قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
محنة متعددة الأوجه
 الإسلاميون عامّة وبعض الحركات الإسلاميّة خاصّة في مشكلة. لا ينكر هذا الأمر إلاّ مكابر. يتجلّى مأزق الإسلاميين في انسداد الأفق أمام بعض التّجارب كتجربة الإخوان المسلمين في الأردن، أو دخول بعض التّجارب الأخرى في محنة لا يعلم مداها إلا الله وحده، كتجربة الإخوان المسلمين في مصرأو في سوريا، كما يبدو جليّا أن تجربة «حركة النهضة» في تونس ليست في أزهى أحوالها وكذا تجارب أخرى سابقة أو راهنة. ليست الأزمة أو المحن كلّ الأمر، إذ هناك من يرى أنّ الإسلام السّياسي كلّه يمرّ بحالة احتضار وأنّ إعلان موته بات وشيكا، ولا يقتصر هذا التّوصيف على أعداء التّيار وخصومه، بل إنّ بعض أبنائه بات يؤكّد هذا الأمر بناء على معطيات من الفكر والممارسة خاصّة بعد فشل تجارب الحكم، بعضها أو كلّها.
ظلّ الإسلاميّون يرفعون لواء الإصلاح على مدى عقود من الزّمن بدأ بإصلاح المجتمع وصولا إلى إصلاح الدّولة الحائدين عن شرع الله ومنهاجه. ولم يكن كلّ الإسلاميين إلاّ متّفقين إلى زمن قريب حول الكثير من المقولات التي كانت تعتبر من المسلّمات كمقولة «الإسلام هو الحلّ» و«لا حلّ إلاّ بالرّجوع إلى الإسلام» و«الإسلام دين ودولة» و«إصلاح فساد الرّعية خير من إصلاح فساد الرّاعي». كما أنّهم كانوا شبه متّفقين على ضرورة السّعي نحو بلوغ مرحلة التّمكين التي يهيمنون فيها على المجتمع والدولة بشكل كامل وفاعل لكي يستطيعوا إقامة الدّولة العادلة على منهاج الدّين والشرع. 
ولئن كانت الحركات الإسلاميّة في الغالب حركات سلّمية إخوانيّة، إلاّ أنّ ذلك لم يشفع لها حيث اصطدمت كلّها بالأنظمة الحاكمة وظلّت تدفع ثمن هذا الصّدام باهضا محنة إثر أخرى. ولعلّ هذه المحن المتكرّرة هي التي كانت السّبب في مراجعة الكثير من المقولات المسلّمة والشّعارات التي بان جليّا انفصامها عن الواقع وتهافتها في كثير من الأحيان، ولكنّ المحن لم تكن وحدها السّبب في المراجعات وفي التّراجعات، بل إنّ أسبابا أخرى كثيرة دفعت بالإسلاميّين إلى إعادة النّظر في خطوط وأسس المشروع الإسلامي كما كانوا وما زالوا يسمّونه.
لم تكن أزمة الإسلاميّين فكريّة محضة ولا كانت منهجيّة محضة أيضا، إنّها مزيج معقّد من الاثنين. لقد ظهر جليّا لجميع الحركات تقريبا أنّ العمل السرّي وصناعة تنظيم محكم الإغلاق لن يجعلا منها إلاّ لقمة سائغة لأجهزة الأمن، تنقضّ عليها بمجرد اكتشاف خيوط أيّ تنظيم، كما أنّ الانغلاق التّنظيمي ليس إلاّ مقدّمة موضوعيّة لانغلاق فكريّ يزيدها عزلة داخل المجتمع ويزيد المجتمع خوفا منها. ليس هذا فحسب ، بل إنّ الأسس النّظريّة للمشروع الإسلامي كما صاغه «الإخوان المسلمون» والذي سارت على نهجه الحركات الإسلاميّة الأخرى لم يعد مقنعا لشباب الإسلاميّين من التّلاميذ والطّلاب   والعمال وغيرهم، وخاصّة مع موجة العولمة والتّحديث التي طرقت باب العالم الإسلامي. لم تعد مقولة «الإسلام هو الحل» إلاّ مقولة هلاميّة، كما أنّ عقليّة العمل السّري من أجل فتح باب التّمكين للحركة الإسلاميّة وقياداتها من أجل قيادة المجتمع والدّولة لم تعد ممكنة في مجتمعات وفدت عليها رياح أخرى ونشأت فيها تيّارات لا سبيل لإنكار وجودها وتأثير هذا الوجود فضلا عن إلغائها.
رياح العولمة كانت رياحا عاتية، ورغم الطّابع المحافظ للإسلاميّين عامّة إلاّ أنّ قوّة تأثير الرّياح كانت سببا في كثير من المراجعات. من لم يؤمن بالدّيمقراطيّة صار من أنصارها، ومن كان شموليّا اعتقادا منه بقدسيّة الإسلام وشموليته صار يؤمن بالآخر وحقّه في الاختلاف، ومن كان يقول بالتّمكين على فاعدة «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ» صار يؤمن بالتّداول السّلمي على السّلطة و بسلطة الشّعب والدّستور. 
رياح العولمة لم تكن وحدها في قوّة التّأثير، فقد كان الإسلاميّون يخوضون على الميدان معارك عاتية مع خصومهم من اليسار خاصّة. وقد كان لهذه المعارك وما حفّ بها وأعقبها من صراع فكري وميداني بالغ الأثر في مقولات الإسلام السياسي التي تأثّرت أيّما تأثر بالمنحى الإجتماعي والنقابي في مقولات اليسار وغير ذلك حتّى صار بعضها يوصف تشدّدا باليسار الإسلامي ثمّ تبنت معظم هذه الحركات مقولاته وزادت عليها.
إنّ محن الإسلاميّين ليست هيّنة، فقد دفع هؤلاء أثمانا باهضة على مدار العقود الماضية، محنة إثر أخرى، وحين هبّت رياح التّغيير وجاء الرّبيع العربي، كان الإسلاميّون على موعد مع محنة الحكم. فهل كان الحكم الذي طالما انتظروه نقمة عليهم؟
 اختارهم النّاس وأسقطتهم المؤامرات وشيء من الفشل وبات وجودهم على المحكّ مرّة أخرى، بعد سقوط الإخوان في مصر وإجبار حركة النهضة في تونس على التّنازل عن السّلطة ومحاولة الانقلاب على التّجربة التّركية. فهل يكون هذا السّقوط والترنّح مقدمة للاندثار أم أنّه سوف يكون مقدّمة لبعث جديد؟
ابتلي الإسلاميّون بالسّجن والمنفى والتّشكيك والتّحقير، وابتلوا بالمؤامرات ووُضعت أمامهم خطوط حمر لا يمكنهم تخطّيها وإلاّ كان ذلك سببا في خراب الأوطان، ولكن هذه المحن المتتالية لم تزدهم إلاّ قدرة على تكييف مقولاتهم وتنزيلها واقعيّا حتّى تكون قريبة من النّاس، هكذا يقولون . أما غيرهم فيرى أنّ تجربة «الإسلام السياسي» إلى أفول، فأيّ الفريقين أقرب إلى الصّدق والواقع؟
أيّا كان مقدار الموضوعيّة التي يدّعيها الباحث في مآل «الإسلام السياسي»، فإنّه لن يهتدي إلى بيان مفيد طالما أهمل أعظم المحن في حياة الأمّة المحمّدية عامّة والإسلاميّين خاصّة وهي محنة داعش ومن كان على شاكلتها من الجماعات التي لا يعلم إلاّ الله وحده منشأها وأهدافها ومقدار ما ستسبّبه لهذه الأمّة من دمار قبل أن تزول من الوجود. إنّ ما قتلته هذه الجماعة المريبة في السّنوات الأخيرة أو تسبّبت في قتله لا قبل لأحد بإحصائه، كما أنّ كل البناء الفكري الإصلاحي يكاد يسقط بسبب تعمّد الكثيرين دون تمحيص جعل الإسلاميّين جميعا في سلّة «داعش» وإليها ينتهون.