القرآن والسماء

بقلم
نبيل غربال
السماوات والأرض- 3
 يمثل هذا المقال الجزء الثالث والأخير لمحاولة قراءة علمية للآيات التّالية من سورة فصّلت «قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ۚ ذَٰلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (*) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ (*) ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (*) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ۚ وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» (1).
بدأنا في الجزء الأول (2) بتحديد معنى  لفظ يوم وبيّنا كيف أنّ معنى كلمة «يوم» والذي تحيل إليه الآيات الأربعة لا يمكن ضرورة أن يكون المعنى المرتبط بحدث أرضي أي بظاهرتي الشّروق والغروب باعتبار أنّ الأرض لم تكن موجودة أصلا حين تمّت عمليّة الخلق. أمّا المعنى المراد، حسب رأينا، والذي تسمح به معاجم اللّغة، يمكن أن يكون مرحلة زمنيّة وهذا يؤدّي إلى استنتاج مفاده أنّ الآيات تقول صراحة أنّ السّماوات والأرض خُلقت في ستّة مراحل وهو ما نجده في آيات قرآنيّة أخرى باعتبار أنّ القرآن لا يناقض نفسه  مثل قوله تعالى «وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ» (3).
ثم عرضنا التّصور العلمي الحديث عن نشأة الأرض الذي يقول أنّها لم تنشأ معزولة في الفضاء الكوني بل وُلدت في رحم سحابة كرويّة الشّكل في الأصل وعملاقة (سديم) تتشكّل من خليط من غاز الهيدروجين أساسا والهليوم بنسبة75 % و24 % على التوالي وجسيمات صلبة هي التي ستكون المعادن التي منها ستتشكّل الكواكب ومن بينها الأرض طبعا. وباعتبار أنّ الإنسان لم يكن شاهدَ عيان فقد استعان بالحواسيب العملاقة لكي يُعيد تاريخ تلك النّشأة، فأظهرت عمليّة المحاكاة السّديم البدائي يجري في الفضاء وقد تقلّص حجمه والتفّ كالدّوامة حول نفسه. ثمّ ومع تقدّم الزّمن واصل انهياره، مندفعة مادّته نحو المركز فازداد معدّل تدويمه وارتفعت حرارة مركزه إلى درجة كافية لكي يشتعل الهيدروجين فيما يشبه فرنا نوويّا حراريّا مكوّنا نجما في المركز أي الشّمس وذلك قبل 4.6 مليار سنة. أمّا المواد المتبقية فقد شكّلت قرصا يدور حول النّجم المولود الجديد. 
التحمت الذّرّات في البداية بتأثير الكهرباء لتكون جزيئات ثمّ دقائق صلبة. ثم وبفعل الجذب ألثقالي التحمت تلك الدّقائق وكوّنت حبيبات في حجم حبيبات الرّمل التي التحمت بدورها، ودائما بتأثير الثّقالة، وتحوّلت إلى قطع صخريّة أكبر فأكبر إلى أن تولّدت عن ذلك أعداد كبيرة من تجمّعات غير مصقولة من مواد صخريّة تمثّل ما يطلق عليه العلماء «الكواكب الدّقيقة». التحمت تلك الكويكبات ببعضها لتعطي الكواكب ومنها كوكب الأرض وذلك خلال عشرات الملايين من السّنين.
وفي الجزء الثاني أتممنا عرض أهمّ الأحداث التي مرّت بها الأرض منذ النّشأة إلى اليوم (4) وطرحنا السّؤال المنهجي التّالي:«هل هناك في الآيات موضوع البحث مفهوم يمكن أن يرشدنا إلى المراحل السّت التي تشير إليها؟، أي هل يمكن أن نستنتج من الآيات مفهوما نلتزم به كموجّه في محاولة تفاعلنا العلمي معها بعلاقة بمراحل الخلق؟ وذهبنا إلى الاعتقاد بأنّ الإجابة بنعم وأنّ المفهوم المرشد والذي من المحتمل أن يوجّهنا لتحديد تلك المراحل هو مفهوم «المعدن» أي الوحدة الأساسيّة التي تتكوّن منها صخور الأرض. لماذا؟ لأنّنا رأينا أنّ الآية العاشرة يمكن أن توحي بذلك إذ تقول بأن الله تعالى بارك في الأرض وتعطّف فضلا عن تلك البركة بتقدير الأقوات. فالمعادن، كما هو معلوم من العلم  بالضرورة، هي أساس السّلسلة الغذائيّة للأحياء ومن بينها الإنسان الذي هُيئت له السّماوات والأرض للاستخلاف. وعددها في صخور الأرض هو أكبر بكثير من عددها في صخور كواكب المجموعة الشّمسية الأخرى. فالأقوات أساسها المعادن وإن لم يكن من معاني «البركة» في الأرض هو كثرة معادنها وتنوّعها الهائل قياسا بالكواكب الأخرى، فأيّ المعاني الأخرى التي يمكن لها أن تستأثر بلفظ «البركة»؟  
وقد تناولنا في خاتمة المقال الثاني دور الماء في تنوّع معادن صخور الأرض وكثرة عددها.
مراحل الخلق
ننطلق في بداية تناولنا لمسالة مراحل الخلق من فرضيّة أنّ السّماوات والأرض المعنية في الآيات الأربعة من سورة فصّلت هي ما يسمى «المجموعة الشّمسية» بحدودها الجذبوية لاعتبارات أربعة : 
(1) تمثّل الحالة الدّخانية للسّماء أوّل مراحل الخلق، إذا تبنّينا أحد المعاني التي تؤدّيها «ثمّ» وهو «وفضلا عن ذلك» كما يرى الطاهر بن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير) من ناحية وما يقوله العلم الحديث فيما يتعلّق بأصل المجموعة الشّمسية من ناحية ثانية. 
فالعلماء يعرفون الآن أنّ الشّمس وكلّ ما يدور حولها (أي مجالها الجذبوي) قد وُلد قبل حوالي 4.65 مليار سنة من «سديم» مشكّل من الغبار والغاز يسمّى «السّديم الشّمسي». وتسمح اللّغة العربيّة بوصف ذلك الخليط البدائي من الغازات والأجسام الصّلبة عند حرارة معينة بالدّخان. فارتفاع حرارة ذلك الخليط كان مؤذّنا حقيقة ببداية عمليّة الخلق، إذ عندما بدء انهيار «السديم» على ذاته أخذت حرارته ترتفع بحكم تقلّص حجمه وأدّى ذلك إلى تحوّله إلى حالة دخانيّة وهي الحالة التي يمكن أن تكون تلك التي توجّهت إليها الإرادة الإلهيّة  لبداية خلق المجموعة الشّمسية. إنّ مراحل الخلق المذكورة في الآيات الأربعة من سورة فصّلت لا يمكن أن تتعلّق بخلق الكون الذي بدأ بما يسمّى «الانفجار العظيم» باعتبار أنّ المادّة التي انبثقت من الانفجار لا علاقة لها البتّة بمفهوم الدّخان الذي يقتضيه اللّسان العربي. 
(2) تناولنا في مقال سابق(5) موضوع الكون وعلاقته بلفظ السّماء في اللّغة العربيّة وأشرنا إلى أن الكون بالمفهوم العلمي هو منظومة جذبويّة، أي أنّ قوّة الجذب ألثقالي التي بفضلها نحافظ على بقائنا على الأرض مثلا هي التي تمسك بالبناء الكوني وتحافظ على هندسته وتحفظ كينونته بل وتحدّد مصيره. 
فالكون علميّا هو بالتّعريف كلّ ما هو موجود أي قابل للإدراك سواء بالحواسّ أو بالأدوات وهذا الكلّ تتحكّم في بنيته وحركته قوّة الجذب ألثّقالي. ونظرا إلى أنّ كلمة السّماء تعني في لسان العرب كلّ ما علا الأرض وإنّ العلوّ تحدّده الجاذبيّة الثّقالية، استنتجنا أنّ الكون أي كلّ ما هو موجود بالمفهوم العلمي هو كل ما يحيط بالأرض أي السّماء بالمعنى اللّغوي الأصيل. كما رأينا في نفس المقال أنّ لفظ السّماء من الألفاظ المحوريّة في القرآن الكريم وأنّه قد جاء بمعنيين : السّماء كإحدى السّماوات والسّماء لكلّ ما علا وأنّ لفظ السّماء أعمّ لأنّه يشمل السّماوات وكلّ ما علانا. فماذا يعني ذلك بعلاقة بموضوعنا في المقال أي «السّماوات والأرض»؟ 
إن «السّديم» الذي منه أتت السّماء والأرض يمكن اعتباره سماء باعتبار أنّه يشكّل منظومة جذبويّة تطوّرت تحت تأثير ثقالتها. 
(3) أما السّماوات السّبع فهي المنظومات الجذبويّة التي تتحدّد بكتل الأجرام الضّخمة التي تكوّنت حول الشّمس. فللشّمس منظومة جذبويّة تتمثّل في المجال الفضائي الذي حولها، وداخل تلك المنظومة منظومات متعدّدة يمكن أن تكون سبعة بمعنى عددها سبعة ويمكن أن تكون سبعة بمعنى كثيرة كما يسمح به اللّسان العربي. فللأرض سماء وللقمر سماء وسماء الأولى منطبقة على الثّانية. ولكوكب المشتري سماء ولأقماره كلّ واحد منها سماء وهي منطبقة على بعضها البعض وهكذا تنطبق تلك المنظومات (السّماوات) على بعضها البعض. فالسّماء سماوات طباقا بمعنى منطبقة على بعضها.
(4) لكن إذا تبنّينا مفهوم «السّماوات والأرض» باعتباره المجال الجذبوي للشّمس أي المجموعة الشّمسية بحدودها التي ترسمها كتلة الشّمس بأثرها ألثقالي، فماذا عن الشّموس الأخرى أي النّجوم التي يعجّ بها الفضاء؟
لقد سخّر الله للإنسان السّماوات والأرض كما جاء في العديد من آيات القرآن الأخرى. ويفهم من التّسخير ما تقوله اللّغة أي التّذليل بمعنى امتلاك الإنسان القدرة على التّفاعل معها بالإخضاع لما يمكنه من إتمام مهمة تعمير الأرض. والسؤال الملحّ هو كيف يمكن إخضاع عوالم النّجوم الأخرى وهي جزء من ماضي السّماء؟ 
إنّ أقرب النّجوم يوجد على بعد أربعة سنين ضوئيّة أي أنّنا نراه كما كان سنة 2012 ولا يمكن أن نعرف شيئا عن حقيقته الآن. وكلّ ما هو أبعد فأبعد هو بالضّرورة جزء أقدم فأقدم من ماضي السّماء، فكيف يمكن إذا تصوّر إخضاع ما وجد في الماضي وتذليله لنا الآن؟ كيف يمكن لما وجد في الماضي أن ينقاد أو أن يتهيّأ للإنسان على ما يريد؟  ألا يقودنا هذا إلى اعتبار «السماوات والأرض» المذكورة في آيات سورة فصّلت هي ما نطلق عليه اسم «المجموعة الشمسية»؟  
انطلاقا من هذه الاعتبارات وباتّخاذنا مفهوم المعدن كمرشد ممكن لتحديد ما يسمّيها القرآن أيّام الخلق، نقترح التّحديد التالي لتلك الأيام: 
* مرحلة السديم السابق للشمس.
* مرحلة الكويكبات واصطدامها وولادة المنظومة أرض- قمر.
* مرحلة انعدام الحقل المغنطيسي للأرض. 
* مرحلة ما بعد نشأة الحقل المغنطيسي. 
* مرحلة نشأة الجبال 
* مرحلة ما بعد التّركيز العالي للأكسجين في الغلاف الغازي للأرض. 
لقد توفّرت في كلّ مرحلة من تلك المراحل ظروف معينة لنشأة معادن جديدة وتركيز أكبر لأخرى كانت قليلة. ولا بدّ من الإشارة أنّ للماء دورا أساسيّا في تلك العمليّة أي نشأة وتنوّع المعادن وهو دور سنعود إليه في مقال آخر عند تناول أحد المفاهيم الممكنة للمصطلح القرآني «العرش». 
أ‌- المرحلة الأولى : تمثّل مرحلة السّديم السّابق لولادة الشّمس أول أيام الخلق في إطار التّصور الذي حدّدنا معالمه آنفا. وقد كان هناك حوالي 12 معدنا.
ب‌- المرحلة الثانية : بدأت المرحلة الثانية بولادة الشمس قبل حوالي 4.6 مليار سنة وانتهت بتكوّن المنظومة أرض - قمر. كان عدد المعادن قد ارتفع إلى حوالي مائتي معدن في تلك المرحلة بتأثير حرارة الشّمس من جهة و بتفاعل الصّخور المنصهرة بفعل التّصادم مع الماء. وقد أدّت عمليّة التّصادم إلى نشأة الأجرام التي تكوّن الآن المجموعة الشّمسية بالارتكام أي بتجمّعها مع بعضها البعض بالتّجاذب ألثقالي.
ت‌- المرحلة الثالثة :  تبدأ المرحلة باصطدام عظيم بين الأرض وكوكب المرّيخ (صاحب الحجم الصغير مقارنة بحجم الأرض)وذلك قبل 4.5 مليار سنة. بعد الاصطدام تكوّن القمر وبدأت الأرض في عمليّة تبريد وأدّى تعاقب التّصلب والانصهار لقشرة الأرض ومع وجود الماء إلى ظهور معادن جديدة.
ث‌- المرحلة الرابعة :  تكوّن الحقل المغنطيسي للأرض بعد الاصطدام بمائتي ألف سنة تقريبا. وبفضله أصبح بمقدور جزيئات الماء البقاء في الغلاف الغازي للأرض ممّا ساهم في مزيد تنوع المعادن. 
ج‌- المرحلة الخامسة : تبدأ هذه المرحلة بظهور آليّة تكتونيّة الصّفائح. تتمثل الآليّة في ولادة قشرة جديدة على طول سلسلة من البراكين وانتصاب الجبال ودخول قشرة الأرض في عمليّة دينامكيّة ممّا أدّى إلى تولّد مئات المعادن الجديدة (6).
في نهاية المرحلة الخامسة ارتفع عدد المعادن على سطح الأرض إلى 1500 معدن. يقدر العلماء إن بداية ظاهرة تكتونيّة الصّفائح أي تفكّك القشرة الصّخريّة إلى قطع متحرّكة يعود إلى 3.26 مليار سنة خلت.
ح‌- المرحلة السادسة : وهي مرحلة «الأكسدة العظيمة». ارتفعت قبل 2.2 مليار سنة نسبة أكسجين الجوّ ممّا أدّى إلى تحويل معدنيّة سطح الأرض بشكل نهائي وقد بيّنت النّمذجة التي قام بها أصحاب الاختصاص أنّ الأكسدة مهّدت لظهور أكثر من 2500 معدن جديد. 
تمثّل المرحلتان الأولى والثّانية تحوّل السّماء إلى سبع سماوات. أمّا المرحلتان  الثالثة والرّابعة فهي التي خلق سبحانه فيها الأرض، وفي تقديرنا فإنّ الأرض كجرم سيهيأ لاستقبال خليفة الله هو أوّلا عالم صخريّ وثانيا عالم محميّ من أثار الشّمس التي لا يمكن للحياة أن تتأقلم معها كما شاءت القدرة الإلهية. وقد جُعل الغلاف المغنطيسي للقيام بتلك المهمة. 
إن مسالة خلق السّماوات والأرض تبقى دائما من الغيب. فالله تعالى لم يُشهدها أحدا من خلقه. وتبقى المقاربة العلميّة أجدى الوسائل لاستكشافها والاقتراب أكثر فأكثر من حقيقتها. ومحاولة فهم الآيات القرآنية التي تتناول هذا الموضوع والمواضيع الأخرى التي تمثّل مادّة للبحث العلمي بالاستئناس بما توصّل إليه العلم والتّقيد بما تسمح به اللّغة، عمل يمكن أن يفتح أفاقا لتفاعل أكثر عمق مع القرآن ولم لا اكتشاف إشارات قرآنيّة موجّهة للبحث العلمي لمزيد من الجدوى في سعيه للوصول إلى حقيقة الظواهر.
الهوامش
(1) سورة فصّلت - من الآية 9 إلى الآية 12
(2) راجـع في ذلك مقالنا الصادر بالعدد 108 من مجلّة الإصلاح - جويليّة 2016 ، ص 54-57
(3) سورة ق - الآية 38
(4) راجـع في  ذلك مقالنا الصادر بالعدد 109 من مجلّة الإصلاح - أوت 2016، ص 50-53
(5)  مقالنا الصادر بالعدد 99 من مجلّة الإصلاح - 8/21 جانفي 2016، ص 36-40.
(6) أنظر مقالنا بالعدد 109 من مجلّة الإصلاح - أوت 2016، ص 50-53