تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
مرٌّ قبلُ وبعدُ
 رحم الله امرؤً ما ادّخر لنفسه إلاّ محبّة النّاس فتلاحقت له الأدعية من قلوب صادقة تؤثّث له موقعا في جنّات النّعيم. 
رحم الله والدتي ما ادّخرت لنفسها إلاّ رضاء من حولها، فكانت ما عاشت شمعة تذوي لتضيء سبيل من خلفتهم يهتدون بنورها الفيّاض.
رحم الله كلّ الأمهات رحمة لا تُستكثر ممّن رضع حليبا وشرب من عصارة الجهد ما عاشت الأمّ، واستساغ بعد مماتها ما زهدت فيه لا عن بخل عرفت به ولا عن كثرة مال ولا ترف، بل في زمن العوز والاحتياج ادّخرت ما قد يشفي العطش والجوع. فلم يُدرَك فيض عطائها إلاّ لما غيض ماء العين.
من ينسى؟ وهل أنسى رائحة الخبز؟ خبز أمي على لسان مرسال خليفة. خليط من دقيق وسميد القمح يعجن مع مضغة خميرة وحبّات ملح في وعاء من طين ثم يدثر بعناية حتّى ينتفخ وتفوح منه الخمائر التي تؤشّر لأوان عراك العجين ودلكه بجهد غير قليل خاصة من جسم سقيم كجسم والدتي. فكنت أرى على جبينها النوراني حبّات عرق قال فيها «جرارد دي بارديو» في دور مماثل لهذا الوضع، يمسح له فتاه ما نزّ منه قبل أن يدرك العجينة التي بين يديه «دٍعْها يا بني، إنّها سرّ نكهة الخبز». نعم وهي كذلك أمّي تدعك العجينة بما أوتيت من قوّة حتّى تصبح متماسكة وناعمة بما زقّته من زيت الزّيتون الفوّاح وما فلت عن يقظتها ووقع من جبينها. سرّ النكهة لن ينسى. ثمّ تقسّم العجينة إلى قطع متجانسة الشّكل والحجم وتتركها تكتمل تخميرها في انتظار إعداد الفرن التّقليدي الطّابونة. ولا تنسى والدتي أن تربّي الخميرة للعجين المقبل، فتوضّب قطعة صغيرة أكبر حجما ممّا يلزمها لعلّ إحدى الجارات تحتاج إلى لبنة منها، ثم تجعلها في الإناء نفسه حامل لقاح الخمائر ملفوفا جيدا حتّى يحفظ الحرارة ويمنع تسرّب الهواء.  
تُحشى الطّابونة بالحطب ممّا جمع في موسم تقليم الزّياتين أو بأوراق الصّنوبر الجافّة يتمّ جمعها صيفا ونقلها على ظهر حمار وخزنها فوق أسطح المباني. ولمّا تشعل النّار بالطّابونة تغلق والدتي فتحتها العلويّة لتحبس اللّهيب وتدير من حين لآخر «فركونها» وتعمله بكلّ حذر من فتحة صغرى جعلت من الأمام لتكثيف عمليّة الاحتراق وتهييج لهيب النّيران، وبحذر تهشّ على الأطفال من حولها مشدودين بسحر ألسنة اللّهب المتصاعدة واعتصار أعواد الحطب والتواءها حتّى الومضة الأخيرة وسقوطها رمادا تذكّرنا بسعير جهنّم ومصير من استحقّها من الكفرة. صور رسخها في عقولنا الصّغيرة الشّيخ المؤدّب مدرّسنا في الكتّاب. وكانت ألسنة اللّهب تستهوينا وتشدّنا إليها مقرفصين حتّى تنبهنا والدتي وتنهرنا لنبتعد عن حرارة الفرن. وكم من مرّة تسرع بحفنة ماء تبلّل وجه أحدنا احمرّ من شدّة الوهج الذي تلقّاه. وكم مرّة عند الابتعاد تلسعنا ثيابنا التي اكتوت من شدّة الحرارة.  
وما أن تخمد قليلا ألسنة اللّهب، تزيل والدتي الغطاء وتوزّع أقباس النّار لتسوي حرارة الجدران داخل الفرن وتكتم أنفاس الأقباس المشعّة التي مازالت ملتهبة بقطع من قصدير ثمّ تسارع لجلب قطع العجين الجاهزة وتشرع بكلّ حذق في إدارة القطعة تلو الأخرى بين يديها حتى تسويها قرصا مستديرا بالتّمام، وبسرعة وحذر أن يفلت منها القرص اللّين واللّزج تحافظ عليه بيد وتغمس بيدها الأخرى في الماء وتثيره أمامها في اتجاه الطّابونة ثم تنحني عليها وتهوي بنصفها الأعلى داخل الفرن حتّى تلصق قرص العجينة في الموضع الذي اختارته عن بعد بسطح الجدار الشّديد الالتهاب. ثم تتقهقر وراء لاسترجاع أنفاسها وتبلّل يديها وتنثر على وجهها الماء ثم تعود إلى الفرن من جديد فتدلي يدها ونصفها الأعلى داخل الفرن لتثبت القرص في مكانه حتى لا تسقط العجينة وسط ركام  الأقباس فتنطفئ فيها ويضيع الجهد. ودون انتظار مخافة أن يبرد الفرن، ما أن تعدل من وقفتها ويستقيم الظّهر، تكرّر العملية دون تردّد بعدد القطع التي تمّ إعدادها حسب طاقة استيعاب الفرن. 
وقبل إلصاق القرص الأخير يفوح شذى قرص الخبز الأوّل ويبدأ يدغدغ أنوف الحاضرين فينشرح وجه أمي مع انبعاث فهيجان رائحة الخبز الطازج الذي شرعت في استخراجه من الطّابونة بتناسق وانسجام. عمليّة لا تخلو من عناء نتيجة الحرارة التي مازالت لا تحتمل إضافة إلى حرارة الخبر المقتلع بحذر خوف الانفصال والانفصام فيروح تعب الأمّ هباء منثورا. وما أن تلقفت القرص من يد إلى يد تارة على أطراف الأصابع وتارة أخرى براحة الكفّ تفاديا الاكتواء، فتبدو وكأنّها تلاعب القرص كالدّف بين يدي ضاربه في طرب وانسجام. ثم تعيد المشهد قرص بعد قرص وبسرعة قبل احتراق القرص الأخير.
وبتودّد وأحاسيس مختلطة لا يعلمها إلاّ الله نتيجة تأثير الحرارة وارتفاع الضّغط لديها، تختار والدتي أحسن خبزة باستدارتها التّامة وبحرفها الهلالي وبريقها الذّهبي ثمّ تتقدم بفخر واعتزاز وكرم يغدق من محياها الذي مازال محمرّا تبسط إلى جدّي فجدّتي، فالحاضرين ليقتطع كلّ منهم ما بدا له من القرص. فكان الجانب الأحمر الهلالي يقضم دائما أوّلا. 
كبرت وكبر معي فضولي لمعرفة الأحاسيس الخفيّة والشهقات المكبوتة، فاقتربت من الطّابونة في أوجّ حرارتها وعالجت العجين مع غيض والدتي وانتهارها لي، ثمّ بيدي فعلت مثل أمّي في قعر الفرن الملتهب رغما عنها وألصقت القرص رغما عنه فكان معوجّا رغما عنّي. من حينها كم صرت أشتهي خبزا لم تكتو به والدتي ولم يحبس أنفاسها وكم صرت أحنّ لخبز أمي الذي حبس لعابي وجففت حلقي مرارته.
كلّما كبرت أكثر زاد اشتهائي لخبز أمي الذي كان يثير فيّ نكهة الماضي البعيد وأحاسيس الطّفولة. واليوم لمّا صرت كهلا على أبواب الشّيخوخة اكتشفت عند والدتي معنى التّضحية ومداها. وأيّ قيمة تستحق من صاحبها الموت إلاّ ما كانت أعزّ على النّفس من النّفس. واليوم، أيّ نوع من الجنون يدفع بصاحبه إلى الانتحار مساومة في نفسه؟ لا يشعل المرء النّار في جسمه إلاّ لسبب عظيم عظمة الموت. لم يتردّد على شفاه الأخصائيّين النفسانيّين إلاّ كلمة «كرامة». وعلى قدر شهامة هؤلاء المجانين الذين أخذهم الموت بل ارتموا في أحضانه فعزّ عليه حرمانهم من شرف التّضحية وتوّجهم بها، أجد حيرتي زادت أكثر، وكم أتمنّى العيش حتّى أفهم وخوفي أن لا أفهم كيف تدنّى منسوب الكرامة عند هؤلاء الأصحاء الذين لم يصابوا بالجنون. أنا الوحيد المجنون منذ أصبح طعم الماء عندي مرّا وطعم الفراولة أمرّ حين اكتشفت نوايا البعض يستأثرون لأنفسهم ما فوق الأرض وما ادخرت في أحشاءها من ماء يستسيغونه دون عناء وأشاروا لأبنائهم بماء البحر قد يحلو بقدر أوجاعهم. استثمرت والدتي في موتها المبكر واستثمر هؤلاء في موت فلذات أكبادهم فهل لهم حقيقة أكباد؟
ليتني أفهم قبل أن أموت. وكم اشتهي قبل الموت خبزا لم يكتوِ به أحد من قبلُ ولا من بعدُ .