زاوية نظر

بقلم
جيلاني العبدلّي
من الراديكاليّة السياسيّة إلى الواقعيّة السياسيّة

المتأمل في المشهد السياسي التونسي يمكنه ان يلاحظ بوضوح انتهاج عموم الأحزاب السياسية لأسلوب الراديكالية السياسيــة، وما يطغى على خطاباتها وسياساتها من طوباوية وسوداوية واستعجالية  وحرق للمراحل، وما يغلب على  سلوكها  من شيطنة للآخر وتعجيز  له من أجل إرباك أدائه وإفشال خططه، وبالتالي إقصائه من صدارة الركح السياسي.

ونظرا لما يخلفه هذا الأسلوب في العمل السياسي من صعوبات ومشاكل على طريق الإصلاح السياسي والازدهــــار الاجتماعـــي، فإن الأحزاب الراديكالية مدعوة إلى مراجعة رؤاها وخياراتها وأساليبها واعتماد مبدإ الواقعية السياسية التي تقدم المصلحة الوطنية على المصالح الضيقة، وتؤصّل للمشاركة والتعايش والتناوب في كنف الآليات الديمقراطية والضوابط القانونية.

 

الواقعيّة السياسيّة

 

تعني الواقعية السياسية أن يستند العمل السياسي إلى القراءة الموضوعيـــة للواقـــع ومعرفــــة مكوناتـــه وحقائقـــه وصعوباته وما يحتوي عليه من عوامل قوة وضعف والعمل على مقارنة الحلول المطروحة والمقاربات المختلفة واعتماد أيسرها تطبيقا وأكثرها إقناعا وفاعلية في تحقيق الأهداف المنشودة.

وهي إذ تعمل على تجسيد ما هو ممكن من الناحية العملية في الواقع بروح من التفـــاؤل والمبـــادرة والمشاركــــة والتدرج فإنها تنبذ من ناحية أولى المثالية والانهزامية والانفعالية والارتجالية والاستعجال والاستئصال والتعجيز والتعالي في التعاطي مع الواقع بمكوناته وتعقيداته.

وترفض من ناحية أخرى هدر الطاقة واستنزاف الإمكانيات وزراعة الأوهام وإلقاء الخطابات الحماسية وإطـــلاق الشعــــارات البراقـــة أو الخادعة بما لا يساعد على المساهمة الفعلية في تحسين الواقع أو تطويره أو تغييره.

 

الواقعية السياسية والمشاركة السياسية

 

تعد المشاركة السياسية ركنا أساسيا في الواقعية السياسية بما أنها تؤسس للانخراط الفاعل في الشأن العام عبر المنظمات والأحزاب والمؤسسات والهيئات الحكومية بهدف استثمار كل الإمكانيات المتاحة في الواقع للتأثير على القرار السياسي وتوجيهه توجيها حسنا بما يضمن الحقوق الأساسية للمواطن ويحول دون الالتفاف على إرادته ورغبته في العيش الكريم.

ولكي تحقق نجاحها المأمول تتسلح السياســـة الواقعيــــة بكثـــير من الوعي والتبصّر والزخم الفكري والفهم العميق للواقع بتنوعه وتشابكه من أجل بلورة سياساتها ورسم أهدافها وخططها وضبط مناوراتها وتحالفاتها على قاعدة تقديـــم المصلحــــة الوطنيـــــة على الأهواء الشخصية والمصالح الضيقة.

 وهي بهذا المعنى ترفض سياسة القطيعـــــة الثوريـــة والوقـــوف على الربوة وانتهاج أساليب التشكيك والتعجيز والتحريض.

 

 

المشاركة السياسية والمرونة السياسية

 

تنتهج الواقعية السياسية أسلوب المرونة السياسية فــــي التعاطــــي مع الواقع السياسي بمكوناته وتعقيداته خاصة عند انسداد الآفاق السياسية واضطراب الأوضاع الاجتماعية إذ تطلق المبادرات والتفاهمات وتقبل التنازلات بين الفرقاء السياسيين وفي علاقة بالطرف أو الأطراف الحاكمة بمــــا يغلّــــب المصلحـــة الوطنيـــــة على الأهواء والحسابات الضيقة  ويجنّب الوطن الاهتزازات والانتكاسات والمخاطر.

والمرونة السياسية ليست مطلوبـــة من طرف محدد أو فريق معين بل هي مطلوبة من جميع الحريصين على مناعة البلد وأمنه واستقراره وازدهاره.

 وهي بهذا المعنى لا تتخندق وراء المواقف الجامدة بل تتفادى هدر الطاقة في المعارك الجانبية والتصادم مع الواقع وتجتنب تغذية التشنج والاحتقان والانتقام بما يساعد على إيجاد البيئة المناسبة وخلق المناخ الملائم للتحاور والتفاهم والتعايش وهي إذ تتفاعل بإيجابية مع الواقع وتأخذ بالأسباب الممكنة لحل المشكلات الوطنية أو الحد من مضاعفاتها فإن ذلك لا يعني خضوعها لعوامل الإكراه وسياسة الاحتواء والتطويع والإخضاع.

 

الواقعية السياسية والتدرّجية السياسية

 

ترسم الواقعية السياسية أهدافا مرحلية تتدرج من خلالها نحو تجسيد أهداف استراتيجية وتنتهج خطوات دقيقة ومتوازنة على ضوء ما يتيحه الواقع من إمكانيات مناسبة وما يخلقه من عوامل مساعدة ذلك أن لكل مرحلة طبيعتهـــا ومهامهــــا وأولوياتهـــــا وقواها المتنافسة أو المتصارعة.

 فهي تقارب القضايا خطوة خطوة عبر سياســــة تدرجيــــة تعمل على مراكمة الانجازات وتعزيز المكتسبـــات التـــي يــــــؤدي بعضها إلى بعض في علاقة جدلية تستوعب التقدم وتجسم الهدف الاستراتيجي في إنجاز التغيير المنشود خلافا للمنحى الراديكـــــالي الذي يقصر أهدافه ونشاطه وجهده على التغيير الفجائي والجذري.

 

 

الواقعية السياسية والبراغماتية السياسية

 

تعتبر البراغماتية السياسية عنصرا مهما من عناصر الواقعية السياسية باعتبار تحررها من منظومات الأفكار المسبقة والمواقف الثابتة وعملها على الاستفادة من كل ما هو متــــــاح في الواقـــع من نظريات وأفكار سياسية واجتماعية وقيمية واعتمادها لطرق عملية ووسائل مجدية في صياغة حلولها للمشكلات الطارئة وبالتالي في تحقيق نتائج ملموسة تعود بالنفع على المواطنين والوطن.

إن البراغماتية تتبع الحلول الممكنة والمتاحة في تجسيد الإصلاح المتدرج ومراكمة المكتسبات ديدنها في ذلك التخفيف من معاناة الناس أو معالجتها في سياق التدرج بهم إلى واقع أفضل ينشدونه.

 وعلى ضوء طبيعة النتائج والمكتسبات المتحققة على الأرض تعزّز البراغماتية  أسلوبها وخريطة عملها في الفعل السياسي أو تضطر إلى مراجعتهما وتجديد هما.

 

الواقعية السياسية والنقد السياسي

 

مع تحليها بالمرونة والرصانة والبراغماتية وتبنيها للمشاركة واعتمادها للتدرج في العمل السياسي تتسلح الواقعية السياسية بالنقد السياسي الموضوعي الدائم باعتبار أهميته في تطوير النشاط البشري ودوره في تسليط الضوء على الأفكار والسلوكات وكشف وجوه الضعف والأخطاء والتجاوزات طلبا للتدارك والتصحيح والتحسين والإجادة.

 

فالنقد من وجهة نظر الواقعية السياسية يعد ضرورة لا غنى عنها لتطوير العمل السياسي بما يساعد على الانخراط الفاعل في تحقيق أحلام المواطنين في الحرية والديمقراطية والعدالة والتقدم والرفاه. وهو في الوقت نفسه يربأ بنفسه عن التحامل المغرض والاستهداف الفج للذوات أو الجهات مهما كانت المبررات السياسية والحسابات الشخصية ذلك أن تدمير الروح المعنوية والاعتبارية للآخر يربك مسار الإصلاح الوطني ولا يؤسس للتعايش السلمي.

 

الواقعية السياسية والإيديولوجية السياسية

 

لا تعبأ الواقعية السياسية بالأيديولوجيا السياسية من حيث المنطلق والمنهج، ففي الوقت الذي تنطلق الواقعية السياسية من الواقع المعيش وتحلل مكوناته وتعقيداته بكل موضوعية وترسم من خلال ذلك أهدافا دقيقة ووسائل عملية مجدية لإنجاز الإصلاح المنشود تنطلق الايديولوجيا على خلاف ذلك من منظومة فكرية ورمزية جاهزة مستندة إلى أسس ثابتة ومسلمات مطلقة فـــــي التعاطــــي مع الواقع والبحث في مشكلاته.

وبالإجمال الواقعية السياسية تبحث عن الحلول في الواقع وانطلاقا منه بينما تبحث الايديولوجيا عن الحلول في المنظومة الفكرية الجاهزة وانطلاقا منها.

 

الواقعية السياسية والانتهازية السياسية

 

مع تبنيها لمبدإ البراغماتية السياسية في العمل السياسي تنأى الواقعية السياسية بنفسها عن الانتهازية السياسية كظاهرة اجتماعية وسياسية خطرة تستبيح المبادئ والقيم الفاضلة وتشرّع كل الوسائل والطرق من أجل تحقيق أو حمايـــــة منافـــع ماديــــة أو معنوية خاصة ولو كان ذلك على حساب المصلحة الوطنية.

 وعلى خلاف الواقعية السياسية بالمعنى الذي بيناه لا تملك الانتهازية السياسية خطا سياسيا واضحا أو برنامجا محددا ويغلب على سلوك أتباعها النفاق والأنانية والجبن والخداع والمناورة والتناقض والتزلف والتقلب.

 

حزب الإصلاح والتنمية والواقعية السياسية

 

الواقعية السياسية هي الأرضية التي يقف عليها حزب الإصلاح والتنمية وهي فلسفته السياسية التي تؤطّر نشاطـــــه السياســــي. فقد انطلق كثير من رموز حزب الإصلاح والتنمية منذ مـــا يزيـــد عن ست سنوات في الاشتغال على هذه الرؤيـــــة  كخيـــار ثالـــث في العمل السياسي وبالتفاعل والنقاش والكتابة توصلوا إلى بلورة خطّة سياسية عصرية قوامها المشاركة والمرونة والتدرج والبراغماتية في تعاطيها مع مشكلات الواقع وتشابكاته  وفي عملها على تحقيق الإصلاح الهادئ والمتدرج.