في الصميم

بقلم
محمد الطرابلسي
أزمة المياه في البلاد التونسية
 مقدمة
منذ سنة 1999، بدأت الدّول تناقش مشاكل إدارة الموارد المائيّة من أجل صياغة استراتيجيات دوليّة لتعبئة هذا المورد الطّبيعي، وذلك من خلال مشروع أطلق عليه «الرؤية العالميّة للمياه». وقد تبنّت هذا المشروع «مؤسّسة المنتدى العالمي للمياه» التي أقامت مؤتمرين عالميّين للمياه في «لاهاي» الهولنديّة سنة 2000 و«بون» الألمانية سنة 2001. ومن أهمّ التّوصيات التي خرجت بها هذه المؤتمرات «تسعير المياه» وتشجيع الاستثمار في مجال معالجة المياه المستعملة. وبالرّغم من ذلك فإنّ العديد من الدّول ومنها تونس لا تزال تعاني من مشكل المياه وسوء إدارة هذه الموارد. وبالرّغم من أنّ القانون الدّولي لحقوق الإنسان يضمن حقّ الإنسان في الحصول على الماء، فإنّنا في تونس نفتقد إلى توزيع عادل للموارد المائيّة بين جميع الفئات. وقد ساهمت الظّروف الطّبيعية (الجفاف) في السّنوات الأخيرة مع سوء إدارة الموارد في استفحال أزمة المياه، الأمر الذي كانت له تداعيات على الاقتصاد والمجتمع والتّراب.
فماهي مظاهر وأسباب أزمة المياه في تونس؟ ماهي انعكاساتها الإقتصاديّة والإجتماعيّة والمجاليّة؟ وماهي طرق أو إمكانيّة معالجاتها؟ 
1 – مظاهر و أسباب أزمة المياه في تونس؟
(1-1) مظاهر الأزمة:
تعتبر ندرة المياه في تونس من أبرز مظاهر الأزمة، إذ تقدّر الموارد المائيّة المتاحة في البلاد بحوالي 4.5 مليار متر مكعب في السّنة، وهي كمّية تعتبر قليلة جدّا إذا قُورنت بالموارد المتوفّرة في بقيّة بلدان المغرب العربي على غرار المغرب والجزائر وليبيا.
وبالإعتماد على وزن ديمغرافي يساوي 12 مليون ساكن، فإنّ نصيب الفرد الواحد من المياه يكون 400 متر مكعّب/السّنة أي دون عتبة الفقر المائي المقدّرة بـ 1000 متر مكعّب للسّاكن/ السّنة. والأمر الأخطر من ذلك، هو أنّ نسبة التّعبئة قد بلغت 95 % من الموارد المتوفّرة بمعنى أنّها شبه معبأة كلّيّا. وإذا اعتمدنا صحّة هذه النسبة بالرغم من  تقديرنا أنّها تتضمّن بعض المغالطات، فإنّنا نحذّر من مشكل حقيقي للمياه في أفق 2050 وربّما تلجأ البلاد في وقت من الأوقات إلى استيراد الماء الذي يمثّل عنصرا أساسيّا لتحقيق الأمن الغذائي. وبداية من سنة 2030 ربّما تعرف البلاد عجزا مائيا حقيقيا في ظلّ غياب الإرادة السّياسيّة لمعالجة الوضع نظرا للتّزايد السّريع للطّلب مقابل نسبة تعبئة بلغت 95 % كما أشرنا.
وبالرّغم من توفّر النّصوص القانونيّة المنظّمة لقطاع المياه التي تعود جذورها إلى سنة 1885 والتي وقع جمعها تحت عنوان «مجلة المياه»، لا يزال سوء التّوزيع بين السّكان والجهات السّمة البارزة لهذه الموارد، فالفئات ذات الدّخل المرتفع هي أكثر الفئات استهلاكا للماء، إذ يصل استهلاك بعض العائلات الغنيّة من الماء إلى 200 لتر/اليوم في حين أنّ الحكومة لا تتحدّث عن سياسة ترشيد الاستهلاك والإقتصاد في الماء إلاّ مع الفئات ذات الدّخل المحدود. 
كمــــا أنّ «الشركة الوطنيـــة لاستغلال وتوزيع المياه» وهي الشّركـــة المتصرّفـــة في المــوارد المائيّــة في تونس تتميّز بضعف خدماتها، وتساهم من جانبهـــا في إهـــــدار الموارد المائيّـــة، إذ أنّه عندما يطلب منها التّدخل لمعالجة عطب في إحدى القنوات، تتأخّر في الاستجابة وهذا التّأخر ينتج عنه إهدار للموارد المائيّة على حساب احتياجات المواطن.
(1-2)أسباب أزمة المياه في تونس:
يمكــن القول أنّ أسباب أزمـــة المياه في تونـــس تتلخّـــص في مشاكل ناجمــــة عن زيادة الطّلب على المــــاء نتيجة الزّيادة السكّانيـــة وزيادة الطّلب على الغذاء وحدّة المنافسة بين القطاعات الاقتصاديّة على هذا المورد. وقد تدعّمت هذه الأزمة في ظلّ ضعف إدارة المياه وحمايتها وقلّة الاعتمادات الماليّة الضّرورية لتنمية الموارد المائيّة والبحث عن موارد جديدة. 
كما تفسّر أيضا العوامل الجغرافيّة وخاصّة المناخ مسألة شحّ المياه في البلاد، إذ أنّ تونس تقع في نطاق مناخيّ يهيمن عليه الطّابع شبه جاف باستثناء الأقاليم الشّمالية والشّمالية الغربيّة التي يفوق فيها معدل الأمطار 1000 مم/السّنة ويصل في بعض المناطق إلى 1500 مم/السّنة ( الخريطة عدد 1 ). كما يعرف هذا النطاق شبه الجافّ بطول فترة الجفاف من ناحية        وأهمّية الأمطار الإستثنائيّة في بعض المواسم.
وتقدّر كمّيات المياه المهدورة عن طريق السّيلان السّطحي والتّبخر بحوالي 19.7 مليار متر مكعب حسب التّقرير الذي أعدّته وزارة التّجهيز والتّهيئة التّرابية والتّنمية المستدامة سنة 2012 .
وعند التّعمق في أسباب أزمة المياه في تونس وفي العالم العربي عامّة، نلاحظ أنّ للبنك الدّولي دورا كبيرا في تعميق هذه الأزمة، فقد زاد الطّين بلّة ما طرحه البنك الدّولي من فكرة تسعير المياه، إذ وضع سعر لاستخدام المياه وغرامة لإهدارها أو تلويثها. وقد جاء هذا الطّرح من قبل البنك الدّولي إنطلاقا من توقّع استفحال أزمة المياه في العالم. وبالرّغم من منطقيّة الاقتراح، فإنّه يظلّ « قول حقّ أريد به باطل» بإعتبار أنّ البنك الدّولي يبرّر اقتراحه باحتمال نشوب حروب حول المياه في شمال إفريقيا نظرا لندرة هذا المورد الطبيعي ولكن في الواقع المشكل الحقيقي هو مشكل تعبئة للموارد ومشكل الإدارة والتصرّف فيه. فهذه المؤسّسة الدّولية في تقديرنا تصطاد في الماء العكر كما يقال لتظهر أمام الشّعوب الفقيرة بمظهر المنقذ من الأزمة. 
إنّ الأمر الذي يجب التّأكيد عليه بعد قرار البنك الدّولي المتعلّق بتسعير المياه، أنّ الماء ليس سلعة كبقيّة السّلع يجب تسعيرها، إذ أنّه لا يمكن المساواة بين الدّول الفقيرة والغنية في ذلك. وذلك لأنّه إذا كان لتسعير الماء بعد إقتصادي – كما يرى البنك الدّولي – فإنّ لتسعير المياه أيضا بعدا إجتماعيّا وأخلاقيّا، حيث لا يمكن ترك بعض المجتمعات أو بعض الطّبقات تموت أو تهلك حيواناتها وزراعتها لأنّها لا تستطيع دفع ثمن الماء اللاّزم لبقائها على قيد الحياة، كما أنّ عمليّة تسعير المياه تتعارض مع عادات وتقاليد سكّان الرّيف في تونس وفي جميع الدّول النّامية إذ تعوّد سكّان الرّيف على جلب الماء من البئر أو العين أو الوادي مجّانا بإعتباره موردا طبيعيا ملكا لجميع السكان. ويعتبر خضوع مصادر المياه في تونس لإدارة الجمعيّات المائيّة دليلا على تمرير سياسة البنك الدّولي التي لا تتماشى مع طبيعة السّكان في البلد. 
2 – الإنعكاسات الإقتصادية و الإجتماعية 
و المجالية لأزمة المياه:
(2-1) الإنعكاسات الإقتصادية:
لأزمة المياه انعكاسات مباشرة على الأمن الغذائي التّونسي في الحاضر وفي المستقبل، إذ أنّ ندرة المياه وسوء التّوزيع والتّصرف فيها يؤدّي حتما إلى اتّساع الفجوة الغذائيّة بين العرض والطّلب بالرّغم من توفّر قطاع فلاحي عصري يعتمد على الرّي والمكننة. وتضطرّ البلاد في هذه الحالة إلى تخصيص مبالغَ طائلة للإنفاق على الواردات الغذائيّة ممّا يخلق ضغوطات كبيرة على ميزان الدّفوعات.
وتطرح ندرة المياه جملة من الاشكاليّات أمام الحكومات المتعاقبة لعلّ أبرزها :
- تدهور الإنتاج الزّراعي وضعف مداخيل الفلاّحين، الأمر الذي أدّى في عديد الحالات إلى هجرة هؤلاء أو نزوحهم إلى المدن وعزوفهم عن النّشاط.
- بطء استخدام التّكنولوجيا في مجال الزّراعة بإعتبار أنّ التّقدم التّكنولوجي وطرق الرّي العصريّة تؤدي إلى توقّف هدر المياه وإلى الحصول على نتائج أفضل.
- صعوبة التّحكيم بين الأنشطة الاقتصاديّة في استخدام حصّتها من المياه وصعوبة التّحكم فيها بفعل حدّة المنافسة بين الصّناعة والفلاحة والسّياحة على الماء ( الجدول عدد 2 ) .
(2-2) الإنعكاسات الإجتماعية:
تتسبّب ندرة المياه خاصّة في فترات الجفاف عند تراجع منسوب المياه وجفاف السّدود والبحيرات في استفحال معاناة التّونسيّين بالمدن والأرياف بسبب الانقطاع المتواصل للمياه الصّالحة للشّرب.
وهذا الانقطاع المتواصل لمياه الشّرب تبرّره «الشركة الوطنية لإستغلال وتوزيع المياه» بضرورة اعتماد سياسة التّقسيط في الماء لمجابهة الطّلب المتزايد، وكان ذلك سببا في خلق الإحتقان الإجتماعي وانتشار الاحتجاجات. كما أنّ هذا الوضع الذي تعيشه المدن والأرياف بسبب القطع المتواصل للماء شمل أيضا الفلاّحين، فتزايد تذمّرهم من سياسة تقسيط وتسعير المياه لمعالجة مشكل انخفاض منسوب مياه السّدود والبحيرات خاصّة بأقاليم الشّمال والشّمال الغربي. 
فقد تراجع المخزون المائي إلى مستويات قياسيّة إلى درجة أنّ سدّ نبهانة بالقيروان جفّ بالكامل فيما شهدت السّدود الأخرى نفس الوضعيّة ممّا حدا بوزير الفلاحة بأن يصرّح بأنّ مخزون المياه لن يكفي إلاّ لشهر واحد في صورة تواصل انحباس الأمطار (هذا التصريح كان قبل الأمطار الإستثنائية التي عرفتها البلاد في أواخر شهر سبتمبر 2016 وبداية شهر أكتوبر).
ونظرا لعدم توفّر الحلول ذات جدوى على المدى القريب والمتوسّط والبعيد، فإنّ هذا الأمر سيؤدي إلى تزايد وتيرة الاحتجاجات الاجتماعية في مختلف جهات البلاد، وربّما يدفع عدم الاكتراث لهذه الأزمة السّكان إلى القيام « بثورة عطش». 
(2-3) الإنعكاسات المجالية:
ورثت البلاد التّونسية مجالا فلاحيّا يتميّز «بالتّخصص»: أقاليم الوســـط والسّاحــل متخصّصة في إنتـــاج الزّيتــون، أقاليــم الشّمــال الشّرقي والشّمال الغربي متخصّصة في إنتاج الكروم والحبوب وأقاليم الجنوب متخصّصة  في إنتاج التّمور(الخريطة عدد 2).
ولكن هذا المشهد التّقليدي شهد تحوّلات عميقة بفعل أزمة المياه. فنظرا لإرتفاع كلفة الإنتاج الفلاحي والنّقص الحادّ في مياه الرّي وسياسة التّقسيط في الماء نتيجة تراجع منسوب المياه السّطحية والجوفية وطول فترات الجفاف، يلتجأ العديد من الفلاّحين إلى بيع أراضيهم خاصّة تلك التي توجد بضواحي المدن الكبرى والمتوسّطة، الأمر الذي أدّى إلى تقسيمها إلى مقاسم معدّة للبناء، وهي مقاسم عشوائيّة لا تخضع لأيّ عمليّة تهيئة، وعمليّة بيعها تدرّ على أصحابها أموالا طائلة تتجاوز بكثير عائدات استغلالها الفلاحي المحتملة.
هذا الواقع الذي يبدو لدى الهياكل المعنيّة بسيط، ينذر بكارثة مجاليّة يفسّرها التّراجع الكبير في المساحات الزّراعية من ناحية وانتشار السّكن العشوائي من ناحيّة أخرى.
3 – كيف يمكن معالجة 
أزمة المياه في تونس ؟
تعتبر جهود الدّولة منذ الإستقلال إلى اليوم غير كافية لتلبية حاجيات السّكان والأنشطة الاقتصاديّة مـــــن الميـــاه، فالخطــط العشريّــــــة السّابقــــــة (الخطّة العشريّة 1990-2001 والخطّة العشريّة الثّانية 2002-2011) وما تضمّنته من مشاريع تتعلّق بتهيئة مصبّات الأودية ومنشآت فرش المياه وتغذية الموائد المائيّة وبحيرات وسدود جبليّة، لم يتحقّق منها سوى البعض، ومنذ اندلاع الثّورة توقّفت أشغال المشاريع المائيّة ولم يقع الحديث عن خطّة واضحة للإستثمار في المياه . فالمطلوب هو وضع خطّة وطنيّة لتعبئة مياه الأمطار الاستثنائيّة المهدورة في البحار وتتضمّن هذه الخطّة مشاريع لحماية المدن والقرى من الفيضانات.
كما يجب التفكير بجدية في إستغلال و تعبئة مياه الموائد الجوفية بالجنوب التونسي، إذ أنّ الدّراسات والبحوث أكدّت وجود خزّان باطني من المياه في جنوب البلاد يقدّر بنحو 60 مليار متر مكعّب تتوزّع على طول الشّريط الحدودي لتونس والجزائر وليبيا. وتعبئة هذه الموارد بإقامة منشآت كبرى ستمكّن من تحقيق الأمن المائي والغذائي التّونسي. ولتحقيق ذلك، لا بدّ من التّنسيق مع دول الجوار وإعداد سياسة مائيّة مشتركة لتنمية المجالات الصّحراوية.
الخاتمة:
يعتبر هذا المقال محاولة للوقوف عند أسباب وانعكاسات الأزمة المائيّة على الوضع الاقتصادي والاجتماعي للبلاد، للتّنبيه بأنّه آن الأوان لإعادة النّظر في سياستنا المائيّة حسب إستراتيجيّة جديدة تأخذ بعين الإعتبار المصلحة العامّة لكامل المجتمع التّونسي الحضري والرّيفي على حدّ السّواء، سياسة مائيّة عادلة تحترم الفئات الفقيرة والمتوسطة وتفرض على الأغنياء أساليب و طرق الإقتصاد في الماء.
المراجع:
(1) محمد علي وردم ( باتر) 2003 : العولمة ومستقبل الأرض، الأهلية للنشر والتوزيع، المملكة الأردنية، 437 ص.
(2) ستهم (حافظ) 2004 :الأرض والفلاح والسوق والمجتمع في المغرب العربي، مركز النشر الجامعي، تونس، 263 ص.
(3) وزارة التجهيز والتهيئة الترابية والتنمية المستدامة 2012 : التقرير الوطني حول وضعية البيئة لسنتي 2012 و2013 ، 292 ص .
(4) إحصائيات وزارة الفلاحة التونسية2015 .