة دون إلتواء، أمّا الإشتغال بالوسائل ـ عدا الوسائل التي تأخذ محلّ مقاصدها أي الأركان الأربعة المعروفة ـ فهو طريق مسدود يجعل العقول صغيرة حسيرة كليلة.
التشديد عاقبته التشديد
بمثل ما عامل سبحانه الإسرائيليّين المتشدّدين مع أنفسهم إلتواء وتفصّيا ظاهره الحرص على التّدين، فهو يعامل المتشدّدين في كلّ زمان ومكان بمثل ذلك، إذ سنّته مطردة لا تتخلّف. بقدر ما شدّد الإسرائيليّون على أنفسهم في هذه القصّة ورد عليهم التّشديد بمثل ذلك من ربّهم فكلّما سألوا عن البقرة سنّا أو لونا أو غير ذلك، أجيبوا بما هو أشدّ عنتا وحرجا ومشقّة، إذ الجزاء من جنس العمل قانونا مقنونا وسنّة مسنونة. 
كيف نلقى نحن اليوم التّشديد جـــزاء وفاقا؟ نلقاه بما  ظهرت فينا دعـــوات متعرّجـــة ذات يمين أو ذات شمال تجتهد متكافلة من غير سابق ميعاد على تضييع البوصلة الهاديــة التي قال فيها الإمام علي عليه الرضوان:«عليكم بالنّهج الوسط يفيئ إليه الغالي ويلحق به التّالــي». في عمية صخب مكتظ ترتفع أصوات العالمانيّـــة الرّافضة للدّيـــن مبدأ أو منتهى وبمثلهــا ترتفع أصوات الغلوّ والتّحريج مصابة بداء عمى الألـــوان، فلا تميّز بين لون العقيدة ولون الشّريعة وهما لونان مختلفـــان ولا يمنع ذلك أنّهما من مشكاة واحدة. ذاك ضرب من ضروب التّشديد الذي طرأ على حياتنا حتّى أصبحت مكافحة الإرهاب الذي يديره بعضنا ضدّ بعضنا أولويّة كلّ حكومـــة عربيّة أو إسلاميّة بل أولويّة كثير من الحركات الإسلاميّـــة والأحزاب المعتدلة، وكان يمكن لولا ذلك التّشديد علينا بسبب تشديدنا على أنفسنا أن نتفرّغ لمعارك النّماء والرّخاء ودحـــر المديونيّة ودعم المقاومة وتوحيد الأمّة ونشر العلم وبثّ ثقافة التّنوع.
الحقيقة بين السنة والإستثناء
السّنة ـ أي القانون ـ هي أنّ الموتى لا يحييهم سبحانه إلاّ يوم البعث ولكن يتردّد في ذلك بعض النّاس حتّى ممّن أسلمت جوارحهم ولم تؤمن أفئدتهم، فاقتضت قدرته سبحانه أن يخرق بعض السّنن في بعض الأحيان وخاصة في الزّمن الخالي أي قبل نزول الرّسالة الخاتمة ومنها هذه إذ أحيى سبحانه أمام النّاس جميعا ميّتا مقتولا، بل أنطقه ليعلن عن قاتله وليكون نطقه شهادة لا رادّ لها. 
ذلك يعني أنّ قدرة الله سبحانه لا تحدّ بحدّ ولكن النّاس تشغب عليهم الشّاغبات فيغفلون وينسون ويتلبّثون تردّدا وشكّا وريبة. ذلك يعني أنّها مناسبة لضعاف الإيمان أن يكون هناك بعث قبل البعث أو لنقل بعثا أبيض لعلّ النّاس يؤمنون حقّا بالبعث بعد الموت، إذ هو قد وقع على بصر منهم وسمع في هذه الدّنيا فما الذي يؤخّره يوم القيامة؟ 
الأصل هو بقاء السّنن على حالها وبها يؤمن الناس ولكن يخرق بعضها سبحانه لحكم كثيرة شتّى، فلا يعني ذلك شيئا سوى أن قدرته لا حدّ لحدودها وهي وسيلة رحمانيّة منه سبحانه لعلّ النّاس يؤمنون قبل ألاّ ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا.
لا شيء يند عن السبب حتى المعجزة
هذه عبرة عظيمة حقّا وصدقا. قوامها أنّه كان لا يعجزه سبحانه أن يحيي الميّت المقتول بكلمة منه ليعلن عن قاتله ودون الحاجة إلى أن يضرب بشيء من البقرة المذبوحة، وكان لا يعجزه سبحانه أن يظهر الحقيقة بأيّ وجه وصورة. ولكن لمّا طلب منهم ذبح بقرة ثم طلب منهم أن يضربوا القتيل ببعضها لتكون له من بعد ذلك حياة، فهو يريد أن يحقننا بحقنة معرفيّة عظيمة الأثر عنوانها أنّ السّبب لا بدّ منه حتّى في المعجزة. وهذه معجزة لأنّها تحقّقت من الله سبحانه وعلى يد نبيّ هو موسى عليه السّلام ورغم أنّها معجزة فهي بحاجة إلى سبب مباشر وهذا السّبب هو أن يضرب المقتول بشيء من البقرة المذبوحة وفي ذلك عبرة أنّ نشدان السّبب شرط مشروط لتحقّق المسبّب بلسان المناطقة.
وعندما تكـــون المعجرة الإلهيــــة القاهــــــرة نفسهـــا مرتهنــــة لذلك، فإنّ الــــدّرس الأبلـــغ هو أنّ الدّنيا والدّين أسباب فلا عمران إلاّ بسبب ولا تقدّم إلا بسبب ولا تأخــّــر إلا بسبب مثلــــه ولا إحتـــلال إلا بسبب، فمن فقه سنّة الأسباب وإنسجم معها تقدّم ومن لم يفقـــــه سنّـــة الأسبـــاب أو لم ينسجم معهــــا فهو يتأخّر سنّة مسنونة.
وحتّى عبر جديدة من قصّة جديدة أستودعكم من لا تضيع ودائعه.