في العمق

بقلم
محمد الصالح ضاوي
مقدّمة في إشكالية المرجعية عند دراسة الأساطير
 بمناسبة اهتمامنا بـ «أساطير الأولين» باعتباره مصطلحا قرآنيا متميزا عن غيره من المصطلحات، وذو بناء معرفي ومحمول عرفاني، فإن نظريّتنا الجديدة، التي نحن بصدد بلورتها، تدفعنا لنكون في الوسط، وعلى مسافة واحدة، من النظريات المعتمدة بمناهجها المختلفة. ولن نخضع لقوى الشدّ والجذب، لأننا تحت قهر قوّة أكبر، وهي: قوّة الوحي وسلطته.
ولنا عدّة تجاذبات مع المهتمّين بعلم الأساطير، ونختلف معهم في كمّ هائل من المفاهيم المسبّقة التي يبنون عليها استنتاجاتهم، ويقدّمونها على أساس: نتائج علميّة، وهي في الحقيقة، لا تعدو أن تكون، مجرّد استنتاجات ونظر فكري، لا غير، تماما مثل نتائجنا نحن. والفرق الوحيد بيننا أننا لا ننطلق من نفس قناعاتهم، ولا نتبنى نفس خيالاتهم، فلنا نحن خيالاتنا وقناعاتنا، وهي بنفس النضج، بل أكثر كمالا في بعض الأحيان.
وأكبر إشكالية تبرز بيننا هي إشكالية المرجعيّة: فالباحثون المعاصرون، تتنوّع دراساتهم للأساطير حسب المناهج المستخدمة، والأدوات التحليلية، إلا أنهم في النهاية يجمعهم افتقادهم لمرجعيّة معرفية تقوم مقام الموجه لأبحاثهم.  
سلطة القراءة والتأويل
ويعترف الباحثون في الميثولوجيا، أن النتائج التي أسفرت عنها دراساتهم، ضئيلة، وفي بدايتها، ويعتريها الاختلاف والتناقض والانتشار، وأنها نتائج غير مؤسسة لنظرية معرفية أو لمنهج معين. وهذا الاعتراف يقلق راحة الباحثين، ويجعلهم في شكّ دائم من نتائج أبحاثهم، وهو ما نلمسه في كتاباتهم. وهذا عامّ في الباحثين المحترمين لشروط مهنتهم التي وضعوها لأنفسهم، أما الباحثون المقلدون، فإنهم يتميزون بثقة ببغائيّة من حيث ترديد نظريات أسيادهم.
إن النسبية التي تتميّز بها أبحاث الميثولوجيا، ترجع في أساسها إلى وسائل وأدوات البحث المستعملة، والتي نطلق عليها: القراءة والتأويل، نظرا لقابليّة النصّ لكل قراءة ولكل تأويل. وهو ما يؤكّده الدكتور محمّد عجينة حيث يقول: « وذلك اعتبارا منا أن كل قراءة وكلّ تأويل، عمل نسبي.» (1). وللهروب من هذا الفخ المعرفي، ينهج الباحث طريقة أكثر حداثة، ومقبولة من جملة الدارسين..فيقول: «لذلك أولينا النصوص أهمّيّة أساسيّة، لأنها ثابتة، بعكس مذاهب التأويل، ونذكّر – وما بالعهد بالقدم – اهتمام الدارسين بالكاتب، ثمّ حلّت بعد ذلك سلطة النصّ فسلطة القراءة.» (2).
إن هذا الشاهد يبرز لنا أزمة الميثولوجيا في أدقّ تعبير، ومن ورائها أزمة الأدب عامّة، حيث يؤكّد أنّ الدّراسة، أيّة دراسة انتقلت من سلطة الكاتب إلى سلطة النّصّ إلى سلطة القراءة، أي سلطة القارئ. والقارئ يستمدّ سلطته من مرجعيّته المعرفيّة، وهذه المرجعيّة تتكوّن من مجموع معتقداته الثّابتة، عن الكون والإنسان والحياة....وهذه المعتقدات خليط من ترسّبات ثقافيّة (أساطير) ونتائج علميّة حديثة، وبما أنّ النّتائج العلميّة الحديثة متغيّرة وغير ثابتة، فالمرجعيّة إذن للأساطير المتحكّمة في القارئ، وهنا نصل إلى جوهر الأزمة القائمة: سلطة القراءة هي في النّهاية سلطة الأساطير، فتصير الأساطير موضوعا ومنهجا، نصّا وقراءة، وتصبح الأساطير منهجا لدراسة الأساطير، وهذه هي الحلقة المفرغة التي وجد الباحثون فيها أنفسهم يتحركون، وعجزوا عن تجاوزها.
فسلطة القراءة، ما هي في النّهاية إلاّ سلطة التّأويل المنحدر من سلطة الأساطير القارئة، المتسلّطة على الأساطير المقروءة. وتصبح الأساطير تقرأ نفسها، وتحلّل نفسها، وتبحث عن نفسها، في غياب واضح لأيّة مرجعيّة تخرجها عن الدّائرة المقفلة.
ولعلّ إطلاق النّسبيّة على هذه القراءة لا يجدي نفعا، لأنّه من المفروض أنّ النّسبيّة تعطينا جزءا من الحقيقة، أمّا «قراءة القراءة»، و»أساطير الأساطير»، فلا تعدو أن تنقلنا من «الأساطير» إلى «الأساطير»، في دائرة رتيبة ثابتة، لا مجال للحقيقة فيها.
بين الخيال والواقع
ويرجع السّبب الرّئيسي لهذه الأزمة: أزمة غياب المرجعيّة في الدّراسات الميثولوجيّة، إلى زاوية النّظر إلى الأساطير، سواء اعتبروها في مواجهة للواقع، أو اعتبروها عين الواقع والحقيقة.
فمن الباحثين من اعتبر أنّ الأساطير، من حيث خاصّية تعريفها، حكايات خياليّة غير واقعيّة، أبطالها الآلهة ونصف الآلهة، وهذا التّعريف يفتح على نفسه باب الأزمة من كونه مجبرا على تعريف الواقع، وتحديده وتمييزه عن الأساطير، وفي هذه المهمّة الصّعبة لن يستطيع الباحث الاستقلال المعرفي عن سلطة «أساطيره» وثقافته ومعتقداته، بل لا يستطيع التّملص من نتائج علم عصره، الذي يتطوّر ويتغيّر في نتائجه.
ونفس الموقف يقفه، كلّ باحث اعتبر الأساطير عين الواقع وعين الحقيقة، فهو مطالب بنفس النّتائج.
أمّا من أراد تجنّب الأزمة، بأن جعل بين الأساطير والواقع نسبا وسببا، دون أن يؤكّد على أنّها مخالفة للواقع أو متماهية معه، فلا يعدو أن يكون هذا الموقف، تأليفا للأزمة من وجهتيها، لأنّ تعريف «الواقع» و«الحقيقة» و«الخيال» واجب في هذا الظّرف. قال الدّكتور محمد عجينة في كتابة المذكور: «اتفق جلّ الدّارسين لأساطير مختلف المجالات الحضاريّة على أنّ الأساطير من نتاج الخيال البشري الخلاّق، فإنّهم يؤكّدون أنّها ليست مجرّد وهم وأنّ لها علاقة بالواقع أو «الحقيقة» (3).  
ويفهم من هذا، أنّ اعتبار الأساطير أباطيل وخرافة هو موقف معرفي وثقافي وعدائي للأساطير، وأّن اعتبارها نمطا تعبيريّا ونسقا تفكيريّا لا يعدو أن يكون موقفا معرفيّا أيضا، لكنّه يتأرجح بين طريقين: إمّا اعتبار الأساطير نمطا تعبيريّا يتنافى والواقع، وهذا حكم مسبّق على الأسطورة والواقع، وإمّا اعتبارها تعبيرا عن عين الواقع، وهو أيضا موقف يحمل حكما مسبّقا. وكلّ هذا يتنافى مع الموضوعيّة العلميّة التي يدّعيها الباحثون، والتي أجبروا أنفسهم على احترامها. قال الدكتور محمد عجينة: « لم تعد الأساطير أو «أساطير الأوّلين» و»الفكر الأسطوري» عبارات شنيعة تلصق بخطاب الغير تسفيها لصاحبه، وإنّما غدت نمطا من أنماط التّعبير والتّفكير جدير بكلّ عناية واهتمام»(4).
ويقول في موضع آخر عن الأساطير: « بل إنّها في نظر مبدعيها من الشّعوب والأقوام، عين الحقيقة. ولذلك، فإنّ «أساطير الأولين» هي دوما أساطير الآخرين، وقلّما تجد شعبا من الشّعوب يقرّ بأنّ أساطيره يمكن أن تدرج في باب الأساطير، ولذلك، فإنّها قد تندرج ضمن أبواب شتّى من كتب العقائد والملل والنّحل، بل وفي الكتب العلميّة أو شبه العلميّة من جغرافيّة وتاريخيّة وما إليها ممّا يتّصل بوعي الإنسان وإدراكه لمنزلته في الكون والمجتمع» (5).
فإذا كانت الأساطير في نظر مبدعيها عين الحقيقة، فبأيّ طريقة يمكن لنا دراستها وتحليلها؟؟ ألا يعني هذا أنّ لكلّ شعب حقيقته، ولكلّ حضارة حقيقتها، وأنّ الحقيقة متعدّدة، وأنّ هذه الفكرة تتنافي، على الأقلّ مع الفكر العلمي الكوني، ومع الفكر الدّيني أيضا؟؟.
يقول الدكتور عجيبة: « وهكذا يقترن بالأسطورة معنيان اثنان يتناقضان ظاهرا، لأنّهما يعبّران عن وجهتي نظر اثنتين من زاويتين مختلفتين: فالأساطير في نظر أصحابها الّذين ابتدعوها عين الحقيقة، أمّا في نظر سواهم فلا تؤخذ مأخذ الجدّ بل هي عين الوهم والباطل والمحال» (6).
أيّة مرجعيّة؟
إنّ هذه الفكرة: فكرة الحقيقة المتعدّدة، حملت الباحثين على اعتبار الأساطير نفسها مرجعا معرفيّا، وبما أنّ الشّخصنة شبه منعدمة في الأساطير، وبما أنّ الانحراف والتّشويه والتّزييف المعرفي في الأسطورة، لا يمكن نسبته لأشخاص معينين، بل هو تزييف جماعي حضاري، فإنّه مبرّر أكثر، لدى هؤلاء لاعتبار الأساطير مصدرا من مصادر المعرفة. قال الدكتور عجيبة: «وممّا يضاعف من قيم الأساطير مصدرا من مصادر المعرفة، أنّها ليست من صنع أفراد بأعيانهم، بل هي من المبدعات الجماعيّة. وتأسيسا على ذلك، فإنّ حظ التوصّل إلى رؤية شاملة متكاملة هو فيها أكثر ممّا في سواها من أنواع الخطاب. فضلا عن أنّها أقلّ عرضة للتّزييف والتّغيير من مبدعات الفكر والخيال التي تنسب إلى أشخاص بذواتهم» (7).
نحن نسأل منذ البداية عن مرجعيّة لدراسة الأساطير، مرجعيّة تسمح لنا بتناول الأساطير بالبحث والدّراسة، مرجعيّة ترشدنا وتوجّهنا في بحثنا، مرجعيّة تسهل علينا مهمّة البحث والتّفسير...لكنّنا وجدنا أنفسنــــا في مواجهـــــة مع الباحثيـــــن المعاصرين الّذين يرون أن الأساطير مصدر من مصادر المعرفة، بل هي المعرفة ذاتها في باطنهم، وفي المستور من ألفاظهم...وليتهم قالوا: الأساطير مصدر من مصادر العلم، لأحسنوا قــــولا، ولاتفقنا معهم، لأنّنا لا نفرّق بيــن الأساطير والوثائق الأخرى من نقوش وكتابات وصــور وغيرها، طالما تحمل معلومات عن الثّقافات والشّعوب، أمّا كونها مصدرا معرفيّا، فهذا يعني وضعها في مصاف المصادر الأخـــرى، وأنمــــاط المعرفـــة الأخرى: الفلسفة والدّين.
هذا الاختلاف تبرّره نشأة الفلسفــة في تصادم مع الأساطير، ووقــوف الوحي في صراع مع الأساطير، ولمّا كان الوحي، في نظرنا، له الأولويّة، معرفيّا وزمانيّا، فإنّنا نتّخذه مرجعا في دراستنا للأساطير.
ونحن على الأقل لا نخفي مرجعيّتنا، ولسنا مجبرين على تبريرها، بل نروم تقديم نتائج متماهية مع هذا الموقف، قد يتّفق معنا الآخرون، وقد يختلفون...لكنّنا لا ندخل تحت طائلة الأدلجة والنّفاق العلمي، ممارسين كلّ أنواع التّأويل «من الباطن» دون مرجعيّة، ومعتبرين ذلك من صميم العمل العلمي الأكاديمي...يقول الدكتور عجيبة: «..المنهج الدّاخلي- عنينا بذلك التّقطيع والتّحليل والتّأويل من الباطن- أو الخارجي ونعني به البحث المقارن» (8).ويقول: «..ماهية الأسطورة وسبل مقاربتها وتقطيعها وتحليلها وتأويلها» (9)
كيف يمكن إجراء عمليات التّقطيع والتّحليل والتّأويل دون مرجعيّة معرفيّة؟؟ وهل يجب علينا اعتبار المعتقدات الدّينية، أساطير قابلة للدّراسة والتّأويل وردّها إلى تفكير الإنسان الأول؟؟ وهل تتساوى الأساطير والوحي والفلسفة في كونها مصادر معرفيّة رغم كونها متناقضة المنشأ والوظيفة؟؟؟ ولماذا لا نقبل بمرجعيّة الوحي في دراسة الأساطير، فتكون عملية التّقطيع مرتبطة بتمفصلات النّص المدروس، المعبرة عن وحدات أساسيّة ترجع إلى مرجعيّة الوحي، وتكون عمليّة التّحليل مبيّنة لتراكمات وترسبات الانحراف والتّشويه والتّزييف للتّمفصلات المذكورة، ضمن دائرة الجمع، وجمع الجمع، ويكون التّأويل مرتكزا على سبب نشأة الانحراف عبر الزّمن، ووظيفته، ونقاط تقاطعه مع الوحي؟؟؟.
ألا يمكن دراسة الأساطير ضمن مرجعية إسلاميّة، تختلف عن دراسات مماثلة، مسيحيّة بالخصوص، تناولت نصوص العهد القديم؟؟ ألا يمكننا الاستقلال معرفيّا، عن مرجعيّة غربيّة، ومحاولة تقديم رؤية مغايرة لـ «أساطير الأولين»؟؟. 
جدليّة  الوحي والأسطورة
مازال في النّفس، شيء من القلق، بخصوص الدّراسات الميثولوجية التي تتناول العالم العربي، لأنّها تفتقد إلى الصّدق، رغم تظاهرها بالبراءة، ولأنّنا عندنا حساسيّة مفرطة لكلّ ما هو ديني، فهذه الدّراسات تشتكي من هيمنة الدّيني على «الأساطير العربيّة» وتعزو قلّتها إلى ظهور الدّين عليها. وفي هذا الاتجاه، يقول الدّكتور عجينة: « إنّ جهلنا بعالم العرب القدامى الأسطوري ـ كما قال أحد الباحثين ـ ما يزال كبيرا لأنّ جانبا من تراثنا الأسطوري قد ضاع في جملة ما ضاع، لأسباب عقائديّة لا تخفى، أو مازال موجودا إلاّ أنّه بين طبقات الأرض وبطون الرّمال دفينا محتجبا، أو في تراثنا المكتوب والمنقوش، أو لأنّه يلامس نصوصا تعتبر من المقدّسات، ولذلك فهو يدخل في جانب المسكوت عنه، رغم أنّه «لا حياء في العلم»(10).
إنّ هذا «الحرص العلمي» على أساطيرنا متولّد من نظرة عنصريّة كريهة لديننا الحنيف، ولكلّ أشكال الوحي عامّة، وهي نظرة تبنّاها أغلب العلماء منذ القرن التاسع عشر، في بيئة علمانيّة منافية لكلّ أشكال القداسة الكنسيّة، حتى غدا الإيمان خارج أسوار الكنيسة، وغدت الأساطير مصدرا معرفيّا لكلّ الماورائيّات، تتقدّم في الرّتبة على كلّ نصوص القداسة الغربيّة: العهدين القديم والجديد. وهذا ما جعل الدّكتور عجيبة ينقلها من مقام الرّمز والخيال والحلم، إلى مقام المعرفة والحقيقة والواقع، إلى ما وراء الواقع. يقول الدّكتور: «...وأن نعتبر ما لها من قيمة رمزيّة وما لها من صلة بالمخيال الجماعي والأحلام، ومن قيمة معرفيّة، وأنّها تعبّر بطريقتها الحدسيّة التّأليفية، عن حقائق بشريّة عميقة تتجاوز الواقع إلى ما وراءه» (11).
إنّ الحرص على جعل «الأساطير» حقائق بشريّة تعبّر عن الواقع وما وراء الواقع، يجعلها تلتهم الوحي والمعتقدات الدّينية التهاما، ثمّ تخرج لنا «برازا مقدّسا» يطالبنا الباحثون، بإمضائه والقبول به باعتباره دينا جديدا، اسمه: «الكون الأسطوري»، حسب تعبير الدكتور محمّد عجيبة، في كتابه المذكور سابقا، حيث يقرّر: « وارتأينا أن يشمل عملنا هذا نظريّا على وجهين اثنين كبيرين متكاملين: أحدهما وثائقي منهجي نستخرج فيه المتن-أي المادّة الأسطورية- من أمّهات الكتب والمعاجم العربيّة، ونعرضها عرضا أقرب ما يكون إلى الموضوعيّة، نتجنب فيه التّعسف والإسقاط كما ذكرنا سابقا. والثّاني تحليلي تأليفي نستفيد فيه من تحليل المادّة الأسطورية برمّتها ونعيد تركيبها، فنصل إلى الكلّيات عبر الجزئيّات ونبحث فيه عن الكون الأسطوري عند العرب وخصائصه.»(12).
إنّ تحليل الأساطير للوصول إلى كون أسطوري، مسألة، أُريد من خلالها، هدم مرجعيّة الوحي المقدّس، ووضع الإنسان في زاوية «الشّرك المقدّس»، لأنّ العمليّة ببساطة هي: انتقال من أساطير تمثّل مصدرا من مصادر المعرفة، إلى أساطير، تكوّن الكون الأسطوري، أي كون معرفي أسطوري، يستمدّ منه المعتقدات الدّينية، وبالتّالي يصبح دينا جديدا ملهما للإنسان العصري. ولك آلاف الأمثلة في استلهام الفنّانين والأدباء والمسرحيين والسّينمائيين والتّشكيليين، لكلّ هذا المنتج الكوني الأسطوري، عربيّا كان أو غير عربيّ.
لسنا ضدّ قراءة وتحليل الأساطير، ولكنّنا نؤكّد دائما على المرجعيّة، التي تكون منطلق الدّراسة، ومرشد الدّارس، وبها يتم توظيف النّتائج، وهذا يخرجنا من الدّائرة المغلقة التي يدور فيها أهل الميثولوجيا، ويحفظ حرمة الوحي المقدّس، أرقى أشكال المعرفة وأعلاها رتبة.
الكون الأسطوري
وقد تبدو الفكرة الأساسيّة لدى الباحثين، خاصّة البنيويين اللّسانيين منهم، مغرية إلى حدّ كبير، حيث يشيرون في دراساتهم، إلى أنّهم ينطلقون من «نصوص» أسطوريّة، لا يبحثون في ماهيتها، بل يتناولون بـ «التّقطيع» التّمفصلات، أو الوحدات أو التّشكلات، أو العناصر، ويبحثون عن قرينات لها لتشكيل بنى نظاميّة متّحدة، عند اجتماع مثيلاتها، تكوّن ما يسمّونه: «الكون الأسطوري». 
أي أنّ الوحدات الأسطوريّة تفهم داخل أنساق أكبر منها، هي الأسطورة، وهذه الأخيرة تدرس ضمن مجاميع للأسطورة، تكون كونا أسطوريا. قال الدكتور عجينة: «لا يكون لها أي معنى (الوحدات الأسطوريّة) إلاّ إذا اعتبرنا النّظام الّذي فيه تندرج، أي إذا ربطناها بقريناتها ضمن مجموعة أسطوريّة واحدة، تماما كما أنّ الوحدة الأسطوريّة – سواء أسميناها وحدات أو مفردات أسطوريّة، ميثمات أو غيرها – ليس لها من معنى إلاّ داخل وحدة أكبر منها هي الأسطورة. والمجموعة الأسطوريّة نفسها قد لا تجد معناها إلا ضمن وحدة أكبر منها. وهذا ما يتيح لنا نقلة منهجية هامّة، فبدل أن نهتمّ بـ «الأسطورة»، وما أكثر الاختلافات بشأن تحديدها، ننقل مجال اهتمامنا إلى «الأساطير» أو «الأسطوريات» أي مجاميع الأساطير، باعتبارها خطابا أسطوريّا كبيرا يضمّ في آن واحد أساطير بأتمّ معنى الكلمة، و«بنى الأسطورة» في خطابات قد لا تعدّ مبدئيّا من الأساطير، وآنذاك، يمكن ربط بعضها بسبب من بعض، واستخراج «الكون الأسطوري عند العرب»(13).
ولو واصل الدكتور سيره في التحليل النّظري، لوجد نفسه يتحدّث عن مجموع المجاميع، وكون الأكوان، أي الكون الأسطوري الإنساني ككلّ، وهذا ما يتّفق مع نظريتنا المستمدّة من قراءتنا للوحي، حيث جاء استعمال المصطلح، ضمن جمع الجمع، من ناحية، فقال القرآن: أساطير، ثمّ نسبها للأولين، أي للمجموعة الإنسانيّة الأولى، من ناحية ثانية، فقال: أساطير الأوّلين. وهذا الاسترسال يضع الأساطير في مواجهة مع لحظة الوحي الأولى، تماما كما في اللّحظات المتعاقبة، التي لا تعدو أن تكون تكرارا للوحي بصيغة معينة، أمام استنساخ مشوّه ومكرّر للأنماط والأنساق المعرفيّة المنتمية للكون الأسطوري العام، والّذي حمل جنسيّة الأمم المختلفة.
أمّا الوقوف عند «الكون الأسطوري العربي» فلا يخلو من تشكيك في النّوايا العلميّة والأخلاقيّة، سيّما ونحن نضع نقاط الاستفهام على ماهية التّأويل المتبع في البحث للوصول إلى هذا الكون. 
والتّأويل، عند هؤلاء الباحثين، نسبي وشخصي ومتعدّد، لا مرجعيّة له سوى ثقافة القارئ، «فليس للنّص في حدّ ذاته معنى في المطلق، وإنّما هو أداة لإنتاج معان تنشأ من العلاقات بين العناصر المكوّنة له. والمعنى، حاصل جهد وعمل ونتيجة تركيب وتأليف يقوم به قارئ في وضعيّة ما وله ثقافة ما وإحساس ما. ولذلك قد يكون للنّص من المعاني بقدر ما له من قرّاء وبقدر ما أودع فيه من طاقة رمزيّة وإيحائيّة ليست بالضّرورة ما أراد صاحبه وقصد إليه.
وإذن، فبدل القول بالمعنى الواحد صرنا نقول بتعدّد المعاني، وهو رأي يستند إلى موقف فلسفيّ من نسبيّة الحقيقة، ويصدق هذا أكثر على الأساطير، لأنّ الوحدات المكوّنة لها رموز تستند إلى وحدات لغويّة لها بعد دلالاتها المعجميّة ولها أيضا ديناميّتها الخاصّة وتطوّرها عبر التّاريخ نظرا إلى أنّها قد كانت تعبيرا عن تجارب وجوديّة سابقة متراكمة. ولذلك، قد يستدعي الرّمز والصّورة، بفعل تداعي الخواطر، معان عدّة جمّة وفي آن واحد لما نعلمه عن طبيعة الرّمز ومنطقه ووظيفته.» (14).
هكذا نتعرف على مرجعيّة الدكتور، ومن ورائه، الباحثون العرب وغيرهم، حيث نكتشف أنّها في النّهاية: «تداعي خواطر»، نتجت عن ترسّبات ثقافيّة للقارئ، وليس لهم حجّة في «طبيعة الرّمز ومنطقه ووظيفته» لأنّه مشترك بيننا. والفرق بيننا، أنّنا صرحنا بمرجعيتنا، وهم أخفوها وصادروها علنا، ليمارسوها خفية، وهذا يجعلنا في ريب ممّا يقولون، لأنّ التّاريخ علّمنا، أنّ هذه القراءات تهدف، فيما تهدف، إلى إلغاء شرعيّة الوحي والدّين من كلّ دراسة.
الهوامش
(1) محمّد عجينة، أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها - ص 11
(2) المصدر السابق - ص 11
(3) المصدر السابق - ص 9
(4) المصدر السابق - ص 6
(5) المصدر السابق - ص 9
(6) المصدر السابق - ص 19
(7) المصدر السابق - ص 10
(8) المصدر السابق - ص 12
(9) المصدر السابق - ص 11
(10) المصدر السابق - ص 10
(11) المصدر السابق - ص 10
(12) المصدر السابق - ص 12
(13) المصدر السابق - ص 112-113
(14) المصدر السابق - ص 114